يشهد الدينار العراقي اليوم سعر صرف يتحسن تدريجاً. فقد ارتفع سعره من 0.000676 دولار للدينار في اوائل تشرين الثاني نوفمبر الى 0.00069 دولار في اواخره. بمعنى عدد الدنانير للدولار الواحد انخفض من 1480 ديناراً الى 1440 ديناراً للدولار خلال الفترة المذكورة. يذكر ان سعر الصرف كان في السبعينات 3.20 دولار للدينار الواحد أي أكثر من السعر الحالي بأربعة آلاف وستمائة مرة. يبدو ان الحكومة العراقية تخطط الآن للوصول بسعر الصرف الى 1000 دينار/ دولار، أي بمقدار الثلث تقريباً. وانها ترغب في جعل ذلك تدريجاً، متفادية الرفع الفجائي، وآخذة العبرة من التراجع الفجائي الكارثي الذي حدث في اوساط التجار ورجال الاعمال والمال في عام 1995، وما صاحبه من اضطراب مالي وتجاري واعلان افلاسات وانهيارات تجارية ومصرفية. ان الرفع الحالي اذا تم لسعر الصرف من 1480 دينار الى 1000 دينار للدولار ستترتب عليه استفادة فئات من الناس وخسارة فئات اخرى في العراق، كما يأتي: الخاسرون: أ- اصحاب المدخرات بالدولار. اذ دفع ضعف ثقة المدخرين بالدينار اعداداً كبيرة منهم للاحتفاظ بالجزء الأكبر من مدخراتهم بالدولار. ومن بين هؤلاء تجار وصناعيون. وعندما سيحتاجون الى تحويل مدخراتهم الى الدينار سيحصلون على دنانير. ب- المقاولون في مشاريع مسعرة بالدولار: فهؤلاء يستلمون دولارات، لكن غالبية نفقاتهم ومشترياتهم المحلية تكون بالدينار عادة، ومن ذلك اجور العاملين لديهم ومبالغ مشترياتهم من المواد المحلية المنشأ، كما هي حال مقاولي البناء والانشاء وما يشترونه من مواد انشائية وبنائية محلية طابوق، تربة، رمال، حصى. فعندما قدموا عروضهم كانوا قوموا تكاليف مقاولاتهم بسعر الصرف السائد قبل ارتفاع قيمة الدينار، والآن عليهم ان يدفعوا بسعر الصرف الجديد وفي هذا خسارة لهم. وعندما يستلمون متبقيات استحقاقات مقاولاتهم بعد تسليم العمل سيستلمون دولارات. ج- المقرضون بالدولار: فهؤلاء سيستردون قروضهم مقومة بأقل من قيمتها قبل رفع سعر الدينار. د- المقترضون بالدينار: إذ سيسددون ديونهم عند الاستحقاق بدنانير ذات قوة شرائية دولارية اكبر من قوتها في تاريخ الاقراض، فدينار التسديد يزيد على دينار الاقراض بنسبة الثلث تقريباً. عندما حدث الانهيار الكبير عام 1995، اعلان آلاف التجار إفلاسهم وبذمتهم ديوناً للآخرين فكانت كارثة لهم. ه- الموظفون والعاملون بالدولار. و- المؤجرون عقاراتهم ببدلات ايجار بالدولار بينما نفقاتهم تحتسب بالدينار. ز- المستأجرون عقارات بالدينار، بينما مداخيلهم بالدولار. الرابحون: أ- أصحاب المدخرات بالدينار، كونهم سيستطيعون شراء دولارات اكثر. ب- الموظفون والاجراء بالدينار كونهم سيستلمون الأجر ذاته لكن قوته الشرائية اكبر وسعر صرفه افضل. ج- المنتجون: كونهم سيبيعون منتجاتهم بالدينار الأقوى. د- المقترضون بالدولار ومدخراتهم بالدينار: كونهم سيسددون مبالغ ديونهم وفوائدها بدولارات ارخص. ه- المتقاعدون: سيستفيدون بزيادة سلة مشترياتهم بالراتب ذاته. و- المشمولون ببرنامج شبكة الحماية الاجتماعية حالة المتقاعدين ذاتها. ز- المؤجرون عقاراتهم بعقود ايجار بالدينار. ح- المستأجرون عقارات بايجارات بالدولار ومداخيلهم بالدينار. ما يعني أن رفع سعر صرف الدينار سيفيد بعضهم ويضر البعض الآخر. يذكر ان التصاعد المتواصل الرهيب الذي حدث في الاسعار في حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي في العراق لم يكن بسبب زيادة قيمة النقود بذاتها، وانما لكون تلك الزيادات من دون رصيد حقيقي يقابلها، او متانة اقتصاد وطني ودخل قومي او ناتج محلي يدعمها، فكان سلوك الدولة في اصدار العملة مثل سلوك تاجر يصدر صكوكاً من دون رصيد يفي بقيمتها الاسمية، فضلاً عما كان من قيود تجارة وتحويل خارجي. وإلا فان كمية النقد المتداول في بلد كاليابان هي اكثر من كمية العملة العراقية كرقم مطلق في التداول. أما في مرحلة ما بعد الحرب، فان الرصيد اصبح مستوفى، لكن مصدر ارتفاع الاسعار هو ارتفاع الكلفة ونقص العرض. فقد زاد مثلاً متوسط أسعار الخضار والفواكه العراقية هذه السنة بنسبة 100 في المئة عن مستوى العام 2005، لكن السبب هو النقص في الانتاج. ويقول الخبير الزراعي جابر أبو العيس وزارة الزراعة ان نسبة التنفيذ في الخطة الزراعية لعام 2006 بلغت 17 في المئة من المخطط. كذلك ارتفعت اسعار منتجات الدواجن المحلية بنسبة الضعف هذه السنة عن عام 2005. اما السبب فكان توقف صناعة الدواجن. وهو التوقف الذي نشأ عن اجراءات مكافحة انفلونزا الطيور ومنع استيراد هذه المنتجات من بلدان كثيرة. يضاف الى ذلك ارتفاع تكاليف الطاقة والوقود وكلفة النقل بمقدار الضعف او اكثر. وكذلك الاتاوات الخوّات التي يدفعها المستوردون والمنتجون والناقلون الى العصابات وقطاع الطرق، ومنها اتاوات وفديات الاختطاف. وكذلك الرشاوى والفساد الاداري والتحالفات بين رجال الاعمال والمسؤولين الحكوميين، اضافة الى ارتفاع الاجور، وارتفاع اسعار وفوائد القروض التي تسبب بها البنك المركزي. فزاد بذلك كلفة الانتاج ومعدلات التضخم. وهي عوامل تخص جانب الكلف وجانب العرض وندرته وليس الطلب. وبذلك فأن مقولة"نقود كثيرة تبحث عن سلع قليلة"لا تسري هنا. ان مصدر التضخم الحالي ارتفاع الكلفة ونقص العرض. وقد تحقق اليوم للبلاد أرصدة تغطي القيمة الاسمية للنقود وناتج محلي يدعمها. لكن يبقى امامها خياران. اما ان تزيد الكمية عدد الوحدات بمقدار الثلث وتزيد الرواتب والاجور وتوسع شبكة الحماية الاجتماعية البائسة وتحسنها لتشمل اعداداً اضافية من المسحوقين الذين يعيشون بمبلغ نصف دولار لليوم الواحد للفرد وعددهم يزيد على اربعة ملايين نسمة. أو ترفع سعر صرف الدينار بمقدار الثلث كما تخطط له الآن. في الحالة الاولى، تستفيد فئة الموظفين والاجراء والذين لم تشملهم الرعاية الاجتماعية بعد من المسحوقين، وفي الوقت ذاته لا يترتب ضرر او خسارة لفئة معينة من الناس. اما في الحالة الثانية، فتستفيد فئة الموظفين والاجراء والمتقاعدين وآخرون، لكن في الوقت ذاته تترتب خسائر لفئات اخرى ذكرناها آنفاً". استناداً الى مصادر موثوقة، فان الخيار الثاني يجيء تنفيذاً لتوجيهات صندوق النقد الدولي. لكن، وكما ذكرنا في مقالة سابقة، يقول وزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسنجر عن هذا الصندوق انه"يصف حبة الدواء ذاتها لكل المرضى". * اقتصادي عراقي