تتشكل صورة الزعيم عن ذاته طبقاً لتلك التي تنسجها وتصوغها وتتداولها الجماهير عنه. ينظر الزعيم في المرآة فيرى فيها انعكاساً لتلك الصورة العامة. لا يجهد في صناعة صورة خاصة به. وهذه الصورة تتجدد وتترسخ كلما التقى جماهيره المبهورة، التي لا تقلقه، طالما لا يبدر منها خروج على الطاعة. هذه العلاقة الوجدانية والروحية و"الذهنية"غير المرئية والكامنة، تتخذ في لحظة اللقاء بالزعيم بعداً سمعياً بصرياً حسياً، تتمسرح فيه هذه العلاقة وتتجسد، وتلمس بالحواس. في ما يلي بعض المشاهد والصور الوجدانية التي تجعل العين تشهد على ما لا يراه العقل. المشهد الأول "لبيك"وپ"بالروح والدم". ردد هاتين العبارتين اكثر من مرة، بنفس النبرة التي تسمعها، من إحدى الجماعات في حضرة زعيمها، فتشعر بضجيج يشبه قرع الطبول، في أذنيك ورأسك وقعر جمجمتك. وسينتابك شعور بالخوف، خوف الذي تلقى تهديداً بالإيذاء، تهديداً مضمراً بالوكالة. تخيل الجماهير مصطفة في كتلة واحدة، وقبضات ايديها مرفوعة بحزم وإصرار نحو الأعلى، ترفعها في موازاة الرأس، فتبدو في مجموعها، مستوية كأسنان المشط، لا تخطئ في الاستواء. وإذا نظرت إليها من أسفل، تبدو لك كسلّم مائل ملتو، كدرع من لحم وعظم ودم، لا يهتز. تلوح الجماهير بقبضاتها في الفلاة، تتضامن، تَعِدْ، أو بالأحرى، تهدّد. على الأرجح انها تهدد، ترفع قبضاتها بحركة واحدة، منتظمة، رتيبة، متشابهة، وتهتف في اللحظة ذاتها، وبالوتيرة ذاتها: بالروح/ بالدم/ نفديك... تستكمل معنى الافتداء بپ"لبيك". تملأ هتافاتها ثنيات الهواء وذبذباته وأطراف المكان، وفراغات الفضاء. تهتف الجماهير كالكورس، بالأحرى كأوركسترا ضخمة، تكرر في شكل تصاعدي نغماً لا ينتهي. تلتهب الحناجر، يتصاعد الدم الى الرأس، الى العروق الصغيرة في الصدغين. تنتفخ الأنوف. تحتقن العيون وتجحظ، تنظر في نقطة معينة، أو في الفراغ، أو الى اعلى. تسمع الجماهير نفسها، تناجيها، تطرب لعباراتها وتنتشي. تصاب ألسنتها بالهذيان. ما ان تطل قامة الزعيم، حتى تتأهب الجماهير وتؤخذ. ما ان يلوح بيده، أن تنفرج شفتاه عن حرف، تصيح وتهتف. ما ان يكمل جملته حتى تفقد صوابها، وينتشي هو الآخر، لكنه يعود ويستعيد طاقته على الكلام، على كلام لم يعد يحتاجه. يتكلم فتنصت، كي تجد ذريعة جديدة لها وتعاود الهتاف. المشهد الثاني تهلل الجماهير للزعيم وتهتف، تشدو بأهازيج وقراديات وعتابا وأغان ملتزمة لسد الفراغات، تكرر جملاً حفظتها عن ظهر قلب، تكررها منذ سنوات أو عقود، قد لا تتعلق بمناسبة الاحتشاد، تكررها وتطرب لتكرارها، تؤخذ كالدراويش في الزوايا الصوفية، تحتشد الجماهير كلما دعاها الزعيم، اياً كانت الغاية. لا داعي لإعلامها مسبقاً عن الغايات، فهي تؤيده سلفاً. تأييدها أزلي، أبدي. تتحضر له كما يذهب الإنسان العادي الى احتفال، الى فرجة، يتورط فيها ولا يكون محايداً، يعجب بها سلفاً، يذهب إليها مصحوباً بپ"رفاق"شديدي التواطؤ والهوى، يذهب الى الفرجة مشحوناً، آملاً إفراغ شحناته الفائضة، حتى يحين زمن الحشد الجديد، وتتجدد احتفالات المبايعة. المشهد الثالث يُسكر القائد كمّ الموالين. يتأكد مجدداً أنهم لم يكلّوا. يتباهى بحجمهم، امام الخصوم في الداخل والخارج. يطلق العنان لعواطفه وأهوائه وآرائه وتعليقاته وقراراته، كلما ازداد منسوب الموالين الموافقين سلفاً على ما يبدر منه، كل ما يبدر منه. وكلما اشتد غضب الزعيم وانفعل واعتكر مزاجه وصعّد، اهتاجت الجماهير وتشفت وثملت. كلما لعن خصومه، استشاطت بهجة، واستأنفت الأهازيج والهتافات. وافتدته مجدداً بدمها وروحها، وأعلنت انها ستلبي"لبيك، لا محالة". يستحضر القائد الجماهير ولا يتحدث إليها، هي جماهير افتراضية. نادراً ما يضطر الى توجيه الكلام او النظر إليها، ينظر إليها ولا يراها، لا يسأل عن اسمائها، إلا اذا اضطر الى تحريضها ونفخ غرورها وتعبئتها. عبرها يرسل الرسائل، الواحدة تلو الأخرى. لا احد يناقش او يستفسر الزعيم يكره الاجتماعات والحوارات الجماهيرية حيث يُسأل ويضطر الى التفسير. لا يناقش المحتفي ما يتفوه به الزعيم حتى بينه وبين نفسه. يخشى ان يستمع الى نفسه وأن يستمع إليها الآخرون، المتواطئون معه. المشهد الرابع لن تلحظ الجماهير المأخوذة ان الزعيم يبالغ ويتطرف ويغامر، أو يناقض نفسه ويخطئ في المنطق أو الحجة، أو في المبادئ والمعايير والأسس. لا يعنيها تحليل ما يقول أو ان يكون قد كرر أقواله. لن تحسن هذه الجماهير نقل مضامين خطاب زعيمها. قد تحسن نقل بعض الجمل النارية. بعض الصور البلاغية، بعض التشبيهات والتعليقات والنكت، الحزينة، والشتائم. تتغرغر بها لأيام. ستصفق له في جميع الأحوال. ستصفق ولو لم يقل شيئاً، لو نسي جملة، أو كرر أخرى. ستصفق لو استبدلت خطبته بتسجيل صوتي. لو كانت الخطبة ذاتها التي ألقاها في مرة سابقة. ستتحسر لو لم يتح لها ان تصفق. ستجد هذه الجماهير مبررات وأعذاراً ومسوغات لكل ما يقول أو يفعل زعيمها. مبررات لا تخطر على باله هو. ستبتكر له دوافع وتتصور أحداثاً ووقائع لم يشهد عليها. كل ما صدر ويصدر عن الزعيم ومنذ نعومة أظافره، تجعله الجماهير رديف العبقرية والحكمة والمعرفة والبطولة. هو استثنائي، أسطوري، ملهم، أرسلته العناية الإلهية في الزمن المناسب. أين الأفراد؟ * كاتبة لبنانية.