أجل إن محاولة تحديق النظر في ضباب المستقبل والتنبؤ أمر ينطوي دائما على محاذير، ولكن يمكن القول مع ذلك أن من بين كل الكوارث الكامنة التي يمكن أن يتسبب بها الإنسان لا توجد واحدة يمكن أن تؤدي إلى دمار أكثر من الهجوم الأميركي الإسرائيلي على إيران. فهل هذا الهجوم يا ترى مرجح أم ممكن؟ من المؤسف أنه فعلا كذلك. فما زال الخيار الحربي في المواجهة الحالية مع إيران مسألة مطروحة على الطاولة. فسواء في أميركا أو في إسرائيل فإن المخططين العسكريين أنفسهم، وجماعات اللوبي السياسي والاستراتيجيين الذين دفعوا أميركا إلى مهاجمة العراق يضغطون من أجل الحرب ضد إيران - وللأسباب ذاتها. ويمكن تلخيص هذه الأسباب بإيجاز بالقول إنها الحاجة إلى السيطرة على موارد الشرق الأوسط النفطية وحرمان الخصوم المحتملين، كالصين، من هذه الموارد، والرغبة في البرهنة لأصدقاء أميركا وأعدائها على السواء على قدرتها على استخدام قوتها العسكرية في أنحاء الكرة الأرضية، وأخيرا وليس آخرا تصميم إسرائيل على الاحتفاظ بهيمنتها على كل من يتحداها إقليميا وخصوصا الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بتهوره واستفزازه. ولكي تكون الضربة الأميركية الإسرائيلية ضد إيران ناجحة وفعالة، فلن تكتفي بتدمير المنشآت النووية فحسب بل وتدمير قدرتها على الرد، أي القضاء على المجمعات العسكرية - الصناعية. ولا بد أن يكون نطاق التدمير شاملا بحيث تسلب إيران الرغبة في الرد والقدرة عليها. وهذا ما يمكن أن يستغرق أسابيع من الهجمات الجوية الصاروخية لأن اتساع البلاد وانتشار مرافقها الحربية يجعل إنجاز المهمة بالغ الصعوبة. ويبدو محتملا جدا أن تعمل إيران، إذا ما هوجمت، على توجيه ضربات بصورة أو بأخرى إلى الجيش الأميركي في العراق أو إلى إسرائيل وإلى قواعد أميركا وحلفائها في الخليج. وبين هذه الأهداف قد تكون الدول العربية في الخليج - الأكثر ازدهارا وحداثة وتطلعا إلى المستقبل في العالم العربي بأسره - هي الأكثر هشاشة والمعرضة للكوارث. فتأثير الحرب على مستقبل المجتمع العربي سيكون كبيرا وخطيرا وصعب التقدير. كذلك فإن آثار الحرب سوف تكون مدمرة بالنسبة للعلاقات العربية - الأميركية ولأمن إسرائيل على المدى البعيد، ولتدفق نفط الخليج وأسعار النفط واقتصاديات الدول الصناعية، ومزيد من التردي لسعر الدولار. ومع ذلك نجد أن أصواتا نافذة في أميركا تقول بأن السبيل الوحيد ل"كسب"الحرب في العراق هو تدمير إيران. هذا وينتظر أن يدلي الرئيس جورج بوش ببيان عن الاستراتيجية في الشرق الأوسط في مطلع العام الجديد، وكل الدلائل تشير إلى أنه سيرفض نصائح تقرير لجنة دراسة الوضع العراقي برئاسة جيمس بيكر ولي هاملتون بالدخول في حوار مع إيران وسورية ومنح الأولوية لحل النزاع العربي الإسرائيلي. ذلك أن بوش ينوي السير في الاتجاه المعاكس كإرسال المزيد من القوات إلى العراق وتشديد العقوبات على إيران وسورية، و"تعبئة"الدول العربية"المعتدلة"ضد الدول"المتطرفة"، وتسليح حكومة فؤاد السنيورة في لبنان ضد حزب الله وتسليح قوات فتح التابعة لمحمود عباس ضد حكومة حماس. أما في القرن الأفريقي فإن أميركا تمنح"دعمها الضمني"للحبشة في حربها ضد جماعة المحاكم الإسلامية في الصومال وذلك باسم"الحرب الشاملة على الإرهاب"السيئة الذكر التي تتابع خلق المزيد من"الإرهابيين"بدلا من القضاء عليهم. وفي العراق تغذي أميركا نيران الحرب الأهلية بدلا من تهدئة المشاعر وتعميم السلام في منطقة مضطربة، معرضة بذلك قواتها إلى المزيد من الأخطار، دافعة إيران وسورية إلى الاهتمام بدفاعاتهما، ومثيرة المزيد من الحدة في النزاعات في لبنان وفلسطين، وفتح"جبهة جديدة"في الصومال من شأنها أن تشكل خطرا على الاستقرار في جزء كبير من أفريقيا الشرقية. ولا يزال بوش وهو في قبضة عصبة المحافظين الجدد التي دمرت رئاسته بجنونها الحربي، ينظر إلى محوري طهران-دمشق وحزب الله-حماس كأعداء رئيسيين لا بد من مواجهتهم والقضاء عليهم. ولعل الخطر الحقيقي أن تقتنع الدول المعتدلة في الخليج في العام القادم، في خوفها من إيران والشيعة في لبنان ودول الخليج، بالوقوف إلى جانب أميركا ضد طهران. ولعلها تجد الحكمة في ضرورة بدء حوار شامل مع إيران يؤدي إلى عقد اتفاق حول المصالح المشتركة وربما إلى ميثاق أمني بين الدول المعنية من شأنه وحده أن يوفر الاستقرار في المنطقة دون تدخل دول خارجية. في هذه الأثناء، تتابع إسرائيل لعبة القط والفأر مع المجتمع الدولي مدعية أنها تقدم تنازلات لمحمود عباس كإزالة بعض المخافر والحواجز والإفراج عن جزء من الأموال الفلسطينية التي تحتجزها خلافا للقانون، في الوقت الذي تقيم مستوطنة جديدة غير شرعية في وادي الأردن وتسرع عملية استكمال بناء جدار الفصل المشين. ولعل الرسالة التي توجهها إسرائيل في كل ذلك هي أنها سوف تتابع نهب الأراضي في الضفة الغربية مهما قالت واشنطن أو سواها في ذلك. ولقد واجهت إسرائيل في حربها ضد لبنان في الصيف الماضي خيارا واضحا: فإما أن تتابع السعي للهيمنة على المنطقة بالقوة وتوسع أرضها على حساب الفلسطينيين، أو أن تعقد سلاما مع العالم العربي كله على أساس حدود 1967. وآثرت حكومة أولمرت الخيار الثاني حيث رفضت العرض السوري بفتح مفاوضات سلام لإعادة مرتفعات الجولان، كما أنها غير مستعدة لإنهاء احتلالها للتراب الفلسطيني أو السماح بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وهي تعيد تسلحها وتدريب قواتها استعدادا لخوض"جولة ثانية"مع حزب الله في لبنان، في حين تتابع في الوقت ذاته حرب الاستنزاف ضد حركة حماس، و هي مصممة على الحفاظ على احتكارها الإقليمي لأسلحة الدمار الشامل. ولقد أعلن عدد من المتنفذين الإسرائيليين بأنه إذا لم تقم أميركا بضرب المرافق النووية الإيرانية فسوف تتولى ذلك بنفسها. فإذا ما نظر المرء إلى أثر هذه السياسات الأميركية والإسرائيلية وجد بوضوح أن العام المقبل يرجح أن يكون عاما حارا في المنطقة. ولعل المشكلة الحقيقية هي الافتقار إلى زعامة عالمية. فليس هنالك من يملك قوة الرؤية لوضع حد لحالة الفوضى الدولية السائدة. فجورج بوش نزع شرعيته وزعزع الهيبة الأميركية بتهوره وأخطائه في حين أن فلاديمير بوتين تمكن من رفع اسم بلاده من جديد إلى الصف الأول من القوى الدولية، وإن كان تركيزه ما زال على تشديد قبضة روسيا على موارد النفط والغاز مع إبقاء الجيران في أوكرانياوروسيا البيضاء وجورجيا في الفلك الروسي. وأما الاتحاد الأوروبي فهو مثال رائع على توصل 27 دولة عن طريق اتفاقات مشتركة وقوانين جرى وضعها بعناية إلى توفير السلام والاستقرار والكثير من الازدهار لخمسمائة مليون إنسان. هذا وقد ذهب أعضاء الاتحاد في اتجاهات مختلفة: فرئيس الحكومة البريطانية توني بلير الذي همش بلاده بخضوعه العبودي لأميركا، سوف يترك الحكم في 2007. والرئيس الفرنسي جاك شيراك - وهو رجل صقلته التجارب وذو خبرة بشؤون الشرق الأوسط - سوف تنتهي ولايته في أيار مايو القادم دون أن يكون بين خليفتيه المحتملين من له خبرة بالشؤون الخارجية، وكلاهما ملتزم بسياسات خاطئة. فالمرشح اليميني نيقولا ساركوزي يريد إبقاء تركيا خارج الاتحاد الأوروبي - وهو خطأ ذو أبعاد استراتيجية - في حين التزمت سيغولين رويال بمنع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية حتى للأغراض المدنية. وساركوزي هو الأكثر خطورة لأنه سوف يتخلى عن سياسة شيراك المستقلة في الشؤون الدولية لينحاز إلى أميركا وإسرائيل. وأما في الشرق الأوسط فهنالك ثلاثة رجال يتحملون أعباء مسؤولية كبيرة في العام القادم. إنهم الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز والرئيس المصري حسني مبارك ورئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان، ثلاثتهم يواجهون ملفات معقدة، لكنهم إذا ما جمعوا مواردهم الضخمة ومارسوا مجتمعين نفوذا سياسيا فقد يستطيعون حماية المنطقة من بعض المحاذير والمخاطر والكوارث الكامنة في العام القادم. * كاتب بريطاني أخصائي في الشرق الأوسط.