لا يبدو الأمر ساراً عند النظر في حال الثقافة في دول الخليج، كمنظومة واحدة، الآن أو حتى في المستقبل. وما يحصل منذ سنوات في هذا الإطار يأتي مخيباً ولا يعبر عن أبسط طموحات مثقفي المنطقة. ويتضح من ذلك أن الثقافة، في ما تعنيه من تثقيف للعقل ورغبة في الخلود، عبر ممارسة أدوار حيوية ومراكمة منجز إنساني، يأخذ في الاعتبار متطلبات اللحظة الراهنة، تشهد غياباً شبه تام. ولا أحد يستطيع القول إن السبب في ذلك هو الافتقار إلى الأفكار الخلاقة أو غياب استراتيجيات، للنهوض بالشأن الثقافي في هذه البلدان. ففي منتصف الثمانينات الميلادية من القرن الفائت عقدت أكثر من ندوة، في الكويتوالرياض، وشاركت فيها نخبة من أبرز المثقفين الخليجيين، ونجمت عنها جملة من التوصيات، تبلورت في ما بعد إلى أن تكون خلاصة لخطة تنمية ثقافية صدرت عن أمانة مجلس التعاون الخليجي عام 1988، بقصد تحويلها واقعاً يلمسه المثقف في الخليج ويعيش نجاحاته، ومنها: تحويل واقع التجزئة الثقافية الراهن لدول مجلس التعاون إلى وحدة ثقافية متكاملة. وتنمية العطاء الحضاري قومياً وإنسانياً بوصف الثقافة عنصر التآخي ضمن الإقليم الواحد وعنصر التقارب والتعاون مع الحضارات الإنسانية الأخرى. وأيضاً هدفت هذه الخطة إلى التصدي لمحاولات الاستلاب الثقافي بتحصين المنطقة من طريق جعلها مجتمعاً فاعلاً ومنتجاً ثقافياً ومادياً. والوسيلة إلى تحقيق تلك الأهداف، كما طرحتها الخطة: دعم أنشطة أو فعاليات المؤسسات الثقافية في شكل يحقق التكامل مع خطط التنمية الشاملة. وتطوير النظم وتسهيل الإجراءات المعززة للتواصل الثقافي بين دول المجلس. وإنشاء المزيد من المرافق الثقافية أندية، مكتبات، مراكز تراث، مسارح، متاحف، معارض، قاعات، دور نشر وطباعة وتوزيع... وإقامة مراكز للدراسات والبحوث الثقافية المشتركة. وعقد اللقاءات وتبادل الزيارات بين المسؤولين عن الجوانب المختلفة للثقافة. وتسهيل تبادل الإنتاج الثقافي لمواطني دول المجلس. وإقامة المعارض الدورية الموحدة المتنقلة للنتاج الثقافي من كتاب ورسم وفيلم وغيرها. وتنظيم المهرجانات الثقافية الموحدة في الفنون والآداب والشعر، ووسائل الإبداع المختلفة التراثية منها والمعاصرة. والتنسيق بين الدول الأعضاء في ما يتصل بالمشاريع الثقافية الكبيرة في مجال النشر. وعلى رغم مرور نحو عشرين على منذ صدور الخطة الثقافية، إلا أن لا شيء فعلياً تحقق من تلك الأهداف، ولا يبدو أيضاً أن ذلك ممكن في المستقبل القريب. ويعقد مديرو الثقافة في الدول الخليجية، وبعضهم أدباء وكتاب، مثل الروائيين عبدالقادر عقيل البحرين وطالب الرفاعي الكويت، وانضم اليهما أخيراً الناقد عبدالعزيز السبيل السعودية، أي انهم مشتغلون بالأدب قبل أن يكونوا مسؤولين عن الثقافة، اجتماعات دورية في مدينة الرياض، مقر أمانة مجلس التعاون الخليجي، ويناقشون قضايا ثقافية يفترض أن تكون حيوية، وتهم مثقفي بلدانهم. وعلى رغم إيمانهم بهذه القضايا وأهميتها، فإنهم غالباً لا ينجحون في إحراز تقدم كبير في إقرارها، فالقرار يظل في يد وزراء الثقافة. وأضحت تلك الاجتماعات يحكمها الروتين الرسمي المتبع، أكثر ما يكون الدافع إليها الإيمان بأهميتها وضرورتها، من أجل تحقيق تنمية ثقافية. ولا يبالغ بعض المثقفين في هذا البلد الخليجي أو ذاك، عندما يعتقدون أن الشأن الثقافي والفكري، يأتي في ذيل قائمة اهتمامات دول المجلس، وكأن قضية الثقافة تختزل في الشعر والرواية والقصة، وليس باعتبارها هماً وطنياً وقومياً، من دون الاهتمام به ورعايته ستبدو كل هذه المدن الحديثة، في رأي مثقفين آخرين، كأنما شيدت فوق الرمل، أو على حافة هاوية. لكن في مقابل لا مبالاة صناع القرار إزاء رعاية الثقافة والاهتمام بها، يجهد المثقف الخليجي في إيصال صوته، سعياً إلى تأكيد فرادة ما ينجز في ظل بحث دؤوب عن هوية إبداعية وثقافية. واستطاع هذا المثقف أن يتخطى صراع المركز والهامش، وتحدي الصورة النمطية التي تختزله في كائن استهلاكي غارق في الملذات، لا همّ له ولا معاناة تدفعه إلى الإبداع، حتى انتزع الاعتراف بأصالة ثقافته وجدّتها، وأن الخليج ليس فقط عمارة حديثة وبنى تحتية متقدمة، إنما هناك إنسان يتطلع إلى أن يكون جديراً بتراثه وتاريخه الموغل في العمق. ولئن فشلت دول الخليج كمنظومة واحدة في التوصل إلى وحدة، تستوعب تنوع ثقافاتها وتعددها، فإن كل قطر خليجي نجح، على ما يبدو، في تبني خطط ثقافية، وتنفيذها في شكل حاز إعجاب المهتمين، وشجعهم على متابعة نتائجها. وإذا كانت الكويت صاحبة سبق في المجال الثقافي، من خلال مطبوعاتها المميزة وترجماتها المهمة، فإن البحرين أيضاً قدمت ثقافة برزت عبر أقنية مختلفة، ولحقت بهما الرياض وأبو ظبي والشارقة ومسقط والدوحة أخيراً. وأصبح لكل من هذه العواصم جوائزها الدولية، ومهرجاناتها السنوية الكبرى. على أن الأمر لا يخلو أحياناً من تنافس بين هذه العواصم، وهو تنافس كان سيشكل حافزاً على تقديم الخصوصيات الثقافية وترسيخها، وإبراز مثقفين جدد في هذه المنطقة، لولا أنه انصب في شكل رئيس على استقطاب الرموز العربية وبعض مشاهير الثقافة والفن في العالم، كأنما بحثاً عن الاعتراف أو الشرعية، الأمر الذي جعل من هذه المهرجانات ما يشبه سوقاً سوداء، تُدفع فيها"أسعار"مبالغ فيها لأسماء انتهت صلاحيتها، فبعض هؤلاء يرتجل مشاركاته ارتجالاً أو يكتبها على عجل في المطارات، في شبه تجاهل لمن يمكن أن يضفوا حيوية وتنوعاً من مثقفي الخليج، الذين لا يدعون إلا بعد أن يكون صيتهم ذاع عربياً. فمن المعروف أن التواصل بين المثقفين الخليجيين في إطار من الاتفاقات الثقافية، يكاد يكون معدوماً، ولعلهم يلتقون في مهرجانات عربية أكثر مما تجمعهم ندوة أو مؤتمر أدبي خليجي. وإذا كان السجال بين المحافظين والحداثيين حول بعض قضايا الثقافة يكاد لا يذكر، في غالبية الأقطار الخليجية، التي تتميز بوجود مناخ يساعد على ازدهار الثقافة والانفتاح على تجلياتها الجديدة، فإن الأمر يختلف في السعودية التي يعاني مثقفوها الطليعيون، من المواقف المتشددة حيال كل ما هو حديث. وفي ضوء ذلك تبدو الرياض، بحسب بعض مثقفيها، غير قادرة على مجاراة بعض نظيراتها داخل مجلس التعاون الخليجي على الصعيد الثقافي، ليس لعجز ولا لافتقاد الإمكانات،"لكن لأسباب تتعلق بعدم توافر المناخ والبيئة الملائمين للنمو الثقافي، من دون هيمنة لتيار على آخر، أو سطوة اتجاه على ما سواه". وهو أمر يردده المثقفون السعوديون في نوع من المرارة، فالطاقات الإبداعية والثقافية التي تزخر بها السعودية، وتعد اليوم أساسية في المشهد الثقافي العربي، لا تجد هامشاً كافياً للتعبير عما لديها من أفكار. أخيراً بين مثقف لا يزال يتطلع إلى قرار سياسي، يقوم بتفعيل خطة التنمية الثقافية في دول الخليج، باتجاه وحدة ثقافية، وبين مثقف آخر يئس تماماً من أي بادرة رسمية تصب في هذا الاتجاه، وعوضاً عن ذلك راح ينحت اسمه ومنجزه في فضاء الثقافة العربية الواسع، يبقى مستقبل الثقافة في الخليج مرهوناً بالمبادرة الفردية، وما يقدمه كل قطر على حدة.