على خلاف إدعاءات كثيرة، لم ترحب الحكومة السورية ولم تحتفل بخطف"حزب الله"جنديين اسرائيليين في 12 تموز يوليو الماضي. وتزعم التهمة أن دمشق أرادت تحويل الاهتمام عن نظام بشار الأسد فأوعزت الى حليفها اللبناني ببدء الحرب التي أدت الى ما أدت اليه من خراب ودمار. والحق أن زعيم"حزب الله"السيد حسن نصرالله، لم يصدر عن أمر بشار الأسد عندما أقدم على ما أقدم عليه. فمنذ الانسحاب السوري من لبنان، في 2005، صار"حزب الله"أكثر استقلالاً عن دمشق. الأرجح أن كبار المسؤولين السوريين لم يكونوا على علم بعملية 12 تموز. ولكن دمشق سرعان ما أدركت وجوه استفادتها من الازمة الاقليمية. فالحكومة السورية، وإن لم تخطط لإشعال حرب، إلا أن الحرب كانت فرصة انتهزتها السلطة فهددت بتوسيع الحرب الى الشرق الأوسط اذا عزلت سورية أو ضرب عليها الحصار. ويقتضي فهم سياسة سورية في أثناء الحرب فحص التحديات الداخلية والاقليمية التي تواجهها. فمنذ تسلم بشار الأسد مقاليد الحكم، خلفاً لوالده، ضعفت مؤسسات الدولة، وخسرت كثيراً من قوتها وسلطتها. ولم يستجب النظام حاجات الاصلاح. والخطوات القليلة على طريق التحرير الاقتصادي صاحبها وطغى عليها قمع المعارضين المستمر، واستشراء الفساد استشراءً غير مسبوق. وضربت أخطاء سورية المتصلة طوق عزلة على البلد، دولياً واقليمياً. وأحد الاخطاء هو استخفاف دمشق بالغضب الأميركي من تواطؤ السلطات السورية مع المتمردين العراقيين. وأساء بشار الأسد تقدير رد الفعل اللبناني والعالمي على قراره تمديد ولاية الرئيس اللبناني اميل لحود. وأخفق في استباق العاصفة التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، وأجبرت القوات السورية على الانسحاب من لبنان. ومن وجه آخر، فإن أزمة العراق تمتد آثارها تدريجاً الى سورية. فعلى رغم السعي في ضبط الحدود، ثمة شبان كثر يجنّدون في المساجد السورية ويعودون الى سورية، وقد يكون نظام الأسد هدفهم التالي. ولا شك في أن المنازعات الطائفية في العراق تهدد الاستقرار السوري. فسكان سورية 50 في المئة منهم من السنّة، و 20 في المئة من الأكراد السنّة، والباقون علويون ومسيحيون ودروز. وفي المقارنة بين دول الجوار، تبدو سورية أكثر تسامحاً مع تنوعها الطائفي. ولكن الامتعاض السني يتعاظم جراء تعاظم النفوذ الشيعي. والمال الايراني يتدفق الى البلاد، ويشتري أصحابه العقارات، ومنها عقارات في جوار مسجد الأمويين بوسط دمشق. وتحاول دول عربية نافذة تقويض الرابطة بين سورية وايران، للحؤول دون قيام"هلال شيعي". وإيران هي سند"حزب الله"، تمويلاً وتسلحاً وتدريباً وقيادة روحية. وما على سورية إلا حراسة الطرق الآمنة بين طهرانولبنان. ولكن طهران لم تكن يوماً المشرف المباشر على خطط الحزب الميدانية. وتولت دمشق هذا الوجه من المسألة. والى العام الماضي، كانت تتمتع أجهزة الاستخبارات السورية في لبنان بنفوذ مطلق على نشاط"حزب الله"السياسي والعسكري. وحرص غازي كنعان، رئيس الاستخبارات السابق والراحل، مفوضاً سامياً، وهو حمل الحزب على قبول"تفاهم نيسان"في 1996، وأنهى ذلك الحرب مع اسرائيل. وسرى التفاهم سنوات. ولكن أمرين بارزين غيرا الوضع. أولاً، توفي حافظ الاسد، وخلفه بشار، في العام 2000. وحصل هذا بعد شهر على الانسحاب الأحادي الاسرائيلي من جنوبلبنان. ونسب"حزب الله"الى نفسه الانتصار على اسرائيل. وفيما حرص الأب على بقاء زمام"حزب الله"بيده، رفع الابن الحزب الى مرتبة الند، وقربه على رجاء الاستفادة من شعبيته. وحلّ نصرالله ضيفاً على القصر الرئاسي السوري، على الرحب والسعة. وعلقت صوره الى جنب صور بشار في شوارع دمشق. وهذا ما لم يكن الأسد الاب ليرضى به. ويبقى الانسحاب السوري من لبنان غداة اغتيال رفيق الحريري و"ثورة الارز"، الامر الأكثر خطورة. وحين فقدت سورية جهازها العسكري والامني بلبنان وانقطعت شحنات السلاح، صارت وسائل ترغيب"حزب الله"أقل أثراً. وفي الجلسات الخاصة، يعبر مسؤولون سوريون كثر عن امتعاضهم من خطف الجنديين في تموز يوليو الماضي. ولكنهم، لحسن حظهم، عرفوا كيف يفيدون من الحادثة ويستثمرونها في حسابهم الاستراتيجي. فامتنعت سورية من أي خطوة قد تفاقم الازمة. فحدا هذا الاوروبيين الى التفكير في اشراك دمشق في الحلول، بدل عزلها. وأساليب سورية في التفاوض معروفة. فهي لا تفصح عن خططها ووسائلها ما لم تكن واثقة من استعمالها. فأرسلت إشارات يفهم منها أنها قد تضطلع بدور بنّاء وايجابي. وهذا ما قصده وزير الخارجية الاسباني، ميغيل انخيل موراتينوس، بعد لقائه مسؤولين سوريين، بقوله ان سورية تريد أن تكون"جزءاً من الحل وليس من المشكلة". الحق أن في وسع سورية الخطوخطوات تؤدي الى تثبيت استقرارها، منها قبول تبادل السفارات مع لبنان، وتوقيع وثائق دولية تقر بأن مزارع شبعا أرض لبنانية. ويسع دمشق على الصعيد الاقليمي، استخدام نفوذها لدى الفصائل الفلسطينية لدعوتها الى استئناف الحوار البنّاء، وتشكيل حكومة وحدة وطنية. ويمكنها أن تتعاون مع الحكومة العراقية على دعم الأمن ومراقبة الحدود. فهي كانت ملاذاً آمناً للمعارضين العراقيين وأموال المسؤولين السابقين. وفي الاثناء يمكن اعتبار علاقة سورية بإيران زواج مصلحة يدوم طالما الطرفان معزولان. ولكن أهداف دمشق ومصالحها تختلف عن أهداف طهران ومصالحها. وكان مسؤول سوري قال:"نحن نريد عملية سلام أما هم فيرفضون". وأوضح المسؤولون السوريون، غير مرة، أنهم يريدون استئناف التعاون مع الغرب في الشؤون الاقليمية. فهم يريدون من الولاياتالمتحدة أن تكف عن عزل سورية، وعن تهديد نظام الأسد بالتغيير. ويريد السوريون استعادة دورهم في المنطقة، وأراضيهم المحتلة، من طريق عملية سلام جديدة. وكان مسؤول رفيع في حزب البعث قال انه"بعد الانسحاب من لبنان، ظن الغرب أن النظام مات". فاستخدمت دمشق"حماس"و"حزب الله"ذريعة الى القول انها لا تزال على قيد الحياة. فإذا اطمأن النظام السوري الى أمنه، كان أيسر حمله على اعتبار"حزب الله"جزءاً من البنيان اللبناني وعلى تحسين علاقته بدول الجوار والغرب. ولا تشعر سورية بالأمان ما لم يتعاط المجتمع الدولي معها في ضوء أهدافها الوطنية وحساباتها الداخلية. عن فولكر بيرتس، "فورين أفيرز" الاميركية، 11 / 12/ 2006