ينقسم اللبنانيون بحدة حول صحة وشرعية المطالب التي طرحتها المعارضة بقيادة"حزب الله"وحول النيات الكامنة وراءها، وينقسم معهم العرب والعالم ولو باختلال واضح جداً لمصلحة الحكومة الشرعية. لكن حتى لو نجحت المساعي العربية في نزع فتيل التوتر والاحتقان السياسي والطائفي واعادة وصل ما انقطع بين مختلف الاطراف، او فشلت، فإن شعار"الوحدة الوطنية"الذي يطالب المعتصمون بتشكيل حكومة جديدة تحت لوائه، يحتاج الى تدقيق، لأن الداعين الى تطبيقه اليوم هم الذين خرقوه واخضعوه لاعتبارات لا تمت الى الوحدة ولا الوطنية بصلة. فمنذ استقلال لبنان في 1943 قامت الجمهورية الاولى ومؤسساتها وأجهزتها على التراضي والتوافق بين الطوائف الكبرى، من دون الدخول في ما اذا كان التقاسم منصفاً او جائراً. ولم يلبث هذا التوافق ان تعرض لهزات متتالية كانت في كل مرة نتيجة تأثير خارجي أغرى احد اطراف المعادلة بامكان الانقلاب على شركائه، والاستقواء بالخارج لفرض أمر واقع جديد. ويمكن الجزم بأن هذه المحاولات جميعها فشلت، الى ان قامت الجمهورية الثانية بعد حرب اهلية مديدة انتهت بمفاوضات واتفاق الطائف الذي أُقر بتراضي جميع الاطراف. لكن ابرام الاتفاق تزامن مع صعود نجم"حزب الله"في صفوف الطائفة الشيعية وتصاعد مضطرد في تعبئته وتسليحه وقدراته المالية ودوره وارتباطاته الخارجية. ولما كان جنوبلبنان لا يزال يرزح تحت الاحتلال الاسرائيلي، فقد تم التغاضي في ما يخص الحزب، عن بند اساسي في دستور الطائف ينص على حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم اسلحتها الى الدولة التي خولها وضع خطة امنية لبسط سلطتها على كامل الاراضي اللبنانية. وهذا الاستثناء الذي تم بالتراضي ولكن بتأثير سوري حاسم، جرّ الى استثناء آخر شمل المخيمات الفلسطينية باعتبارها مهددة من اسرائيل ولأن تجريدها من السلاح يتطلب قبولا اقليميا ودوليا لم يكن متوافرا. ويصح التأكيد ان مبدأ الوحدة الوطنية تعرض لاختبار ناجح في التأييد الذي حظي به"حزب الله"في مقاومته اسرائيل، سواء لجهة الدعم الشعبي باختلاف طوائفه، او الحكومي، والمقصود هنا الاجهزة الامنية والجيش الى جانب الديبلوماسية، رغم ان الحزب استأثر، وبقرار واع ومنسق مع سورية، بالمهمة القتالية في الجنوب التي حظرها على باقي المقاومين ومنهم اطراف كانت على علاقة وثيقة بدمشق نفسها، مثل القوميين السوريين او الشيوعيين، وحتى حركة"امل"الشيعية ايضاً. لكن بعد خروج المحتل الاسرائيلي في العام ألفين تلاشى المبرر الذي كان يحول دون ارسال الجيش اللبناني الى الحدود وتسليم"حزب الله"اسلحته، فبرز فجأة الى الوجود"قميص"مزارع شبعا غير المحسوم انتماؤها الى لبنان او سورية حتى الآن، وقرر الحزب، في تعارض مع رغبة باقي الاطراف اللبنانيين، ان يبقي الجنوب تحت سيطرته المنفردة لأن"معركة التحرير لم تنته بعد". ولما كانت الوصاية السورية على لبنان هي صاحبة القرار، رضخ لبنان كله قسراً لهذا القرار الذي شكل انتهاكاً فاضحاً لمبدأ الوحدة الوطنية ونصوص اتفاق الطائف. انتفى الاجماع اللبناني وانتفت وحدة الموقف الداخلي وبقي الحزب على موقفه، بل امضى ست سنوات منذ انتهاء الاحتلال في تكديس السلاح وتحويل جنوبلبنان الى ترسانة وخطوط قتال، وهو ما دفع لبنان كله ثمنه في كل مرة التهبت الجبهة الحدودية. وجاء خروج القوات السورية من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري ليخضع الوحدة الوطنية لامتحان جديد. ولم يفوّت"حزب الله"الفرصة ليثبت خروجه على الاجماع وينظم تظاهرات حاشدة لشكر سورية وتوجيه رسالة معناها"العفو عما مضى". ثم جاء الخروج الكبير على الاجماع والوحدة الوطنية في حرب تموز الماضي حين اتخذ الحزب مجددا قراراً منفرداً تحمل لبنان كله تبعاته ولا يزال. هذا الحزب نفسه يتظاهر اليوم في وسط بيروت، مطالبا ب"وحدة وطنية"كان هو اول من خرج عليها وسفّه معناها بقوة السلاح والدعم الخارجي.