قد يكون أوّل عائق للإصلاح في الذهنيات الإسلامية مفهوم الإصلاح ذاته. فالتاريخ الثقافي للإصلاح والنهضة يكرّر مصادرة أساسية ندعوها استعارة الراعي النائم: الراعي الذي يغلبه النعاس عقودا ثم يستيقظ فيتدارك ما فاته، وكأن الأشياء من حوله لم تتغير. فإذا فككنا هذه الاستعارة تخلصنا من جملة من الاستنتاجات الخاطئة التي يرددها العديد من الدارسين ويقتبسها منهم الزعماء الإيديولوجيون لغايات أخرى، ثم تخلصنا خاصة من شعور الإحباط الذي تكرسه السرديات النهضوية، الإصلاحية منها والتحديثية، وقد تحول لدى البعض إلى سوسيولوجيا للهزيمة غالي شكري أو سوسيولوجيا لجلد الذات المثقفة برهان غليون، خاصة أن القرن الحادي والعشرين يبدو وكأنه حلّ مؤكد لهذا الشعور داعم له، من خلال أحداث أفغانستان والعراق وفلسطين. فيم تتمثل استعارة الراعي النائم؟ إنها تأخذ باختصار الشكل السردي التالي: وصل العرب والمسلمون إلى قمة الازدهار والقوة ثم تدرجوا في الانحطاط وانغلقوا على أنفسهم وقتا طويلا. بدأت أوروبا في الأثناء تحقق نهضتها في غفلة منهم، إلى أن حلت مراكب نابليون بونابرت على السواحل المصرية فأدركوا عمق الهوة وبدأوا نهضتهم للالتحاق بركب الحضارة واستعادة دور القيادة العالمية. تكرست هذه الصورة لأسباب ثلاثة: أولا، سطوة الاستشراق الفرنسي الذي نشر هذه الصورة لأنها تتضمن أن فرنسا هي التي أعادت الحضارة إلى العالم العربي بإرسالياتها إلى مصر والشام ثم شمال أفريقيا. وعلى هذا الأساس اختيرت الحملة الفرنسية على مصر لتكون بداية النهضة. ثانيا، شهرة النموذج المصري نفسه، وقد أسقط على كل الوضع العربي الإسلامي. لا شك أن مصر قد اضطلعت بدور مركزي من القرن التاسع عشر إلى نهاية الثلث الثاني من القرن العشرين، وكانت رائدة في مجال نشر الأفكار والتيارات من مختلف الأصناف والاتجاهات. لكن دورها من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر لم يكن بنفس القوة، وإن لم يكن غائبا من ناحية الأثر الفكري الذي ظلت تمارسه بفضل اللغة العربية. ثالثا، قابلية هذه الصورة لأن ترضي كبرياء النفس الإسلامية المكلومة، التي تعودت أن تنظر إلى التاريخ على أنه صراع أديان وحضارات، فكانت في حاجة إلى أن تطمئن ذاتها بأن غلبة الحضارة المنافسة ليس إلا أمرا عارضا عرضيا، حدث بسبب غفوة وسيلتئم في بضع عقود، ليس سببه إبداع تلك الحضارة الجديدة بل تقصير الأجداد وتخليهم عن الجوهر القديم لحضارتهم. إن التاريخ أحداث، لكن الذاكرة تأويل. والأحداث مجموعة من العناصر المجزأة يمكن أن تلتئم في بناءات خطابية مختلفة، وهذه البناءات تستند إلى مصادرات معلنة أو خفية، ولا تخضع في ذاتها إلى قوة المراقبة التي تمارسها التقنية التاريخية على استكشاف الأحداث. فالتأويل وإن كانت مستنداته الأحداث فإنه لا يتوقف عند حدودها، بل يتجاوزها نحو دلالات عامة هي غير الدلالات المفردة للأجزاء. ماذا كان يحدث مثلا لو انهزم سليم العثماني في معركة مرج دابق وتواصل حكم المماليك في مصر والشام؟ هل كان ذلك يسارع بدخول العرب العصر الحديث أم كان يعرّض عددا أكبر من الموانئ العربية لتسقط تحت سيطرة القوة البحرية الأوروبية؟ هذا سؤال لا يمكن حسمه بالتقنية التاريخية لكنه يراود كل مؤرخ يكتب التاريخ أو يتأمله وهو مثقل بالهم النهضوي القومي. على أن التواريخ القومية للنهضة تجيب في الحقيقة عن هذا النوع من الأسئلة عن وعي أو دون وعي، لأنها تجعل التاريخ خطابا للنهضة وليس مجرد عرض للأحداث، فتنشد باستمرار أسباب ما تعتبره انحطاطا كي يستقيم لها التبشير بما تدعوه النهضة. يمكن للتاريخ القومي العام للعرب أن يصاغ صياغات مختلفة حسب المصادرات التي يضعها منطلقا له، دون أن يتعارض ذلك بالتزام المؤرخ الدقة والمنهجية والعلمية. وسبب ذلك أن ما يدعى التاريخ القومي ينطلق من إسقاط الفكرة القومية العربية الحديثة على عهود كانت خالية من كل تمثل قومي. لكن التواريخ المحلية للأقطار العربية منفصلة عن بعضها البعض ليست أكثر قدرة على الخروج من هذا المأزق المنهجي، لأن الفكرة القطرية بالمعنى السائد الوطن المحدد جغرافيا المتجانس سياسيا وديموغرافيا ليست أيضا إلا إبداعا حديثا. لذلك قدمت السرديات التاريخية القطرية بدورها نماذج أخرى من الإسقاط، مع مواصلة العمل بنفس الآليات. السرديات التاريخية القطرية إما أنها عملت على ربط الجزء القطري بالتمثل العام للكل القومي، تضيف إلى ذلك في الغالب محاولة إثبات أن الجزء القطري كان الأكثر حسما في بناء الكل القومي، أو أنها عملت على ربط الكل القومي بتاريخ قطري أكثر كلية، يبدأ بما قبل العروبة والإسلام، أو يمدد العروبة تمديدا واسعا ليشمل كل المكونات العرقية التي تعاقبت على القطر المحدد خارج التاريخ، لأنه معتبر وكأنه محدد منذ الأبد. لقد ظل الماضي يخضع لمنافسة بين تقطيعين قطري وقومي، أو قومي بالمعنى القطري وقومي بالمعنى الوحدوي. وظل حبيس اختيارات لا يمكن أن تخضع تمام الخضوع إلى التقنية المنهجية، إلا أن تكون مسبوقة بتفكير في المنهجية يصنف حتما ميتا-تاريخ. وفي غياب ذلك يظل السائد الثقافي مسيطرا في تحديد البداية والأطراف المعتبرة أصيلة وتلك المعتبرة دخيلة واختيار اللحظات المصنفة أكثر حسما والتمييز بين الفتوحات والغزوات وبين الهزائم والانتصارات وفصل ما يعتبر أساسيا وما يعدّ عارضا وترجيح دور المركز على تاريخ الهامش والمهمش أو عكس ذلك، وإقامة التقسيمات وتوزيع الحقب، وتغليب عنصر على آخر ليكون الموجه، السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو غير ذلك، الخ. إن القضية قابلة أن تطرح طرحا آخر. والخطوة الأولى هي أن نلغي، ولو مؤقتا، مقولة الانحطاط. فهي مقولة مضللة، لأن مقولة الانحطاط لا تستقيم إلا بالمقارنة مع طرف آخر. بينما الأكثر جدارة أن نغلب الاهتمام بالعناصر الذاتية والمنطق الداخلي لمسارات الأحداث. كما أن مقولة الانحطاط ترتبط وثيقا بنظرية المراحل الثلاث بعث، قوة، انحطاط المقيسة على المراحل البيولوجية لحياة الإنسان، وهي نظرية مضللة في تفسير التاريخ البشري عموما، وفي تفسير التاريخ العربي الإسلامي تحديدا. فالعنصر الأساسي الذي لا مناص من اعتباره عند تفسير أحداث التاريخ الإسلامي في الماضي هو"لامركزية المركز". معنى ذلك أن مركز الحضارة متحول، أعاد النموذج إنتاج نفسه بالتحول على المستويين العرقي والجغرافي. كلما ضعف شعب عن تمثيل طليعة النموذج جاء شعب آخر ليتولى الدور، وكلما حلت أزمة بإقليم تحول الثقل الجغرافي إلى إقليم آخر. الأتراك والبربر والأكراد والمغول والمماليك وغيرهم لم يسرقوا شيئا بل واصلوا المنطق الداخلي للحضارة الإسلامية التي لا يمثل فيها العنصر العربي إلا جزءا من كلّ. والمثلث بغداد/ القاهرة/ دمشق كان مركز الحضارة في عهد من العهود لكن هذه الحضارة لم تسقط بسقوطه بل انتقلت عنه، ولنتذكر أنه ورث بدوره الحجاز الذي خبا ذكره قرونا، لولا مكانته الدينية. انهار هذا المركز عندما استولى المماليك على مصر وخربت بغداد بدخول المغول وفقد الشام مكانته بسبب الصراعات الداخلية، لكن مراكز أخرى قامت بديلا عنه. دول كثيرة لم تقلّ شأنا عن الأموية والعباسية والأيوبية: قام في المشرق العثمانيون والصفويون والمغول، وقام في المغرب الموحدون والمرابطون والمرينيون والسعديون والعلويون والحفصيون والحسينيون. كذلك عاش العديد من كبار العلماء والأدباء في العهد الموسوم بالانحطاط، بل أصبح واضحا اليوم، بعد دراسات هنري كوربان في الفلسفة ورشدي راشد في تاريخ العلوم، أن حركية الإبداع الثقافي نفسه لم تتوقف لا في بغداد ولا في الأندلس. لا وجود لانحطاط هو النقيض المطلق لفترة الازدهار، كما لا وجود لتقابل هيكلي بين شرق وغرب ولا مشرق ومغرب. كل محاولة للتعميم هي قراءة للتاريخ من خلال توزيع خبيث للمركز والأطراف يقوم على شعور غير مبرر بتفوق عرقي أو إقليمي أو طائفي.