لسنا من دعاة الانتقام الفج والموقف الثأري البدائي والنزعة السادية الى الاقتصاص من الآخر، فالعقوبة ردع واصلاح وتناسبها مع الجريمة مبدأ حاسم رشحه علم الاجرام المعاصر، ولذلك فإن المحكمة الجنائية العليا في العراق هي فتح جديد في تاريخ القضاء العراقي منذ قيام النظام الجمهوري في 14 تموز يوليو 1958 ولغاية الآن، فالعهد الجمهوري أثقل بالمحاكم الخاصة والعسكرية ومحاكم الثورة وتلك التي تحكم باسم الشعب وكلها كانت تشكل خروقاً على أصول القضاء العادل والنزيه والبعيد عن مصالح النظام الحاكم وإرهابه. وفي عهد صدام حسين أصبحت هذه المحاكم هي القاعدة، ليصبح القضاء المدني هو الاستثناء. ولذلك، فإن صدور حكم الإعدام على صدام حسين بعد 38 جلسة وبعد الاستماع الى 68 شاهداً في قضية الدجيل تمتع فيها المتهمون بكل الحقوق والامتيازات التي يتيحها لهم القانون يعني بالضرورة اسدال الستار على حياة قانونية وقضائية شابتها العشوائية والصورية والقسوة والانتقام طوال 35 عاماً من الحكم الديكتاتوري. ان الحكم بإعدام صدام حسين هو انتصار للضحايا على الجلاد وللمظلومين على ظالم اختزل العراق والقضاء والقانون كله في نفسه، حين صرح ذات يوم ان"القانون ورقة يكتبها ويوقعها صدام حسين". وقانون صدام حسين هو الذي ألغى قانون العقوبات البغدادي الصادر إبان الانتداب البريطاني والمستمد اساساً من الفقه القانوني البريطاني والفرنسي، بقانون عقوبات ألغى في أغلب الأحوال تراتبية العقوبة وحصرها في عقوبة الإعدام وجوباً أمام محاكم مشكلة بأوامره. أما الطابع الشخصي والحصري للعقوبة فقد غاب هو الآخر عن قانون عقوبات صدام حسين، فأصبح أقارب المتهم الى الدرجة الرابعة يعاقبون من دون إثم أو ذنب ارتكبوه. ومع ذلك، تلقى صدام حسين درساً في العدالة التي حتمت إدانته بالإعدام ولكنها كانت عدالة متمتعة بأقصى درجات الصبر والأناة لمنح الجيل العراقي الجديد فرصة الخروج من أسر ثقافة العنف التي تسود الشارع العراقي حالياً وتحصد الأخضر واليابس ويلعب فيها بقايا حزب البعث ومدرسة صدام الدموية الدور الأساسي والمحوري. وكان حرياً ب"رمزي كلارك"وزير العدل الاميركي السابق، والمدافع المتحمس عن الديكتاتور وقبله وزير الداخلية الألماني السابق"اوتو شيلي"الذي أعلن استعداده للدفاع عن صدام حسين، ان يمعنا النظر في دموع وآلام الشعب العراقي ومعاناته قبل ان ينطقا بكلام يثير المشاعر. ان الرابح الاساسي من صدور حكم الاعدام ليس فقط الشعب العراقي، بكل أطيافه السياسية والاثنية، وانما حزب البعث نفسه، فهذا الحزب الذي أختزل في شخص صدام حسين وعائلته، لديه الآن فرصة للخروج من سياقات فكرية حنطت فكره وجمدت تطوره واوقفت حركيته نظراً لما اشاعته المدرسة الصدامية البدائية من أساليب القمع والقهر والارهاب والقتل والاقصاء داخل الحزب والتي استهلت بصعود صدام عام 1979 الى الموقع الأول ليقرر حينها حصاد رؤوس أكثر من عشرين رفيقاً قيادياً مرسخاً مقولة ان القتل والتصفية الجسدية هما الطريق للصعود وليس من خلال طريق مزروع بالانجازات والمآثر الحقيقية. ولعل صدور حكم الإعدام يدعو بقايا حزب البعث الى مراجعة ماضيه وغربلة تاريخه. وصدور الحكم هو أصعب قرار اتخذه القضاء العراقي على الاطلاق وهو أداة للوئام والسلام والاستقرار في المجتمع العراقي، والأمر سيّان سواء نفذ القرار أم لم ينفذ فالمهم ان القضاء العراقي انتصر للضحايا وقال الحق دونما خوف أو خجل وتحلى بمنتهى الشجاعة والموضوعية حين قسّم العقوبات وفق درجة المشاركة في الفعل الجرمي، مقدماً سابقة قضائية على قدر كبير من الحيادية والنزاهة. يبقى أن نقول ان هذا الحكم القضائي ينبغي أن يتحول الى سبب لوقف العنف ودورته البشعة، وليس استهلالاً لدورات جديدة من القتل الطائفي، وهنا يجدر بقادة الطائفة السنية أن لا ينظروا الى الحكم وكأنه صادر بحقهم وان تفصل بين طموحاتهم المشروعة في المشاركة الفاعلة في العملية السياسية وبناء العراق الجديد، وبين الهوية المذهبية للمتهمين والمحكومين بالاعدام. ان نقطة الضعف الأساسية في هذه المحاكمة انها تتزامن مع حرب أهلية يقودها ويحرض عليها حزب البعث العراقي، كما ذكرت بحق صحيفة"الدايلي تيلغراف"البريطانية يوم 28/9/2006، وذلك بعكس محاكمات نورنبرغ في خريف 1946 التي جرت وسط انتصار حاسم على الفاشية والنازية وقناعة المجتمع البشري بجدوى خوض الحرب ضد مذهبين ايديولوجيين الحقا الدمار بالإنسانية. ولذا فوقوف الشعب العراقي بكل فئاته وراء القضاء العراقي يعني وضع حجر الزاوية الأول في البناء الديموقراطي للعراق الراهن. ان الجميع في النهاية هم رابحون من صدور الحكم بالاعدام على صدام، فالعراق أصبح من القوة لأول مرة منذ تأسيسه، بحيث يحاكم رؤساءه وهم احياء، وحزب البعث أدرك بهذا الحكم أنه أعجز من أن يغتال العدالة الى النهاية، أما الضحايا الذين خرجوا الى شوارع المدن الكردية وفي مدن جنوبالعراق فإنهم فارقوا مرارة الجرائم وذكريات القمع واصبحوا أكثر اقتناعاً بإمكانية بناء عراق آخر. * كاتب كردي