يبحث كتاب "مصر بعيون الفرنسيس" الصادر حديثاً عن الدار العربية للعلوم - ناشرون 2006 للكاتب فيصل جلول، في آليات أو طرق تكوين الثقافة السياسية في العالم العربي انطلاقاً من مصر التي شكلت خلال القرون الثلاثة الماضية قطباً جاذباً للعالم العربي قبل أن تكبلها اتفاقات كامب ديفيد. ينطوي الكتاب على قسمين كبيرين: الأول يبحث في عناصر الخضوع والممانعة في الثقافة العربية إنطلاقاً من المركز المصري واستناداً إلى مقولة تفيد بأن الأصل في تخلف العرب وتقدم غيرهم يكمن في الثقافة السياسية. أما القسم الثاني، فيضم نصوصاً مترجمة عن الفرنسية تبدأ من حملة نابليون بونابرت على مصر وتنتهي بالسؤال عن مصير الناصرية. احتلت مصر في القرن الثامن عشر موقعاً استراتيجياً على خطوط التجارة العالمية المنبثقة عن الثورة الصناعية في أوروبا. وازداد الموقع الإستراتيجي المصري أهمية في القرن التاسع عشر مع إنشاء قناة السويس التي اختصرت طرق المواصلات التجارية وسهلت استعمار أفريقيا والشرق الأوسط. لكن مصر الجمهورية لعبت بعد ذلك دوراً أساسياً في النصف الثاني من القرن العشرين عبر مساهمتها في تحرير المناطق المستعمرة في العالم العربي وإفريقيا، وتالياً في القضاء على الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، وشكلت سداً قوياً أمام استكمال المشروع الصهيوني النازع الى إقامة إسرائيل الكبرى بعد تأسيس إسرائيل الصغرى. في هذه السيرورة تحولت مصر وبصورة تدريجية إلى مركز لإعداد النخب العربية والإسلامية التي كانت تتأهل في الأزهر والجامعات المصرية أو المراكز التربوية الغربية التابعة للبعثات التبشيرية والمؤسسات الغربية التي انتشرت في المشرق العربي على نطاق واسع في القرن التاسع عشر، مستفيدة من ضعف السلطنة العثمانية العاجزة عن الرد على تحديات النهضة الأوروبية. ومن هذا الموقع حلت القاهرة بالنسبة الى العرب وقسم كبير من المسلمين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، محل بغداد ودمشق اللتين تحولتا عاصمتين مهمشتين في ظل السيطرة التركية. وإذ تشهد مصر اليوم سياسة خارجية عموماً وعربية خصوصاً، محكومة باتفاقها الإستراتيجي مع إسرائيل والولايات المتحدة الذي تم توقيعه في عهد الرئيس أنور السادات، فإنها بالتالي تشهد انحساراً على كل صعيد وقوقعة تترافق مع صدور دعوات فرعونية وأخرى تتنصل من تاريخ عربي إسلامي طويل ونزعة"مصروية"ضئيلة لا تتناسب قطعاً مع الموقع والحجم والمصالح في هذا البلد ومع تاريخه وحاضره ومستقبله. إذا كان صحيحاً أن التقوقع المصري ناجم عن ميزان قوى دولي وإقليمي قاهر للعرب وكابح لطموحاتهم وملائم لأعدائهم وبخاصة للكيان الصهيوني، فالصحيح أيضاً أنه يعبر عن تراكم ثقافة سياسية تنطوي منذ حملة نابليون بونابرت على عناصر خضوع تجمعت على مر السنين وأصبحت راسخة في اللاوعي المصري والعربي مقابل عناصر ممانعة جدية ما برحت تظهر في صفوف قسم وافر من النخب السياسية والأدبية، والشطر الأكبر من الرأي العام منذ الحملة نفسها. والثابت أن شعوراً بالإحباط إزاء الانحسار المصري ما انفك يسود العالم العربي منذ قرن لم تفلح خلاله بغداد ودمشق البعثية أو طرابلس الغرب القذافية أو بيروت العرفاتية في السبعينات وأوائل الثمانينات، أو الجزائر البومدينية في تعويض الدور المصري أو خلافته منفردة ومجتمعة، ما أدى إلى أن يفتقر العرب وما زالوا يفتقرون إلى مركز تدور حوله حركتهم السياسية ويتحدد من خلاله مستقبلهم السياسي. ومعنى ذلك أن الثقافة السياسية السائدة في هذا البلد، عدا عن كونها مسألة مصرية، هي عربية في الصميم. ليس مصدر الخضوع في الثقافة السياسية العربية راهناً أو حديث العهد، إنه ممتد في تاريخنا خلال الألفية الثانية، الأمر الذي يستوجب بعض الإحاطة والتظهير. ففي العام 1930 تلقى العلاّمة النهضوي محمد رشيد رضا رسالة يقترح صاحبها أن يرد النهضوي أيضاً شكيب أرسلان في مجلة"المنار"على سؤال مصيري: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ مختصر الرد الأرسلاني أن المسلمين تقدموا بواسطة الإسلام وتخلفوا عندما أهملوا واسطة تقدمهم. هذا الإهمال ماثل في وجوه عدة منها أن الكثير من نخب المسلمين وحداثييهم بخاصة كانوا وما زالوا يعتبرون التخلي عن الإسلام شرطاً للتقدم. ولدحض هذا الحكم يبرهن الأمير الدرزي اللبناني على أن كل المتقدمين في الغرب لم يتخلوا قيد أنملة عن أديانهم ومعتقداتهم التي شكلت خلفية لهذا التقدم. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تقدم الغرب ولماذا تأخر العرب؟ قبل بونابرت لم يسبق أن اجتاح فاتح عسكري بلداً أجنبياً بجيش من المثقفين، الأمر الذي طرح سؤالاً كبيراً حول دوافعه الحقيقية. يعدد جان تولار بعض هذه الدوافع، غير أن تلميذه أرنو كوانييه يضيف بعداً غاية في الأهمية، مؤكداً أن بونابرت برر الحملة المصرية باسم"الحضارة"للالتفاف على أنصار التنوير الفرنسيين الذين انتقدوا الكولونيالية ودافعوا عن حق الشعوب بتقرير مصيرها بنفسها. ويرى كوانييه أنه منذ العام 1750 كان الغرب يعي تراجع الشرق الذي فسر بأنه ناجم عن الاستبداد، ما أفقد الحضارات العثمانية والفارسية والصينية صدقيتها وهي التي كانت تسحر الغربيين قديماً وتبهرهم. كان الإيديولوجيون ومنهم فولني يسوغون الاحتلال باسم"الحضارة"التي تضبط العنف وتدرج حركة الاستعمار في مفهوم هرمي لمراحل التاريخ والعصور الجغرافية المختلفة.