تعرض"حزب الله"في الشهور العشرة الماضية لضربات متتالية بعضها استهدفه في شكل محدد وكان هدف بعضها الآخر النظام اللبناني بما فيه من سلطة الدولة والقوى الموالية لها أو المتعاونة معها، ومن بينها"حزب الله". بدأت تلك الضربات بقرار مجلس الأمن الرقم 1559 الذي اكتسب شهرته باعتباره يتعلق بخروج سورية من لبنان، فيما يهدف بدرجة مساوية، وكما جاء في نصه، الى تفكيك ونزع سلاح الميليشيات المسلحة اللبنانية والأجنبية كافة، ما ينصب حصرياً على"حزب الله"اللبناني والعناصر الفلسطينية المسلحة الموجودة في المخيمات. وجاء اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري ليزلزل أركان النظام اللبناني وثوابته المستقرة منذ عقود، فأخل داخلياً بالتوازن المستقر للقوى السياسية اللبنانية، وزعزع خارجياً نمط العلاقات اللبنانية ? السورية الذي ترسخ عبر ثلاثة عقود. وما تلا اغتيال الحريري من تطورات لم تكن سوى توابع لهذا الزلزال. في هذه المحطات كان"حزب الله"إما هدفاً مباشراً كما في القرار الرقم 1559 أو غير مباشر كما في الصدمات الشديدة التي تعرضت لها العلاقات اللبنانية - السورية. وأمام هذه الضربات اتبع الحزب سياسة تتسم بدرجة عالية من الهدوء والكياسة، فحرص على عدم الانسياق وراء محاولات توريط حاولت بعض الأطراف إيقاعه فيها واستعداءه على الدولة وعلى سورية تحت شعار الوطنية والاستقلال وعبر فزاعة التخوين، وكذلك عدم الاستجابة لعمليات استفزاز وتحريض ضد المعارضة من بعض القوى والعناصر الموالية لسورية في لبنان. وكما دفع اغتيال الحريري الحزب إلى مزيد من التمسك بالموقف الوسطي وفتح الخطوط مع الأطراف كافة، فإن عوامل أخرى دفعته إلى تعديل جزئي في إدارته للأزمة، فتحول من موقف المحايد السلبي إلى دور المعادل الديناميكي، وذلك بفعل جموح بعض قوى المعارضة في مطالبها واغترار البعض الآخر بمظاهر التأييد الشعبي التي ولدها الغضب لاغتيال الحريري، فبدت الساحة اللبنانية وكأنها تحت سيطرة كاملة من المعارضة وبدا كأن اللبنانيين جميعاً يؤيدون المعارضة في شكل مطلق، ما اضطر الحزب إلى التحرك لمعادلة هذا الخلل الظاهري وكشف التوازن الكامن وراءه، وذلك من خلال تظاهرة الثلثاء الشهيرة التي نظمها الحزب في 8 آذار مارس الماضي، وكان هدفها الأساس تبيان أن ثمة قوى أخرى غير المعارضة وأن اللبنانيين ليسوا جميعاً مع المعارضة. وأرفق الحزب هذا التحرك العملي بعدد من الرسائل السياسية المباشرة وغير المباشرة مفادها أنه مع تصحيح العلاقة بين لبنان وسورية، لكن كثيراً من اللبنانيين لن يسمحوا بكسر هذه العلاقة. ولم يكد"حزب الله"يخرج من أزمة اغتيال الحريري وتغيير معطيات العلاقة بين لبنان وسورية، حتى كان عليه الاستعداد سريعاً لمعركة الاستحقاق النيابي، وهي المعركة التي استنزفت جهداً كبيراً من مختلف القوى اللبنانية وبخاصة بعد زيادة المشهد الانتخابي تعقيداً بعودة العماد ميشال عون من منفاه، ودخول سمير جعجع بدوره على خط التفاعلات من داخل سجنه. وفي ضوء هذه التعقيدات آثر"حزب الله"العودة إلى سياسة الكمون والتفاعل المرحلي بطريقة رد الفعل لا الفعل، مع الاستعداد للتحرك واتخاذ مواقف إذا تعرضت مصادر قوته أو موقعه في الخريطة اللبنانية لأي تهديد. وبعدما اكتسح مرشحو الحزب وحركة"أمل"انتخابات الجنوب فيما جاءت النتائج النهائية متوازنة لجهة علاقة الحزب مع كل القوى الرئيسة في البرلمان، أصبح"حزب الله"في انتظار ما ستعكسه تلك المحاصصة النيابية من مواقف إزاء بقية بنود القرار الدولي خصوصاً ما يتعلق منها بنزع سلاح الحزب. في ضوء التطورات المفصلية التي شهدتها بيروت في الشهور الماضية، يمكن القول ان ثمة حاجة لبنانية لوجود"حزب الله"واستمراره في الساحة اللبنانية، ومع الأخذ في الاعتبار أن طبيعة هذا الوجود ومظاهره محل جدل ومناقشة، بيد أن مبدأ الوجود والاستمرار كجزء من نسيج الحياة اللبنانية بمختلف أوجهها لا يبدو مختلفاً عليه بين معظم القوى اللبنانية. من هنا يمكن اعتبار الساحة اللبنانية الداخلية ذاتها بمثابة مصدر قوة لپ"حزب الله"يستمد منها وجوده وتماسكه في مواجهة محاولات هدمه، مع ملاحظة أن هذا الوجود يعني من وجهة نظر بعض القوى اللبنانية، خصوصاً المسيحية منها، الوجود السياسي لا العسكري، وسيكون في النهاية ومن وجهة النظر ذاتها وجوداً موقتاً مرهوناً بالاعتبارات والتوازنات القائمة حالياً، بمعنى أن هاجس عودة شبح الهيمنة السورية هو الدافع الرئيس لتلك القوى للتمسك بوجود سياسي للحزب بصفته قوة وطنية بالأساس وأقل خطراً من الوقوع في براثن هيمنة سورية مجدداً أو قوة تابعة لها في شكل مطلق. خارجياً، يمثل الموقف الأوروبي عموماً والفرنسي خصوصاً مصدر قوة أساسياً لپ"حزب الله"والدولة اللبنانية. ففرنسا على وجه التحديد لا تزال ترفض اعتبار الحزب منظمة إرهابية كما تطالب الولاياتالمتحدة ومن ورائها إسرائيل. كما أن الرؤية الفرنسية للحزب تنطلق من دوره كقوة سياسية موازنة لبقية القوى القائمة في لبنان وليس من منطلق اعتباره جماعة مسلحة تقاوم احتلال أو تقوم بعمليات ضد إسرائيل وحسب. بيد أن الحسابات الفرنسية وبدرجة أقل بقية الدول الأوروبية باستثناء بريطانيا في تقويمها لپ"حزب الله"ودوره ليست مقصورة على الاعتبارات الداخلية اللبنانية، إذ ان هناك اعتبارات أخرى تتعلق بالسياسة الفرنسية تجاه الولاياتالمتحدة والتفاعلات عبر الإقليمية الدائرة بينهما، إذ ان الدعم الفرنسي لپ"حزب الله"يمثل ورقة فرنسية إقليمية في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً في ما يتصل بالصراع العربي - الإسرائيلي الذي تتقلص تدريجاً قدرة أوروبا على لعب دور حقيقي فيه. والواقع أن فرنسا ليست الوحيدة التي تحاول إيجاد دور لها في هذا الخصوص، فألمانيا على سبيل المثال وجدت في قضية الأسرى لدى إسرائيل فرصة للتدخل والقيام بدور إيجابي، لذا فإن الموقف الفرنسي المبدئي من"حزب الله"ليس بعيداً من هذا النهج. خارجياً أيضاً، لا يمكن إغفال الموقف الإيراني. فعلى رغم ما تتعرض له طهران من ضغوطات متنوعة لأسباب عدة يمثل"حزب الله"أهمها، فإن أهمية الحزب ورقة قوية في يد إيران تجعلها لا تتخلى عنه بسهولة، والعلاقة بين الطرفين ذات بعد استراتيجي وعقدي في آن، وليست مجرد نتاج حسابات سياسية مرحلية قابلة للتغيير والتعديل. لكن في مقابل هذه المدخلات التي يمكن تسكينها في جانب إيجابي بالنسبة لمستقبل"حزب الله"، هناك قيود أخرى يفرضها في المقام الأول التربص الإسرائيلي وبالتالي الأميركي بالحزب، وهو اعتبار غني عن البيان أو الإيضاح سواء لجهة أسبابه أو مخاطره. وهناك أيضاً افتقاد الدعم العربي. فعلى رغم ما قام به الحزب خلال السنوات الماضية من خطوات تحسب له في سياق الصراع العربي - الإسرائيلي، فضلاً عن دوره في موازنة خريطة الداخل اللبناني. إلا أن الموقف العربي من الحزب لم يكن يوماً على مستوى هذا الدور الذي يقوم به الحزب، لذا ليس من المتوقع بحال أن يتحسن هذا الموقف فيما حال العرب أكثر سوءاً اليوم عنها في ما مضى. فالعرب الذين لم - ولن - يقفوا مع سورية لا يؤمل في وقوفهم مع"حزب الله". على ضوء هذه المعطيات، هناك أكثر من سيناريو لمستقبل"حزب الله". وإذا كان"الحزب"استطاع حتى الآن التغلب على التحديات المتتالية والتعامل مع التطورات الخطيرة التي شهدها لبنان أخيراً بدرجة عالية من المرونة والتماسك، فإن هذا لا ينفي أن الحزب أصبح بالفعل في وضع صعب وأن الطريق أصبح أكثر وعورة وأن مآزق وضغوطات أخرى بانتظاره. وكما أن هذا يعد قاسماً مشتركاً أياً كانت ملامح المستقبل القريب في لبنان في ضوء نتائج الانتخابات وما يليها من تطورات، فإن احتمالات مستقبل"حزب الله"بدورها لن تبتعد بالتالي عما تفرزه تلك التطورات. لكن على رغم التداخل والتشابه أحياناً بين السيناريوات المتحملة لمستقبل الحزب إلا أنه يمكن تمييزها نسبياً كما يأتي: التسييس: أي تحول الحزب كلية من حزب مقاوم يستمد شرعيته من مقاومة الاحتلال إلى حزب سياسي يمارس دوراً سياسياً فقط في الحياة اللبنانية. ومعنى ذلك أنه سيكون على الحزب أن يبحث عن مصادر أخرى للشرعية خلاف مقاومة الاحتلال، وهي مهمة ليست يسيرة بالمرة خصوصاً في مجتمع متعدد ومتنوع المذاهب والأعراق كالمجتمع اللبناني. بل إن الصعوبة تزداد إذا تذكرنا أن الطائفة الشيعية في لبنان ذاتها ليست مصدر قوة بما يكفي لپ"حزب الله"، فهو ليس الواجهة التنظيمية الوحيدة لهذه الطائفة، فإضافة إلى حركة"أمل"ذات الثقل التاريخي هناك تحركات شيعية أخرى قد تنتقص من قدرة"حزب الله"على امتلاك أرضية سياسية واسعة، ومثال ذلك حركة التضامن التي يقودها محمد حسن الأمين. أي أن سيناريو تسييس الحزب ربما يبدو مثالياً لقادة الحزب ذاته ولبعض القوى اللبنانية والخارجية التي تتخوف من استمرار الطابع المسلح للحزب، لكن هذا السيناريو محكوم برضا وتوافق أطراف عدة داخل لبنان بالأخص، وبالتالي ربما يتطلب من الحزب ما قد يعتبره تنازلات سياسية لإحداث هذا التوافق. التفكك والذوبان: وهو قريب نسبياً من سيناريو التسييس، لكنه قد يحدث في حال حدوث خلافات جذرية وصدامات عنيفة بين"حزب الله"والقوى اللبنانية الأخرى، بما يحول دون وجود سياسي كامل وواضح للحزب في الخريطة السياسية اللبنانية، مع تعرضه لضغوط قوية داخلية وخارجية للتخلص من طابعه العسكري ونزع أسلحته. ففي هذه الحال سيكون أحد الخيارات الاضطرارية أمام الحزب أن يتحلل تنظيمياً ويتفكك إلى وحدات وكيانات صغيرة إما أن تنضم بدورها إلى التنظيمات الأخرى القائمة خصوصاً الشيعية منها، وسيكون هذا البديل الأرجح في حال نزع أسلحة الحزب بالفعل إذ سيصعب على عناصره الاحتفاظ بهويتهم المرتبطة بالحزب من دون غطاء عسكري يحميها. وفي النطاق ذاته لكن بصورة مغايرة، يمكن للحزب أن يتعرض لحال من الذوبان في الحياة السياسية اللبنانية لكن من دون ظهور واضح يميز أعضاءه داخل مفردات الساحة اللبنانية، ومما يساعد على نجاح هذا الخيار ومقبوليته لدى الحزب ولدى الدولة للبنانية أن تدمج قوات الحزب في الجيش اللبناني مما سيجعل مسألة التخلي عن الهوية العسكرية للحزب ومصدر قوته غير مجانية، وعندها لن يكون لدى عناصر الحزب رغبة أو ضرورة للانضمام إلى كيانات أخرى خشية الذوبان فيها من جهة ولوجود خط رجعة قائم عند الضرورة ألا وهو استجماع قوة الحزب مرة أخرى واستخلاصها من بين صفوف القوات اللبنانية النضامية إذا اقتضت الأمور ذلك. العمل السري: وهو ليس سيناريو منفصلاً عن سابقيه، فالواقع أنه الأكثر احتمالاً للتحقق لأنه يواكب السيناريوات كلها وسيلازمها على الأرجح. فمعلوم أن أي تحول في الوضع الراهن للحزب يعد في التحليل الأخير انتقاصاً من قوته وأوراقه داخل لبنان وخارجه، ومعلوم أيضاً أن نزع سلاحه وتجريده من قوته العسكرية التي تؤرق إسرائيل يعني ببساطة انتهاء"مرحلة حزب الله"حتى وإن اكتسب شرعية سياسية أو لعب أدواراً أخرى غير دور المقاومة المسلحة. وحيث ينطلق تعامل الحزب مع العدو الإسرائيلي من منطلق عقدي أولاً قبل أن يكون سياسياً فإن إدراك الحزب للخطر الإسرائيلي عموماً والغربي خصوصاً يجعل من العسير عليه التخلي عن امتلاك قدرة الردع والعودة عند اللزوم إلى العمل المسلح. بيد أن هذا السيناريو على رغم من أنه الأكثر واقعية فهو أيضاً الأكثر صعوبة، إذ سيعني أن عقبات وقيوداً كبيرة ستواجه الحزب لأنه سيعامل في هذه الحال من معظم الأطراف المعنية كمنظمة سرية تفتقد الشرعية. من هنا يأتي التوقع بأن يكون هذا السيناريو مواكباً وليس منفصلاً عن سيناريو التسييس أو التفكك. ومما يجعل من هذا السيناريو قابلاً للتطبيق في كل الأحوال أن القواعد الشعبية للحزب واسعة والقدرة التنظيمية له عالية، ومن الطبيعي أن يستفيد الحزب من هذه الميزات في تدعيم الحضور السياسي وحماية الذات عبر توفير غطاء من القوة المادية غير المعلنة يمكن اللجوء إليه عند الضرورة. * كاتب وباحث مصري.