صرح المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية كلود مانديل خلال الأسبوعين الماضيين أن أسعار النفط الحالية، والتي تتراوح بين 55 و60 دولاراً للبرميل لا تزال مرتفعة، وأن الاستثمارات في الصناعة النفطية منخفضة وغير كافية لتأمين الطلب المستقبلي. ويعرف كل من له إلمام بالاقتصاد، أن تصريحات المسؤول عن المنظمة التي تعكس وجهة نظر ومصالح الدول الصناعية الغربية تناقض نفسها بنفسها. فإذا وجدت رغبة في زيادة الاستثمارات، فإنها تتطلب أسعاراً عالية، وإلا فإن الأموال ستستثمر في مجالات وقطاعات أخرى غير النفط. وكما هو معروف أيضاً، ومنذ فترة، فإن سعر النفط مرتبط ارتباطاً وثيقاً بسياسات الشرق الأوسط. وآخر مثال على ذلك الانخفاض الكبير والسريع في الأسعار من 78 الى 60 دولاراً عندما اتضح للمؤسسات النفطية والاستثمارية الكبرى في نهاية الصيف، أن هناك تغييراً في السياسة الأميركية، وأن المسعى في المستقبل المنظور هو للمفاوضات بدلاً من الحروب، خصوصاً في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني. فمؤشرات السوق في الخريف لم تتغير في شكل أساس عن مثيلاتها في الصيف، لا في مستوى الطلب ولا العرض ولا المخزون التجاري الذي استمر مرتفعاً طوال هذه الفترة. والذي تغير هو السياسة الأميركية في الشرق الأوسط نتيجة الفشل الذريع في العراق. وتعزز هذا الموقف بالفوز الساحق للديموقراطيين في الانتخابات الأخيرة. إن رسالة زعماء الكونغرس الجدد للرئيس جورج بوش واضحة ولا غبار عليها: كفى أوهاماً عن"الانتصار"و"الديموقراطية"في حين أن العراق يتمزق بسبب الفتنة الطائفية الدموية. ومن هذا المنطلق، وبسبب هذه الضغوط، بادر الرئيس بوش الى تغيير سياسته في المنطقة. وواضح أن النهج الجديد قد أتى متأخراً ومملوءاً بالتناقضات، ومن ثم فنجاحه مشكوك فيه. وفي سياق التغيير في أولويات السياسة الأميركية، هناك أيضاً وجهة نظر الحزب الديموقراطي تجاه الطاقة، والذي له علاقة مباشرة بالشرق الأوسط، وربطها بأمن الإمدادات النفطية من الدول العربية وعلاقة كل ذلك بالصلات الوثيقة بين هذا الحزب وإسرائيل. وأعلنت رئيسة مجلس النواب القدمة نانسي بيلوسي أن قانون الطاقة سيكون واحداً من ستة تشريعات رئيسة سيطرحها الحزب الديموقراطي على أجندة مجلس النواب في ال100 ساعة الأولى من عمله في شهر كانون الثاني يناير المقبل. هل من جديد في برنامج الحزب الديموقراطي في مجال الطاقة؟ إن الهدف الأول والأساس هو"التخلص من الاعتماد على الطاقة"من الشرق الأوسط. طبعاً، هذا ليس بالشيء الجديد. فهذا الشعار يتكرر منذ أكثر من ربع قرن. لكن الهدف الآن، في حال أمكن التوصل اليه، ليس فقط استيراد نفط أقل من الشرق الأوسط، لكن أيضاً تأمين التقنية اللازمة لخفض اعتماد السيارات على النفط واستبداله بوقود آخر - غير هيدروكاربوني، اذا كان ذلك ممكناً. من أجل تحقيق هذا الهدف، سيعمل الديموقراطيون على زيادة المخصصات لأبحاث بدائل الطاقة. ويتوقع، بحسب نشرة"بتروستراتيجيز"، أن ينصب الاهتمام على تطوير"الطاقة العضوية"، أي انتاج وقود أكثر من النباتات يمزج مع البنزين او الديزل. وبحسب النشرة ذاتها، فإن الغالبية الجديدة في الكونغرس ستفرض على شركات السيارات الأميركية والعالمية إنتاج"السيارة العضوية"، بحيث ان 75 في المئة من المركبات الجديدة في الولاياتالمتحدة بعد خمس سنوات ستعمل بپ"الوقود المزدوج". وسيصاحب هذه المبادرة خفض في الضرائب لتشجيع انتاج الايثانول من الذرة الصفراء وتشييد محطات بنزين"خضراء". وهناك خطوات ملموسة تجرى على قدم وساق في الوقت الراهن لتنفيذ سياسات من هذا النوع، إلا أنها لا تزال محدودة جداً، ولا يتوقع أن تحقق اختراقاً ملحوظاً للسوق العالمية للبنزين والديزل في المستقبل المنظور، اي ان هذا البديل لن يسجل أكثر من 1 أو 2 في المئة من سوق المواصلات الدولي بعد عقدين. واللافت أن الحزب الديموقراطي يتبنى سياسات الحزب الجمهوري ذاتها في مجالين أساسيين للطاقة. فهو لا يؤيد اتفاق كيوتو، كما أنه لا يذكر، لا من قريب أو بعيد، اي برنامج لتوفير استهلاك الطاقة. في الوقت ذاته، يتوقع أن يقلص الديموقراطيون محاولات الاستكشاف عن النفط في المياه الاقليمية الاميركية أو في المحميات الطبيعية في آلاسكا. وهذا يعني، بطبيعة الحال، خفض نسبة احتمال العثور على حقول جديدة في الولاياتالمتحدة ذاتها، في الوقت الذي تشهد الحقول القديمة نضوباً متسارعاً نتيجة انخفاض الضغط بعد عقود من الانتاج. وأخيراً، يتوقع أن يطلب أعضاء الحزب الديموقراطي من المسؤولين عن صناعة النفط الأميركية، الشهادة في لجان الكونغرس للاستماع الى أفادتهم حول الأرباح التي تحققها شركاتهم، وذلك من أجل تقليص قوانين الإعفاء الضريبي المتعددة التي منحت لهذه الشركات في عهد الحزب الجمهوري طوال السنوات الماضية. إن سياسة المواجهة هذه بين الحزب الديموقراطي والصناعة النفطية الأميركية لن تلقى آذاناً صاغية من الرئيس بوش، ومن ثم لا يتوقع أن تتقدم في شكل ملموس قبل عامين على الأقل، اي بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة والتي يتوقع الديموقراطيون الفوز بها على ضوء النجاحات التي حققوها هذا الشهر. في الوقت ذاته، ستؤدي هذه السياسة الى دفع الشركات النفطية لإعادة النظر في سياساتهم الاستثمارية داخل الولاياتالمتحدة، خصوصاً إذا وجدوا فرصاً مربحة اسهل خارج حدود بلادهم. من ثم، ستؤدي هذه التناقضات الأميركية في السياسة النفطية، مثلها مثل السياسة الشرق أوسطية، الى مزيد من التخبط ما بين ازدياد الرغبة في الانفكاك عن الشرق الأوسط من ناحية، والاعتماد على نفوط المنطقة من ناحية أخرى.