كانت مناسبة للاحتفال. لم أعد أذكر بالدقة أي مناسبة. عيد قومي للأكراد أو ذكرى تأسيس أحد أحزابهم. الأعياد كثيرة والأحزاب كثيرة. والشبان والفتيان والشابات والفتيات في استعداد دائم لاستقبال المناسبات. امتلأت القاعة بهؤلاء. حشد كبير بثياب ملونة. تعلو خبطة الأقدام على الأرض الخشبية للقاعة فيما صوت المطرب يتردد في الجنبات جميعاً. وتكاد الجدران أن تنحني تحت ثقل الاعلام واللافتات والصور العملاقة لرجل كث الشوارب فظ الملامح. أما المطرب، جوان حاجو، فلا يتوقف عن ارسال الصدمات الصاخبة للحماسة في عروق الشبيبة. في بداية كل أغنية ونهايتها يوزع قدراً كبيراً من الصراخ فيبدو كما لو أن أحداً يذبحه. تجحظ عيناه وتنهض عروق رقبته تكاد أن تنفلت. أما فرقته، وهي مؤلفة من نروجيين ولاتينيين اميركيين، فتكاد تقفز الى السماء. لا يتصورن أحد أن الأمر يتعلق بأغاني البوب أو الروك أندرول أو ما شابه. فبين يدي جوان آلة موسيقية شرقية تقليدية وأفراد فرقته ينهالون ضرباً على الدف والدربكة. ولا يتخيلن أحد أن الأغاني تدور حول الشباب والحب والشهوة والمرح والعواطف. فها هنا تتخم النفوس بالقضايا "الكبيرة" وتنتشي الرؤوس بالشعارات. والمجد، كل المجد، للحزب وزعيمه ومن بعدهما تأتي قافلة المعاني: الوطن والتراب والشهداء والنضال... الخ. ولكن، هذا ليس استثناء. ولم تكن تلك الحفلة يوماً عابراً انصرف اليه الشباب لرفع العتب. الحق ان ليس هناك غناء شبابي كردي إلا هذا. والشاب هنا ينشأ وهو يتغذى بالسياسة والشعارات. تدخل القضايا الطنانة الى اذنه وعينيه ورئتيه وتختلج ذاكرته بأصوات الغناء السياسي، الحزبي، وهي أصوات أقرب الى العويل والنشيج والصراخ منها الى الترنيم والنغم والدندنة. تأسست الذائقة الغنائية لدى هذه الشبيبة من طريق الانشغال السياسي والانتماء الحزبي. ولم يبتعد المغنون والمطربون عن هذا الميدان. بل يمكن القول "ان هؤلاء لم يأتوا الى الغناء والطرب الا بوصفهما شكلاً من أشكال النضال. ولم تكن آلة البزق أو الطنبور أو الكمان أو الطبل أو المزمار إلا معادلاً موازياً للكلاشنيكوف والقنابل وللبرنامج الحزبي وخطب الزعيم. وتروح الأغاني تدور حول المواضيع ذاتها في كل مرة. وفي كل مرة تدب الحماسة في النفوس وترتفع الصيحات ويهب الشباب والشابات للرقص العنيف. في الحفلة العتيدة كانت الأجساد تتمايل والعيون تلتمع فيما يهتف جوان حاجو: ديار بكر موطني موطن أجدادي وآبائي. وترسخت هذه النزعة الى درجة بقي معها الانصراف الى نمط آخر من الغناء أمراً معيباً أو هروباً من مسؤولية قومية. ويمضي كل مطرب شبابي وكأنه في سباق مع الزمن لتثبيت صورته في أذهان "الجماهير" مناضلاً مخلصاً. حتى أولئك الذين يغلبهم النزوع الى الطيش ومرح الشباب ينكفئون وينخرطون في معمعة صاخبة من الغناء القومي - السياسي. وعلى رغم أن انفصاماً عميقاً ينشأ بين المطرب، في حقيقته الذاتية، وبين عالمه الغنائي فإنه لا ينفك ينغرس أعمق في التيار. فمعيار النجاح هنا ليس الفن أو المتعة أو الادهاش بل الالتصاق بالقضية. والقضية صارت في الفترة الأخيرة مجموعة ثابتة من المقولات وتمجيداً أبدياً للزعيم. ولن نستغرب بعد هذا ان نجد تفاعلاً هستيرياً بين الجمهور ومطربه في ما يخص استحضار الزعيم الى المشهد على الدوام. وفي الحفلات العامة يطل المطرب حكمت جميل الذي أطلق على نفسه اسم "بنكين" فيرتدي بذلة انيقة ويمشي مختالاً ثم يشرع في إلقاء "خطب" حماسية وبعدها يشمِّر عن ساعديه ويفتتح حفلته بالأغنية التي صارت ماركة مسجلة باسمه: يا رئيسي، يا رئيسي، أنا فداك يا رئيسي، أنت شمسنا. ثم لا يلبث أن يهزّ رأسه ويرفع يديه ويعلو صراخه وتتمايل أردافه ويقوم بحركات مائعة تثير الضحك. ولكن لا أحد يضحك. فالأنظار والأذهان معلقة بفم المطرب وما يقوله. وفي كل مرة يمر اسم الرئيس يرتفع الهتاف ولا يلبث ان يتحول الى ترديد متكرر لقول راسخ: بالروح، بالدم، نفديك يا رئيس. لكن الأغنية السياسية الكردية، التي صارت ثوباً لكل أغنية، قديمة العهد. وكان بدء انتشارها وتعميمها على يد المطرب الأشهر شفان برور. وهو خرج الى السطح في بداية السبعينات حين كانت الأغنية السياسية وحركات الشبيبة الغاضبة تجتاح العالم. وشأن ما كان سائداً في كل مكان فقد جعلت الأغنية نفسها حاملة للأفكار والبرامج والخطابات أكثر منها ترجمة للمشاعر الداخلية وأحاسيس الفرد الواحد. وامتلأت غرف الشبيبة الكردية باسطوانات شفان برور تندد بالامبريالية والفاشية وتحيي مقاتلي فيتنام وكمبوديا وتمجد الصين وروسيا وكوبا. وفي الصميم من ذلك رسِّخت صورة للمقاتل الكردي، عنيداً، صلباً لا يهاب الأعداء. وأشهر أغنية تتردد على ألسنة الأجيال الكردية هي تلك التي يرسم فيها المطرب شفان لوحة للأكراد. عنوان الأغنية "من نحن؟". وفيها يتحدث عن ماضي الأكراد و"أمجادهم" وأبطالهم. وفي لحظة انفعال عنيفة يقول: نحن الأكراد عنيدون رؤوسنا مثل الحديد. وحين يحضر شفان الحفلات الغنائية فإن الجمهور يشتعل ويلحّ عليه أن يغني "من نحن؟". ولقد أثرت الأغاني التي رددها شفان تأثيراً بالغاً على الشبيبة الكردية. ولم يقتصر هذا التأثير على صوغ الذائقة الغنائية من حيث تسطيحها وتخشيبها، بل تجاوز ذلك الى حد بث الرغبة في القتال والموت. في أغنية له يقول: أنا شاب كردي طبقت شهرتي الآفاق أذهب الى المعركة فإذا متُّ لا تبكي أمي. ولكنه بدلا ً من الذهاب الى المعركة، ذهب الى السويد وصار ينعم بعيش رغيد فيما صدّقه حشد كبير من الشباب فذهبوا الى المعركة وماتوا وراحت أمهاتهم يبكين لوعة وحزناً. وعلى يد شفان تكرست الأغنية التي تحض على الموت والعنف والتمرد وتمجيد الذات وعبادة الزعماء. وتغلغلت هذه النزعات في نفوس الشباب تغلغلاً فظيعاً حتى صار الشاب يشعر بنفسه، من غيرها، فارغاً وخلواً من كل قيمة. وخرج المطربون والمغنون الأكراد، الكرمانج، من معطف شفان. وانتشر في كل ركن مطرب يقدّس الموت ويهلل لمعمعان النضال. وأصبح شفان، من بعد ذلك، في مقام زعيم قومي. ويستقبله زعماء الأحزاب وجماهيرها استقبال الأبطال. وهو يعدّ، في نظر غالبية الشبيبة الكردية، نموذجاً للاقتداء. وهذه الخطوة التي يتمتع بها شفان يدفع المطربين الآخرين الى اقتفاء أثره وتقليد أساليبه. ولا يتعلق ارتفاع شأنه الى مقام الفن في نظر الناس أو سمو ذائقتهم الموسيقية بل هو يرتبط بالمقول السياسي الذي دأب شفان يتفوه به. لا يقوم الغناء الكردي، العالق تحت ركام السياسة والشعارات الخشبية، على تجييش الشباب وتهييج مشاعرهم وحسب، بل هو يلعب دور الدعاية للفكرة القومية والبرنامج الحزبي. ولكل حزب مجموعة من المطربين يضعون خدماتهم في خدمة الحزب. وتتسابق هذه المجموعات في ما بينها على جبهة الالتصاق بالحزب وزعيمه. كذلك فإن الأحزاب تؤسس مجموعاتها الشبابية التي تكرس سلوكاً وصورة وذوقاً وعلامة تخص الحزب وحده. وفي الكثير من الحالات يبدو الأمر وكأنه صورة منسوخة عما يجري في المشهد السياسي للبلدان المجاورة. وكان العراق، مثلاً، عرف ظاهرة الغناء الموظف في خدمة القيادة السياسية. ويتذكر الأكراد تلك الأغنية التي ترددت باللغتين العربية والكردية: زيرا سروك مازيرا ذهبٌ رئيسنا ذهبٌ زيرا صدام زيرا ذهبٌ صدام ذهبٌ. ويظهر السلوك الغنائي من هذا الطراز وكأنه ترك بصمات ثقيلة في الغناء الكردي. وعلى غرار الجوقات العراقية الضخمة التي كانت تلتئم لتشيد بحياة القائد ومجده تتسابق الأحزاب الكردية في تأليف جوقات من هذا النوع تقوم بالوظيفة نفسها. وتقوم الفضائيات التلفزيونية الكردية بنقل مظاهر الولاء للزعيم وتقديسه وتعظيمه من دون كلل. ويصطف الشباب والشابات على جانبي المسرح، وهم يرتدون زيّاً موحداً، كما لو كانوا في ثكنة عسكرية، وتنطلق حناجرهم تنشد: ها هو حزبنا قد نهض وانتشر في الجبال والسهول ويبدو الشباب الأكراد في علاقتهم بالطرب والغناء، كما لو أنهم يعيشون في كوكب آخر لا علاقة له بالكوكب الأرضي الذي نعيش فوقه. واذا كان في المقدور التعرف على شخصية الشاب من خلال عالمه الموسيقي وأغانيه المفضلة أمكن القول إن الشبيبة الكردية منغلقة، بعموم القول، في محيط موسيقي منغلق تحاصره الايديولوجيا والشعار السياسي. وينهض المطرب، في هذا السبات، في هيئة خادم ذليل يهيئ ترويض الشباب وتطويعهم للدخول الى حلبة الانغلاق الحزبي. وليس المطرب، بعد ذلك، سوى مترجم، بالصوت والأنغام، للخطاب الهوائي الذي يملأ الهواء من كل جانب. وعلى رغم وجود الغالبية الكبيرة من المطربين الأكراد، وفرقهم وجمهورهم، في البلدان الأوروبية فإن النمط الغنائي، والسلوكي، ما زال يرتبط بالتربة الأصلية برباط قوي. وما إن يدخل المطرب والشبيبة التي تركض خلفه، قاعة الحفلة حتى يتحولا الى كائنات أخرى لا علاقة لها بالفضاء الأوروبي الذي تعيش فيه. وتنطلق، على الفور، الغرائز البدائية والأحاسيس العنيفة والمظاهر البطريركية وميول الخضوع للزعيم - الأب الذي يطل على الجميع عبر صوره التي تملأ كل مكان. ونهضت امرأة، تعيش في بلد أوروبي يتغير رؤساؤه في كل لحظة، وشرعت تنادي أمام كاميرا التلفزيون: لسنا موجودين إن لم يكن رئيسنا موجوداً. ويستغل عدد كبير من هواة الغناء هذا المناخ التعبوي فيرفعون عقيرتهم بالغناء ويصيرون "فنانين" ينظر اليهم الشباب بعين الحسد. وليس لهؤلاء من عدة الفن والغناء سوى الصراخ عالياً وإطلاق الصيحات عن الوطن والأمة والقائد... فكأن الشبيبة الكردية مصنوعة من قوالب خشبية لا روح فيها ولا عواطف، بل إنها تستمد روحها وعواطفها من طوطمات تسكن خارجها. أما الفنانون الذين يسعون في أثر ابداع فن حقيقي، هادئ ورصين فلا يلقون آذاناً صاغية. ولا نستغرب ألا يحظى فنان موهوب وذو ذائقة موسيقية رفيعة مثل سعيد يوسف القدر الذي يستحقه من الاهتمام. وسعيد يوسف هو، بحق، موسيقار تنبض موسيقاه بحيوية ابداعية أكيدة. وهو يشبه، في عمله، الرحابنة وما أبدعوه في لبنان. ان ضجيج الأصوات التي تقرع الآذان بالشعارات تغلب على الأنغام الجميلة والكلمات الرقيقة التي يبدعها سعيد يوسف. وسعيد يوسف يعمل من أجل انشاء علاقة ذوقية عالية مع الشباب وهو يدأب في سبيل الانتصار لجمال الموسيقى ورفعة الفن ومحاولة انقاذهما من الركام الكثير الذي يكاد يخنقهما. وهو يفعل ذلك بعيداً من التحريض والتعبئة والدعاية. غير ان الأغنية الشبابية الكردية تذهب أعمق نحو هاوية سحيقة. لقد أصبحت بمثابة فتاة اختطفتها مجموعة من عصابات تستعمل الزعيق والصراخ سلاحاً مخيفاً. وتبدو الحادثة التالية ذات مغزى: فقد جاء من بيروت المطرب زورو الذي راح يهتف للجميع: كنت في فرقة فيروز، وتعاونت مع زياد الرحباني. وكان ذلك شبيهاً بمن اكتشف قارة جديدة. ولكن في أول حفلة موسيقية له أمام الفضائية الكردية أعلن بفخر انه سيغني أغنية من تأليفه وألحانه: نحن الأكراد أبطال واسألوا صلاح الدين. وقد ضربت كفاً بكف وقلت في نفسي: لا أمل.