جغرافية إسبانيا وطبيعة سكانها ومرونة قوانينها ودماثة أو حتى ضعف خبرة القائمين على الأمن فيها في مجال الجهاديين، عوامل ساهمت في جعل البلاد ممراً للمتطرفين الإسلاميين إلى بقية أوروبا، أو مركزاً لتشكيل خلايا ذات مهمات مختلفة لا تقتصر على الدعم التمويلي بل تتعداه إلى اللوجيستي، ممتدة ما بين إسبانيا وإيطاليا وصولاً إلى أفغانستان مروراً بالعراق، إضافة إلى الإعداد لعمليات إرهابية يتقرر مكان تنفيذها وتاريخها وبعد مراجعة الأحداث السياسية والتأكد من سهولة التحرك والاتصال بين أعضاء الخلايا. وتميزت سنة 2006 باعتقالات مهمة في صفوف المتطرفين، بحسب وصف السلطات الأمنية . كما شهد إنهاء التحقيق وإصدار القرار الظني بإحدى أكبر العمليات الإجرامية التي شهدتها إسبانيا عندما فجر إرهابيون قطارات كانت تنقل العمال والطلاب والموظفين في ذروة الصباح منذ نحو سنتين وتسعة أشهر. فالشرطة تقوم بما عليها والإرهابيون يتصرفون بحسب إمكاناتهم ولو اضطروا إلى توريط أهلهم وجيرانهم. بدأت 2006 أيامها العشرة باعتقال مجموعة"جهادية"قوامها 20 شخصاً في مقاطعات كاتالونيا شرق وبلاد الباسك شمال ومدريد. وكشف الإسبان أن امتداد"تحالفات"الخلايا المفككة في إسبانيا خصوصاً بين المغاربيين وصلت إلى فرنسا وبلجيكا وألمانيا والمملكة المتحدة والدنمارك وهولندا والجزائر والمغرب وتركيا وسورية والعراق. وطاولت الاعتقالات في معظم الأحيان أعداداً كبيرة دفعة واحدة، فيما حصلت عمليات إطلاق السراح ب"التقسيط". لكن قسماً بسيطاً من المعتقلين تمكنت السلطات القضائية من توجيه اتهامات جدية تتيح ايداعهم السجن. ولا يعني ذلك أن السلطات الأمنية تتجنّى على"مواطنين مساكين"، لكن عدم خبرة الإسبان في هذا النوع من الخلايا بما فيها من أشخاص"يعيشون بشكل طبيعي"بين السكان، ويوصفون بأنهم مهذبون ولائقون مثل أكثرية المهاجرين الأجانب في إسبانيا، بعضهم يحمل الجنسية الإسبانية، إضافة إلى أن بعض الذين انخرطوا في صفوف"القاعدة"نصبوا أنفسهم"دعاة"واستغلوا أحياناً بعض الشباب"لغسل دماغهم". وطاولت الاعتقالات هذه السنة عدداً من الآسيويين خصوصاً الباكستانيين الذين يقومون على ما يبدو بمهمات جمع الأموال ومساعدة"المجموعات المغاربية"على تزوير بطاقات الائتمان والوثائق الشخصية لإرسال انتحاريين إلى العراق. كما اعتقلت مجموعات كانت تجند الشباب. لكن أهم هذه الاعتقالات حصلت في الشهور الأخيرة من السنة في صفوف الشرطة الإسبانية. فهاجس تفجيرات مدريد يسيطر على كل رجل أمن. وتم تفكيك شبكة لم يتحدد بعد عدد أعضائها بينها مخبر كانت في حوزته متفجرات"غوما 2"النوع ذاته الذي فجر القطارات. واعتقل أربعة رجال شرطة في مدريد وثلاثة مدنيين بتهمة تهريب المتفجرات وتجارة المخدرات وكشف أسرار مهنية، في أوائل الشهر الجاري. قاد ذلك إلى استجوابات في صفوف الشرطة. وعلى رغم أن القاضي ديل أولمو الذي حقق بتفجيرات مدريد ووضع القرار الظني فيها، أمر بهذه الاعتقالات، فإنه سارع إلى القول إن لا علاقة لهؤلاء بتلك التي حصلت في مدريد عام 2004. عملية مدريد الإجرامية شكلت منعطفاً تاريخياً في إسبانيا، وأصبح هناك مرحلة ما قبل الحادي عشر من آذار مارس 2004 وما بعده. ولم تعد الشرطة الإسبانية تثق بالمجموعات المتطرفة التي كانت تظن بأنها مسالمة، وأصبحت أكثر تحسساً للخطر الذي تواجهه بخاصة أنها تتلقى تقارير غير مطمئنة من أجهزة الاستخبارات، يشير بعضها إلى تزايد عدد الجهاديين ونشاطهم في إسبانيا. وكانت الشرطة تلقت معلومات حول إمكان تورط"التونسي"وجمال زوغام بتفجيرات الدار البيضاء 16/5/2003 قبل شهر من اعتداءات مدريد، وقبل أربعة أشهر كانت حذرت من احتمال قيام"مجموعة من الإسلاميين"بعملية كبيرة في مدريد إضافة إلى عدد كبير من الأخطاء والهفوات الأمنية التي لا يمكن تفسيرها والتي وضعت علامات استفهام كبيرة حول هذه الاعتداءات ودفعت بعض الصحف الإسبانية إلى القول:"لن نتمكن من معرفة حقيقة ما جرى في الحادي عشر من آذار". فمنذ ذلك التاريخ تم اعتقال 200 شخص. كما شهد عام 2006 إعادة نظر المحكمة العليا بإدانات عماد الدين بركات أبو دحدح الذي تعتبره زعيم القاعدة في إسبانيا ورفاقه. فقامت بخفض عقوباتهم من 27 أو 8 أو 6 سنوات إلى 12 أو 3 أو التبرئة الكاملة لبعضهم بعد أن كان طلب لهم الادعاء العام مئات آلاف السنوات سجناً. وكذلك صدر القرار الظني بتفجيرات مدريد وسط جدل واسع بين الأحزاب السياسية حول إمكان وجود علاقة بين منفذي الجريمة من المتطرفين الإسلاميين ومنظمة"ايتا"إضافة إلى الدور الذي لعبه مخبر للشرطة من أصل مغاربي في تهريب المتفجرات وعدم وضوح أدوار 29 متهماً بينهم"التونسي"و"الصيني"وجمال زوغام وغيرهم من أعضاء مجموعة تضم أيضا السوري والمصري والجزائري واللبناني والصربي، تعاونوا في تنفيذ إحدى أهم جرائم العصر في بلد يعيشون ويعملون ويتعلمون فيه. سيحاكم هؤلاء في الربيع المقبل حيث تطلب لهم النيابة العامة نحو270 ألف سنة سجناً. وأصبحت السلطات الإسبانية مقتنعة بأن"القاعدة"كلفت الجماعة السلفية للدعوة والقتال لتمثيلها وإنشاء بنية تحتية للإرهاب ما بين إسبانيا والمغرب ذات امتداد أوروبي. وأكد وزير الداخلية المغربي شكيب بن موسى أخيراً أن عدة خلايا بين السبع التي فككتها بلاده هذه السنة مرتبطة بمجموعات أجنبية مثل"القاعدة"و"الجماعة"الجزائرية. فإسبانيا التي تنادي بحوار الحضارات وتحالف الثقافات يسود أجهزتها القلق وربما الإحباط خصوصاً بعد أن كشفت مكالمة بين ثلاثة جنود في جيشها ولدوا وتربوا مثل آبائهم في مجتمعها عندما سألوا"علاّمة"كان على إحدى الفضائيات العربية:"هل تسمح لنا ديانتنا بأن نخدم في جيش الكفار؟..."