تسلم الكاتب التركي أورهان باموك مساء الخميس الفائت جائزة"نوبل"التي فاز بها هذه السنة في حفلة أقامتها على شرفه الأكاديمية الملكية في السويد. وألقى باموك كلمة باللغة التركية استغرقت نحو ساعة وعنوانها:"حقيبة أبي". هنا ترجمة لمعظم ما ورد في هذه الكلمة التي تعد بمثابة وثيقة أدبية. أعطاني أبي، قبل وفاته بسنتين، حقيبة صغيرة مملوءة بكتابات له ومخطوطات يدوية ودفاتر. قال لي بلا مقدمات، ومتذرعاً بمزاجه المألوف المرح والساخر، بأنه يريدني أن أقرأ ما في الحقيبة بعد موته. "إلقِ نظرة عليها"، قالها بخجل هفيف،"لترى إن كان فيها ما ينفع، لعلك تختار منها ما يستحق النشر بعد موتي". كنا في مكتبي، تحيط بنا الكتب. تحرك أبي داخل المكتب عاجزاً عن تحديد مكان يضع فيه حقيبته، كشخص يتوق للتخلص من عبء شديد الخصوصية ومؤلم جداً. ثم ترك الحقيبة بهدوء في ركن لا يلفت الانتباه. ما أن انقضت تلك اللحظة التي لا تنسى وأحرجت كلانا، حتى استعدنا معاً دورينا المألوفين وشخصيتينا المرحتين الساخرتين اللتين لا تحملان الحياة على محمل الجد كثيراً، الأمر الذي أراح كلانا. أخذنا نثرثر كالمعتاد عن الطقس والحياة ومشكلات تركيا السياسية التي لا تنتهي وعن أعمال أبي التي كثيراً ما انتهت إلى الفشل، من غير أن يثير ذلك فينا الكثير من الشجن. أتذكر أنني، بعد انصراف أبي، بقيت بضعة أيام أدور حول حقيبته من غير أن ألمسها. كنت على معرفة بهذه الحقيبة الجلدية الصغيرة السوداء، منذ طفولتي، وأعرف قفلها وزواياها المدورة. فقد كان أبي يحملها في أسفاره القصيرة أو عندما ينقل شيئاً فيها من البيت إلى مكان العمل. سأتحدث الآن عن معنى الثقل المذكور. إنه معنى ما يعمله شخص يختلي في غرفة ويجلس أمام طاولة أو ينزوي في مكان ما، ليعبّر عن نفسه بالورقة والقلم، عنيت بذلك الأدب. نعم، بقيت عاجزاً عن الاقتراب من حقيبة أبي وفتحها، لكنني كنت أعرف بعضاً من الدفاتر التي فيها. سبق ورأيت أبي وهو يكتب شيئاً ما في بعض منها. لم تكن محتويات الحقيبة، إذاً، شيئاً أحس بثقله للمرة الأولى. كان جدي لأبي رجل أعمال ثرياً. عاش أبي طفولة وشباباً مرتاحين، فلم يشأ أن يعاني ويكابد في سبيل الأدب والكتابة. كان يحب الحياة بكل مباهجها، وأنا أتفهم ذلك. الهاجس الأول الذي منعني من الاقتراب من محتويات الحقيبة، كان بالطبع خشيتي من ألا يعجبني ما سأقرأه. ولأن أبي يعرف ذلك أيضاً، كان قد احتاط للأمر فتصرف بمزاج من لا يحمل الأمر على محمل الجد. أسفت لرؤية ذلك، أنا الذي قضيت ربع قرن من حياتي في الكتابة. لكنني لم أرغب حتى بالحنق على أبي بسبب عدم حمله الأدب على محمل الجد... خشيتي الحقيقية، أو ما هربت حتى من الاعتراف به، هو احتمال أن أكتشف أن أبي كاتب جيد. هذا هو السبب الحقيقي وراء عجزي عن الاقتراب من حقيبة أبي وفتحها. وكنت، فوق ذلك، أخفي هذا السبب عن نفسي. ذلك لأنه إذا انكشفت الحقيبة عن أدب حقيقي وعظيم، سيتعيّن عليّ القبول بوجود شخص آخر داخل أبي، مختلف عنه كل الاختلاف. إنه شيء مخيف، لأنني حتى في عمري المتقدم هذا، أريد لأبي أن يبقى أبي وحسب، وليس كاتباً. شعرت، وأنا أضيف كلمة بعد كلمة على الصفحة البيضاء أمامي، والأيام والشهور والسنوات تمضي، جالساً أمام طاولتي، بأنني أبني لنفسي عالماً جديداً، وأكشف عن شخص آخر في داخلي، كمن يبني جسراً أو قبةً، لبنة بعد لبنة. في رأيي أن سر الكتابة ليس في الإلهام الذي لا يعرف أحد من أين يمكن أن يأتي، بل في العناد والصبر. يبدو لي ذلك التعبير التركي الجميل،"حفر بئر بإبرة"، وكأنه وجد لوصف عمل الكاتب. في روايتي"اسمي الأحمر"تحدثت عن نقّاشي إيران القدماء الذين رسموا الحصان نفسه بإخلاص، طيلة سنوات، فحفظوه عن ظهر قلب، بل باتوا قادرين على رسم حصان جميل مغمض العينين. أعرف أنني كنت بذلك أتحدث عن مهنة الكتابة، أي عن حياتي. كنت خائفاً من فتح حقيبة أبي وقراءة دفاتره، لمعرفتي بأنه لن يورط نفسه أبداً في الأزمات مثلي، وبأنه يحب، ليس الوحدة، بل الأصدقاء والصالونات والجموع والمرح ومخالطة الناس. لكنني فكرت، بعد ذلك، باحتمال آخر: من المحتمل أن هذه الأفكار، أي تأملاتي عن الصبر والمعاناة، لا تعدو كونها أحكاماً مسبقة استنبطتها من تجربتي الخاصة في الحياة والكتابة. فثمة كثير من الكتّاب اللامعين ممن كتبوا وسط محيط عائلي واجتماعي ومباهج الحياة وبريقها. فضلاً عن أن أبي سبق، في فترة من فترات طفولتي، وضاق ذرعاً برتابة الحياة الأسرية، فغادرنا إلى باريس حيث ملأ دفاتر كثيرة في غرف الفنادق مثل الكثير من الكتّاب. كنت أعرف أن بعضاً من تلك الدفاتر موجود في الحقيبة، لأن أبي كان قد بدأ يحدّثني عن تلك المرحلة من حياته في السنوات القليلة التي سبقت استلامي لحقيبته. في طفولتي أيضاً كان يحدثني عن المرحلة المذكورة، لكنه كان يتكتم على هشاشته ورغبته في أن يصبح شاعراً أو كاتباً وأزمات البحث عن ملامحه الخاصة التي راودته في غرف الفنادق. بات يحدثني، في سنواته الأخيرة، عن رؤيته لسارتر بكثرة على أرصفة باريس، وعما قرأه من كتب أو ما شاهده من أفلام بصدق وحماسة من ينقل إليك أخباراً في غاية الأهمية. لن أنسى أبداً أنني مدين جزئياً، في احترافي الكتابة، لأب كان يتحدث في البيت عن كتّاب العالم أكثر مما عن الباشوات أو رجال الدين. ربما كان عليّ أن أقرأ دفاتر أبي وأنا أفكر بذلك، وأتذكر مدى مديونيتي لمكتبته الكبيرة. كان عليّ أن أنتبه إلى رغبة أبي - في الفترة التي كان يشاركنا فيها الحياة - في الاختلاء في غرفة وإقامة علاقة حميمة مع الأفكار والكتب، مثلي تماماً، من غير أن أهتم كثيراً بالقيمة الأدبية لما يكتب. ولكن هذا بالضبط ما كنت عاجزاً عنه. شعرت بذلك وأنا أنظر بقلق إلى الحقيبة التي تركها لي. كان أبي يضطجع أحياناً على الأريكة المنتصبة أمام مكتبته ويضع جانباً الكتاب أو المجلة اللذين يحملهما، ويغرق في أفكاره وتأملاته لبرهة طويلة، ويظهر على وجهه تعبير يختلف كل الاختلاف عما أراه في الحياة اليومية المألوفة التي تمضي في الممازحات والتعليقات الساخرة والمشاحنات الصغيرة. في عينيه نظرة من يتوغل في أعماق دخيلته. كنت أفهم من تعبير وجهه هذا، أن أبي غير مرتاح فينتابني قلق، وبخاصة في طفولتي وشبابي المبكر. اليوم، وبعد انقضاء سنوات، أعرف بأن ذلك الشعور بالضيق الذي لاحظته عند أبي، هو أحد الحوافز الأساسية التي تصنع كاتباً. إن القدوة الكبيرة الأولى للكاتب الحر المستقل الذي يقرأ الكتب باستمتاع ويناقش أفكار غيره وهو يصغي إلى صوت ضميره فقط، ويبني أفكاره وعالمه الخاصين في حواره المتواصل مع الكتب، إنما هو مونتانييه الذي هو نقطة انطلاق الأدب الحديث. كان أبي يعيد قراءة مونتانييه المرة بعد المرة وينصحني بقراءته. أريد أن أرى نفسي بوصفي جزءاً من التراث الأدبي للكتاب الذين ينفصلون عن الجماعة ويختلون في غرفة مع الكتب، وهم وجدوا في كل بقاع الأرض بمشارقها ومغاربها. يبدأ الأدب الحقيقي، بالنسبة إليّ، حيثما وجد أشخاص اختلوا في غرفة مع كتبهم. الكاتب الذي اختلى بكتبه في غرفة، وانطلق في البداية في رحلة داخلية، سوف يكتشف، مع مرور السنوات، القاعدة التي لا غنى عنها لجودة الأدب: الأدب هو موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخص آخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة. ولكي ننجح في ذلك، فإننا ننطلق من حكايات الآخرين وكتبهم. كان أبي يملك مكتبةً من ألف وخمسمئة كتاب، قادرة على تلبية ما يزيد على حاجة كاتب. ربما لم أكن قد انتهيت من قراءة كل تلك الكتب في الثانية والعشرين من عمري، لكنني كنت أعرفها جميعاً. كنت أعرف أيها مهم وأيها خفيف وسهل القراءة وأيها كلاسيكي وأيها مما لا يمكن للتراث العالمي أن يستغني عنه وأيها شاهد على التاريخ المحلي، سيطويه النسيان لكنه مسلّ، وأيها لكاتب فرنسي منحه أبي اهتماماً كبيراً. إن عالمي هو مزيج من عالم محلي وطني وآخر غربي. بدءاً من عقد السبعينات، بدأت بدوري أكوّن لنفسي مكتبة طموحة. لم أكن قد قررت بعد، بصورة نهائية، أن أحترف الكتابة. كنت قد بدأت أدرك بأنني لن أصبح رساماً، كما قلت ذلك في كتابي:"اسطنبول"، لكنني لم أكن أعرف بالضبط أي طريق ستتبعها حياتي. كنت من جهة أشعر في داخلي بفضول عارم نحو كل شيء، ونهم مفرط التفاؤل للقراءة والتعلم، وأحس، من جهة أخرى، بأن حياتي ستكون"منقوصة"بطريقة ما، وبأنني لن أحيا كالآخرين. كان هذا الشعور يعود جزئياً إلى فكرة الوجود بعيداً عن المركز، بالطريقة نفسها التي كنت أحس بها وأنا أنظر إلى مكتبة أبي، وجزئياً إلى الشعور بأننا نعيش في ريف العالم، وهو شعور دفعتنا اسطنبول جميعاً إلى الإحساس به في تلك السنوات. ثمة هاجس آخر من هواجس الحياة المنقوصة، يتعلق طبعاً بمعرفتي المفرطة بأنني أعيش في بلد لا يمنح مبدعيه، رسامين كانوا أو أدباء، الكثير من الاهتمام، ولا يمنحهم الكثير من الأمل. الشعور الأساسي الذي كان ينتابني، في تلك الفترة، بصدد موقعي في العالم، هو هذا الشعور بالهامشية أو الوجود خارج المركز، سواء في الأدب أو في الحياة الواقعية. كنت أدرك بوجود حياة أكثر غنى وجاذبية في مركز العالم، مقارنة بالحياة التي نعيش، وبأنني خارج تلك الحياة، ومعي في ذلك كل سكان اسطنبولوتركيا. وأفكر اليوم بأنني أتقاسم هذا الشعور مع غالبية كبيرة من سكان العالم. بالطريقة نفسها، عرفت أن ثمة أدباً عالمياً له مركز بعيد جداً عني. كان في ذهني، في الواقع، الأدب الغربي، لا الأدب العالمي. ونحن الأتراك كنا خارج هذا أيضاً. تؤكد هذه الحقيقة مكتبة أبي أيضاً. ففي جانب منها كان عالمنا المحلي ممثلاً بكتب اسطنبول وأدبها، هذا العالم الذي أحببته بكثير من تفاصيله، ولا أملك القدرة على التخلي عن حبه"وفي الجانب الآخر كتب عالم الغرب الذي لا يشبه في شيء عالمنا، ويمنحنا اختلافه الألم والأمل معاً. كانت الكتابة والقراءة تبدوان لي بمثابة خروج من أحد هذين العالمين، بحثاً عن العزاء في اختلاف الآخر وغرابته وخروجه على المألوف. كنت أشعر، في بعض الأحيان، بأن أبي يقرأ الروايات في محاولة منه للهروب من العالم الذي يحيا فيه إلى الغرب، تماماً كما سأفعل أنا في ما بعد. أو أن الكتب بدت لي في تلك الفترة، كوسائل نلجأ إليها لتلافي هذا النوع من الشعور بالنقص ذي الطابع الثقافي. ليست القراءة وحدها، بل بدت الكتابة أيضاً نوعاً من السفر من استانبول إلى الغرب. سافر أبي إلى باريس، وأغلق على نفسه باب غرفته في الفندق، ليتسنى له ملء كثير من دفاتر الحقيبة، ثم عاد بما كتبه إلى تركيا. انتبهت إلى ما يسببه ذلك لي من ضيق وأنا أنظر إلى حقيبة أبي. بعد ربع قرن سلختها من عمري في غرفة أغلقتها على نفسي، لكي أبقى واقفاً على قدمي ككاتب في تركيا، بدأت أتمرد، وأنا أنظر إلى حقيبة أبي، على واقع أن الكتابة بحرية وكما تنبع من ذاتنا، هي عمل يتوجب القيام به خفية عن المجتمع والدولة والشعب. وربما لهذا السبب، بصورة خاصة، شعرت بالحنق على أبي، لأنه لم يحمل الكتابة على محمل الجد بقدر ما فعلت. الواقع أنني شعرت بالحنق عليه لأنه لم يعش حياة كحياتي، ولم يجازف بأصغر صدام من أجل أي شيء كان، وعاش بسعادة في قلب المجتمع وهو يضحك مع أصدقائه وأحبائه. لكنني أدركت، من جهة أخرى، بأن كلمة"الحسد"هي أكثر تعبيراً عن مشاعري من كلمة"الحنق"، وهذا ما سبب لي ضيقاً أكثر. ترجمة: بكر صدقي عن التركية