موجة فرار للمدنيين في سوريا    هدنة لبنان يهددها إطلاق النار الإسرائيلي المتقطع    الدموع    ضبط (5) يمنيين في جازان لتهريبهم (100) كيلوجرام من نبات القات المخدر    الزعيم يستعيد انتصاراته    شخصيات دينية إسلامية تثمن جهود المملكة    "الجوهرة وأسيل" في المركز الأول عربيًا والتاسع عالميًا في الأولمبياد العالمي للروبوت WRO 2024    معرض المخطوطات السعودي يروي حكاية التراث ويكشف نفائس فريدة    الاتحاد «حاد»    حلول مستدامة لتطوير قطاعي التمور والزيتون    استقلالية "تخصصي العيون".. دعم للبحث والابتكار    مهرجان للحنيذ بمحايل    دورة للإسعافات الأولية    الكويت: صدور مرسوم بسحب الجنسية من الفنان داود حسين والمطربة نوال الكويتية    ميداليتان عالميتان لأخضر الباراتايكوندو    تركي بن محمد بن فهد يستقبل سفير قطر    دوري روشن: ديربي القصيم يبتسم للتعاون بهدف دون رد امام الرائد    المركز الإعلامي في حلبة كورنيش جدة.. مجهر العالم لسباق سال جدة جي تي 2024    الأمير تركي بن محمد بن فهد يستقبل سفير قطر لدى المملكة    مطارات الدمام تشارك في المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير    قطار الرياض.. 85 محطة منها 4 رئسية تعزز كفاءة التنقل داخل العاصمة    الجمارك تحبط تهريب أكثر من 480 ألف حبة كبتاجون إلى المملكة    «سلمان للإغاثة» يدشن المشروع الطبي التطوعي لجراحة العظام في بورتسودان    مجلس الشؤون الاقتصادية يتابع خطوات استقرار أسعار السلع    جامعة الملك عبد العزيز تكمل استعداداتها لإطلاق مهرجان الأفلام السينمائية الطلابية    "الشؤون الإسلامية" تودع أولى طلائع الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين إلى بلدانهم    الذهب يرتفع مع تراجع الدولار    موعد مباراة الاهلي والاستقلال في دوري أبطال آسيا للنخبة    هل ترى هدنة غزة النور قبل 20 يناير؟    "ميسترو".. يوصي بالذكاء الاصطناعي لتحسين العلاج الإشعاعي    «الداخلية»: ضبط 19024 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    قرية القصار التراثية.. مَعْلَم تاريخي وحضاري في جزر فرسان    الكشافة السعودية تستعرض تجربتها في مكافحة التصحر بمؤتمر COP16    هل بدأ زيلينسكي مرحلة تقديم التنازلات؟    "التعاون الإسلامي" تشارك في اجتماع التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين في بروكسيل    "بلاغات الأدوية" تتجاوز 32 ألفًا في شهر واحد    «فيفا» يعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034 على أعلى تقييم في التاريخ    ختام نهائيات الموسم الافتتاحي لدوري المقاتلين المحترفين في الرياض    أستراليا تحظر «السوشال ميديا» على الأطفال    «الإيدز» يبعد 100 مقيم ووافد من الكويت    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    انطلاق فعاليات معرض وزارة الداخلية التوعوي لتعزيز السلامة المرورية    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    بالله نحسدك على ايش؟!    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحل في الحادية والثمانين منتقداً بوش وواثقاً من عدم تحقيق الفيلم المثالي . روبرت آلتمان : نصف قرن من السينما والمشاكسة والغضب الهوليوودي
نشر في الحياة يوم 24 - 11 - 2006

"الفيلم الرائع المثالي، لم يحققه احد بعد!"هذه العبارة تفوه بها ذات يوم، قبل عقد ونصف العقد من الزمان، امام أصحابه السينمائيين والنقاد، مخرج كان في ذلك الحين يقترب من السبعين من عمره، ومع هذا لم يتردد في إجراء عملية زرع قلب وهبته إياه امرأة، إذ أقعدته ذبحة قلبية كادت تميته. هذا المخرج هو روبرت آلتمان، الذي رحل عن دنيانا قبل ثلاثة ايام عن عمر يناهز الحادية والثمانين. على رغم سنه المتقدمة، دهش كثر من الذين يعرفون آلتمان عن كثب، فهم ما كانوا ليتصورونه ابداً، ميتاً... بهذه السرعة وبذلك الشكل المفاجئ. فالرجل حتى ايامه الأخيرة كان يبدو فائق الحيوية مدججاً بالمشاريع مقبلاً على الحياة كدأبه دائماً. وخصوصاً منذ أطل على عالم السينما من باب عريض وهو في الخامسة والأربعين. خلال العقود التالية من حياته بدا وكأنه يحاول التعويض على تأخر إطلالته. ومن هنا اشتغاله على ما لا يقل عن فيلم في السنة، لسنوات طويلة من حياته. فلماذا تأخر آلتمان في سلوك درب الإخراج السينمائي؟ لأن هوليوود، ومنذ البداية ماطلت في قبوله، فهي ما كان يمكنها في ذلك الحين ان تقبل مشاكساً عنيفاً مثله. ما كان يمكنها ان تقبل فناناً يحطم اساطير تاريخها أسطورة بعد الأخرى.
وروبرت آلتمان، المولود في كانساس سيتي بولاية ميسوري الأميركية العام 1925، كان مشاكساً منذ بداياته، وظل مشاكساً حتى النهاية. ولكن مشاكسته لم تقتصر على هوليوود وحدها، بل امتدت لتشمل كل ما يصنع الأسطورة الأميركية، وأسطورة الحلم الأميركي، من العائلة الى الجيش المنتصر، الى رعاة البقر، الى المدن الكبرى، إلى القمار الى التحري والمرأة والغناء والتسابق والرياضة... كل شيء. والأدهى من هذا، بالنسبة الى هوليوود، ان مسلكه الفني لم يكن ابداً لا طليعياً ولا نخبوياً... بل شعبياً، وأحياناً شعبوياً. لو كان آلتمان نخبوياً لما اهتمت به هوليوود، بل كان من شأنها ان تمول له أفلامه حتى النهاية كنوع من"البرستيج"فيحققها وتعرض في مهرجانات ثم تنسى. لكن حسه الشعبي، واشتغاله على سينما مسلية مقبولة جماهيرياً، كان أمراً لا يغتفر.
من هنا، لم يلبث الرجل بعد بدايات هوليوودية ناجحة او ملتبسة ان توجه الى نيويورك، ثم الى فرنسا، حيث عاش معظم سنوات حياته الأخيرة. وحقق افلامه التي كانت، دائماً متفاوتة الجودة متفاوتة القوة متفاوتة القبول. وبالتالي اعتبر، صنو مثيله في السينما الأميركية وودي آلن، الأكثر أوروبية بين السينمائيين الأميركيين. غير ان التشابه بينه وبين آلن لا يسير الى مسافة طويلة. فآلتمان لم يمثل، وليس هزلياً وإن كان معظم افلامه يتمتع بحس سخرية وفكاهة سوداء هائلين. كما ان آلتمان اقل نرجسية من آلن بكثير، ما جعله يهتم بإنتاج افلام لمخرجين شبان، مثل آلان رودولف، وروبرت بنتون ما كان لهم ان يظهروا لولا عونه لهم.
قاذف القنابل سابقاً
آلتمان، كما كان سينمائياً كبيراً، كان معطاء كريماً، حتى في رفده الإنسانية بخمسة أبناء من ثلاث زيجات. وهؤلاء الأبناء يشكلون الجانب الإنساني من"تركة"الرجل التي تضم اكثر من ثمانين فيلماً بين أعمال سينمائية وتلفزيونية، حققها آلتمان خلال أكثر من نصف قرن. فإذا كان هذا المخرج الظريف والدينامي، كما يصفه المقربون إليه، لم ينطلق حقاً، وعالمياً، إلا أوائل سبعينات القرن العشرين حين انفجر فيلمه الكبير الأول"ماش"كالقنبلة وسط بلادة كانت لا تزال سائدة في هوليوود ذلك الحين، فإن بداياته سبقت ذلك بكثير. فهو منذ انهى خدمته العسكرية، كمساعد طيار في قاذفة للقنابل خلال الحرب العالمية الثانية، وقرر ان يعيش في لوس انجليس حيث إمكان تحقيق الحلم السينمائي، حتى بدأ يكتب السيناريوات ويرسلها الى الشركات الكبرى، لكن اياً منها لم يقبل. فما كان منه إلا ان التفت الى الشاشة الصغيرة محاولاً استخدامها اداة للتعبير. وبالفعل قُبل به هنا، عكس ما كان الأمر مع السينما، وراح يحقق بتقنية كان هو يسميها"سينمائية"لمجرد حفظ ماء الوجه، عشرات البرامج والحلقات، بما فيها بعض حلقات"بونانزا"وپ"ألفريد هيتشكوك يقدم". وهو كان كلما فرغ من عمل تلفزيوني وشاهده مع رفاقه يقول لهم:"ها هو فيلمي الخاص عن رعاة البقر"..."ها هو فيلمي الهتشكوكي الخاص"... الخ. والحقيقة ان ذلك العمل اذا كان لم يضف الى حياته شيئاً، حيث انه اعتبر نفسه فيه موقتاً لا أكثر، فإنه وضعه على تماس مباشر مع الأنواع السينمائية اذ راح التلفزيون يقلدها. ومن هنا، حين قيّض له في العامين 1970- 1971، ان يحقق"ماش"، بعد تجارب سينمائية سابقة لم تحقق نجاحاً نقدياً أو جماهيرياً، وجد منذ تلك البداية ان أفضل ما يمكن له فعله هو نسف الأنواع السينمائية نوعاً بعد الآخر، كثأر من العقلية الهوليوودية التي علبت الأنواع وحولت المخرجين الى معيدي إنتاج لا يتوقفون لكل نوع من الأنواع.
ومنذ"البداية"إذاً بدا واضحاً ان"ماش"عدا عن حسه الساخر من الحرب وأطباء الحروب اذ تدور أحداث الفيلم في الجبهة الأمامية في الحرب الكورية، وتحديداً من المستشفى الميداني، مع إسقاط واضح على حرب فييتنام التي كانت في عز اندلاعها في ذلك الحين بدا واضحاً ان هذا الفيلم إنما هو تسخيف لأسطورة الحرب التي طالما شكلت واحدة من أهم اساطير السينما الهوليوودية وأكثرها رواجاً. وهنا اذا كنا نعتبر"ماش"البداية، فإن هذا لا ينبغي ان ينسينا خمسة افلام حققها آلتمان قبله، لكنها كانت مجرد إرهاصات أو تمارين ضئيلة الكلفة، اذا استثنينا من بينها"العد العكسي"1966 مع جيمس كان وروبرت دوفال - وپ"ذلك اليوم البارد في الحديقة"1969... إذ ان العودة اليوم لمشاهدة هذين الفيلمين المأخوذين عن روايتين شعبيتين تدور أحداث اولاهما في الفضاء والثانية من حول احتجاز امرأة لرجل، بغية جعله عاشقاً لها، ستكشف لنا انهما حملا معظم الأساليب والتقنيات، بل ربما ايضاً المسارات، التي ستحملها افلام آلتمان التالية.
طائفة الحواريين
بعد"ماش"الذي حُوّل لاحقاً الى مسلسل تلفزيوني عديد الحلقات لم يرض آلتمان بالعمل فيه على الإطلاق، لم يعد في وسع أحد ان يوقف هذا الفنان الذي أحس بأنه وجد طريقه الحقيقية اخيراً، ولا سيما منذ راحت الصحف اليمينية المحافظة وذات النبرة"الحربجية"تحاربه بقوة. أدرك انه على صواب إذ ذاك... وبدأ ينبش من ذاكرته كل مشاريعه القديمة، مسبغاً عليها ابعاداً جديدة... وراحت أعماله تتوالى، وكأن في الأمر خطة منظمة تنفذ خطوة خطوة، من قبل آلتمان طبعاً، ولكن كذلك من قبل مجموعة من فنانين وفنيين أحاطوا به وراحوا يشتغلون معه فيلماً بعد فيلم في ما يشبه الطائفة المؤمنة بزعيمها. وهكذا ولد"بروستر ماكلاود"1970 عن فتى يتوق الى ان يطير مثل عصفور، بالتوازي مع سلسلة جرائم تحدث وتستدعي جلب محقق شهير من سان فرانسيسكو الى هيوستون. بعد ذلك حقق آلتمان واحداً من أجمل وأقوى أفلامه"ماكيب ومسز ميلر"، من بطولة وارن بيتي وجولي كريستي عن لقاء مقامر وعاهرة في الغرب الأميركي، لقاء ينسف جزءاً كبيراً من البعد"الأخلاقي"الذي أقامت عليه هوليوود تلك الأسطورة، ليس في الموضوع والشخصيات فقط، بل حتى في المشاهد وأروعها مشهد المبارزة فوق الثلج... والتي لا ينجو منها أحد. في الفيلم التالي،"صور"1971 الذي حققه آلتمان في كندا، نراه يدنو من أسطورة الزوجين ليحكي لنا حكاية زوجة تحب زوجها حقاً الى درجة انها تقتله في نهاية الأمر. أما في"الوداع الطويل"عن رواية لرايموند شاندلر، فإن آلتمان آثر السخرية من أسطورة التحري والفيلم البوليسي، كما انه في الفيلم التالي له"لصوص مثلنا"1974 وهو الفيلم الذي سيبني الأخوان كون، لاحقاً، عليه موضوع فيلمهما الرائع"اين انت يا أخي"سيصور لنا ثلاثة مسجونين يهربون ليقوموا، وسط اجواء بؤس سنوات الثلاثين في الجنوب الأميركي، بسرقة مجموعة من المصارف.
العام 1974 نفسه كان عام زخم في مسار آلتمان المهني، اذ نجده يحقق فيه فيلمين مهمين آخرين من أفلامه:"كاليفورنيا سبليت"، الذي يدنو فيه مجدداً من عالم شغل باله دائماً: عالم القمار، ثم"ناشفيل"احد أقوى أفلامه وأنجحها على الإطلاق، والفيلم الذي أوصل فيه سخريته من الذهنية الأميركية الى الحدود القصوى. وذلك من خلال فيلم اسكتشات لا حكاية فيه سوى مباراة غناء"الكاونتري"التي تخوضها نماذج اجتماعية يتوقف الفيلم عند نحو عشرين منها، معظمها يرتجل دوره وحواراته وأغانيه ايضاً الى درجة ان كيث كارادين فاز بأوسكار افضل اغنية سينمائية في ذلك العام، عن اغنية كتبها بنفسه. من خلال تلك المباراة وخائضيها قدم آلتمان اذاً، كوميدياه الإنسانية عن الفرد الأميركي واستلابه امام مفاهيم الفوز والمنافسة. هذا الفيلم رشح يومهاً لأكثر من اوسكار، لكنه لم يحقق فوزاً كبيراً على عكس"ماش"الذي كان فاز بالسعفة الذهبية في"كان"قبل سنوات، ما رسخ لآلتمان سمعة عالمية ضاعفت من الإقبال على"ناشفيل"لاحقاً.
مع"ناشفيل"كان آلتمان أضحى نجماً راسخاً في السينما الأميركية والعالمية، غير ان ذلك لم يرو ظمأه لمواصلة السخرية من الأساطير الأميركية والهوليوودية، وهكذا نراه في"بوفالو بيل والهنود"يتناول إحدى اساطير الغرب الأميركي: البطل المعبود الذي حطمه فيلمه تحطيماً. وحسبنا ان نشاهد ماكياج بوفالو بول نيومان المضحك حتى ندرك هذا كله.
معشوق الأوروبيين
بعد ذلك بعامين، سيعود آلتمان في فيلم تال له هو"العرس"الى وضع المجتمع الأميركي وأفراده الامتثاليين تحت مجهره القاسي، من خلال ملء الفيلم بأكثر من سبعين شخصية اساسية، دفعها الى التصرف على سجيتها وكأنها تعيش حياة عائلية حقيقية، في عرس سخيف حقيقي. غير ان آلتمان كان بين"بوفالو..."وپ"العرس"، وضع سخريته العنيفة جانباً، ليحقق واحداً من أكثر افلامه حميمية وتجريبية حتى ذلك الحين:""ثلاث نساء"1977 الذي يحتوي قدراً كبيراً من الالتباس الخلاق على أي حال في نظرته الى المرأة، وذلك من خلال رصد فصول من حياة نساء يعشن في عزبة معزولة وسط الصحراء، ويحاربن الرجال حتى ينتهي بهن الأمر وحيدات وسط طائفة خاصة بهن.
وهذه الحميمية التي أثارت أسئلة عاد إليها آلتمان في السنة التالية، بعد إنجازه"العرس"، في فيلمه الغريب"خماسية"والذي يفترض ان يكون فيه نسف لأسطورة نوع الخيال العلمي السينمائي، بيد انه اتى أكثر جدية وحزناً وقوة في خلق الجو القارص والعلاقات بين الشخصيات، مما كان يمكن توقعه من آلتمان. ومن هنا ظل هذا الفيلم، الذي صوّر بدوره في كندا، نسيج وحده في عالم آلتمان، كما حال"ثلاث نساء". بعد"خماسية"شعر آلتمان كما يبدو بأن عليه ان يستريح بعض الشيء من الإخراج، فاكتفى بتحقيق فيلمين خلال سنتين، جاءا عاديين في مسيرته، يحاول احدهما "ثنائي كامل"- 1978 ان يكمل مسيرة"صور"السابق ذكره، فيما يحاول الثاني "الصحة"- 1979 ان يكمل ثلاثية"المجتمع الأميركي تحت مجهر عين قاسية"الى جانب"ناشفيل"وپ"العرس"... والحقيقة ان هذين الفيلمين لن ينجحا إلا في إقناع آلتمان، من ناحية بأنه لم يعد له مكان حقيقي في هوليوود كمخرج مبدع للأفكار، ومن ناحية ثانية بأن الوقت حان ليخدم حوارييه كمنتج، وذلك عبر شركة"ليونز غيت"التي كان اسسها منذ سنوات لتنتج له أفلامه المرفوضة من استديوات هوليوود. والحقيقة انه في الوقت الذي كانت فيه هوليوود تتجاهله إن لم تحاربه، كانت أوروبا بجمهورها المتحمس، ومهرجاناتها العريقة "كان"،"البندقية"وپ"برلين" تغدق عليه جوائزها.
إذاً، انصرف آلتمان الى انتاج افلام روبرت بنتون وآلان رودولف وروبرت يونغ، قبل ان يجد في العام 1980، أن ثمة أسطورة أميركية عليه ان يتصدى لها: أسطورة"بوباي"، وهكذا حقق ذلك الفيلم الغريب والطريف، بل الرائع، الذي لعب فيه روبن ويليامز واحداً من أول أدواره الكبرى، فيما عادت شيرلي دوفال الى عالم أستاذها ومكتشفها، في دور امرأة بوباي، أوليف اويل زيت الزيتون. مهما يكن لا بد من الإشارة هنا الى ان آلتمان صور"بوباي"في مالطا، ليشكل بدء ملحمته الأوروبية، التي ستتواصل، متقطعة بعض الأحيان، حتى أيامه الأخيرة، ولكن من دون ان يعني هذا ان تصوير أفلامه وإنتاجها في اوروبا، أبعده عن المواضيع الأميركية، وبشكل اكثر تحديداً: عن المواضيع الناسفة للحلم الأميركي.
فروبرت آلتمان لم يشعر ابداً انه صفى حسابه مع كل ما لا يعجبه في أميركا. والأمور التي لم تكن تعجبه في أميركا كثيرة, وهكذا، بعدما بدأ نشاطه الأوروبي في فيلم للتلفزة عن علاقة الرسام فنسان فان غوغ بأخيه ثيو، وخلال عقد الثمانينات الذي امضى معظمه في أوروبا، واصل آلتمان تحقيق افلامه وإن بوتيرة أقل مما في السابق، وحقق في نهاية ذلك العقد فيلم"اللاعب"الذي أوصل فيه سخريته من هوليوود الى ذروة لم يصل إليه أي فيلم من قبل، وذلك من خلال حكاية منتج، وسلسلة جرائم، وتهديدات تكشف الوجه الآخر للميدالية، والطريف ان آلتمان تمكن، لتصوير هذا الفيلم، من إقناع عشرات النجوم الكبار بلعب أدوارهم في الحياة والفن، متحلقين من حول تيم روبنز في دور المنتج وهو نفس ما فعله حين صور لاحقاً"ثياب جاهزة"عن عالم الموضة.
"اللاعب"عرض في"كان"العام 1992 ونال إحدى الجوائز الأساسية، غير ان ذلك الفوز الجديد لم يلغ مرارته من هوليوود التي لم تمنحه أي أوسكار حقيقي كبير... وانتظرت آذار مارس هذه السنة التي مات فيها، لتعطيه أوسكار شرف عن مجمل أعماله. وهو على أي حال، عاد ورد على التحية بمثلها في فيلمه الأخير"رفيق بيت في البراري"الذي اعتبر تعبيراً عن حنين استبد به آخر عمره الى وسط أميركا الريفي.
هذا الوسط كان تحدث عنه على أي حال في بعض أفلام عقديه الأخيرين لا سيما"ثروة كوكي"، كما انه تحدث عن لوس انجليس في شكل حنون وساخر في آن معاً، من خلال فيلمه"مقاطع صغيرة"عن نص للكاتب رايموند كارفر... فاز عنه بالأسد الذهبي في مهرجان البندقية - 1993، اما حنينه الى مسقطه كانساس سيتي وإلى الموسيقى الشعبية فقد عبّر عنه بفيلم حمل اسم تلك المدينة. وحكى عن علاقته بالفن والمسرح ورقص الباليه من خلال"الفرقة". اما"غوسفورد بارك"فإنه فيلم عاد فيه الى ما سماه هو نفسه"الجدارية السينمائية"، حيث، على غرار"العرس"پ"ناشفيل"... يقدم مجموعة كبيرة من الشخصيات الأساسية 30 شخصية هنا راصداً من خلالها ذهنية المجتمع في تحولاته. طبعاً ليس هذا كل إنتاج روبرت آلتمان، لكنه يبدو في تنوعه واستفزازيته وقوته، كما في الاستجابة الأوروبية على الأقل التي كانت وتبقى له، كافياً لعدد كبير من السينمائيين.
ومع هذا، حين سئل هذا الفنان الساحر الساخر، ذات يوم: لماذا تواصل العمل، أجاب:"لأن الفيلم الرائع المثالي لم يحقق بعد". ويقيناً ان روبرت آلتمان حين لفظ الروح قبل ايام، وفي وقت كان ينهال فيه بالشتائم على رأس جورج دبليو بوش الذي سبب انتخابه نكسة كبيرة للشعب الأميركي في رأيه، كان واثقاً، ليس فقط من انه لم يحقق ذلك الفيلم المثالي، بل ان أحداً لن يحققه على الإطلاق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.