بالنسبة الى جان - بول سارتر لم يكن الأمر أكثر من"مجرد تسوية بين الواقعية النقدية والرقابة". اما بالنسبة الى تشيزار زافاتيني فإن الفيلم الواقعي الجديد يجب أن"يتحدث عن ساعة ونصف الساعة من حياة شخص لا يحدث له شيء". وفي الاحوال كافة كانت الواقعية الجديدة هذه"سينما شديدة المعاصرة"وپ"سينما شجاعة"وپ"تجربة مكثفة للسينما الاجتماعية". غير أن هذه السينما التي تعتبر، ومنذ زمن بعيد، مرجعية في تاريخ سينما الواقع، والتي وضع عنها مئات الكتب، ونسب اليها عشرات المخرجين، وربطت بها تيارات عدة قامت من بعدها، في عدد كبير من البلدان، هذه السينما لو تمعّنا فيها جيداً، سنجدها بعد كل شيء ذات عمر قصير، وبالكاد تضم في لائحة افلامها، دزينتين حقيقيتين لدزينة من المخرجين. هذه وهؤلاء يشكلون النواة... اما الباقي فعلى الاطراف... بل حتى النواة نفسها ستبدو لنا امام الفحص متأرجحة. فهل علينا ان نذكر هنا بأن"الواقعية الجديدة"عوملت لاحقاً كأسطورة وأصابها كل ما يصيب الاساطير عادة: ضُخمت، أُسطرت... حتى فقدت شكلها وسماتها وصارت اسماً... بالكاد يدل حقاً على شيء؟ أحياه وأماته سنرى هذا كله، اما هنا، كبداية، فقد يكون من المهم ان نشير الى ان هذا"التيار"الذي ولد على يدي لوكينو فسكونتي في العام 1942 وسيموت على يديه ايضاً بعد ذلك بعشرة اعوام، قام اصلاً، من خلال عدد من السينمائيين والنقاد المتحلقين من حول محطة تنظير سينمائية يسارية تدعى"تشينها"يملكها ويديرها المدعو فيتوريو موسوليني شقيق الدكتاتور الشهير!... كيف كان هذا ممكناً؟ حسناً لسنا ندري، انها معجزة اخرى من المعجزات الايطالية. غير ان افكار موسوليني لم تكن هي السائدة هنا بالطبع، بل كان السائد مزيج من افكار انطونيو غرامشي مؤسس الحزب الشيوعي الايطالي وأساليب جيوفاني فرغا رائد الواقعية الحقيقية في الادب الايطالي... لكن هذا لم يمنع الفيلم"الواقعي الجديد"الاول"وسداس"من ان يكون مقتبساً عن رواية بوليسية اميركية! سلطة؟ كوكتيل؟ ربما... المهم ان الأمور جرت على هذا النحو. والايطاليون اخترعوا على هذه الطريقة واقعيتهم بعدما رصدوا طويلاً ما كان حدث في السينما الروسية، وأعجبوا بواقعية جان رينوار الفرنسية... وبدأوا يظهرون سأمهم من سينما بلادهم التي لم تعد، زمن الفاشية، سوى نسخة مشوهة عن"سينما هوليوود التخديرية"... وصارت بدعم من الفاشيين سينما هروب حقيقي من الواقع لتعرف باسم"سينما التلفونات البيضاء". وكان في مقدمة الذين سئموا تلك السينما، فيسكونتي العائد حديثاً من فرنسا حين كان قد عمل مساعداً لجان رينوار، واليساندرو وبلازيتي، الذي كان آتياً من السينما السائدة، اضافة الى فيتوريو دي سيكا، الممثل الكوميدي المعروف والذي كان يتحين الفرص لتحقيق افلام اجتماعية، فإذا اضفنا الى هؤلاء، الكاتب والصحافي رافاتيني، الذي سيكتب اول سيناريوهين واقعيين جديدين لدى سيكا ولبلازيتي، ستكون قد اكتلمت امام اعيننا صورة البداية. غير ان هذا الاكتمال لن يتم من دون توضيح"قضية فسكونتي". فالحقيقة ان هذا الارستقراطي الماركسي، والذي راح يهتم بالواقع وحياة الناس تحت تأثير قراءته لغرامشي، واطلاعه على الماركسية، كان اراد في البداية ان يكون مشروعه الاول فيلماً مقتبساً عن فيرغا هو"الارض تهتز"، عن حياة الصيادين البائسين في صقلية، كجزء اول من ثلاثية اجتماعية، فكوّن خلفية المشروع وحدد الاسس الواقعية لتحقيقه، ميدانياً في مكان الاحداث وداخل حياة ومشاعر الناس ومن دون ممثلين محترفين. غير ان الرقابة الفاشية كانت في المرصاد 1941 فحالت دون تحقيق المشروع، وهكذا انعطف فسكونتي ليحقق فيلماً - كان رينوار نصحه به - انطلاقاً من رواية"ساعي البريد يدق الباب دائماً مرتين"للكاتب الاميركي جيمس كين. طبعاً من يعرف هذه الرواية يدرك البعد الميتافيزيقي في موضوعها، والبعد الاميركي في حبكتها... ولكن... لا يهم. بالنسبة الى فسكونتي: المناخ والديكور والمواقف كلها ستكون ايطالية... وواقعية... وجديدة. طبعاً هو لم يصنف... هو حقق فيلمه. لكن الناقد اومبرتو باربارو، ما ان شاهد الفيلم حتى صرخ: انه نيو واقعي! والتقط الناس بالاسم، ليعمموه، وليصبح للأفلام التي حققت تالياً نصيب فيه. وهذه الافلام التي حققت تالياً، ظلت تحقق تبعاً للمفاهيم نفسها حتى العام 1953، الذي شهد وحده تحقيق ما لا يقل عن خمسة افلام تنتمي الى التوجه نفسه، منها"المهزومون"لأنطونيوني وپ"آل فيتيلوني"لفيليني وپ"الريفيون"لسولداتي وخصوصاً"الحب في المدينة"لعدد من المخرجين. وكان فسكونتي في ذلك الوقت يحضر لفيلمه الجديد"الحس"فيما يحضر فيليني لپ"الطريق"ودي سيكال"ذهب روما". طبعاً هذه الافلام الاخيرة لم تكن من"الواقعية الجديدة"في شيء، لكن المنظرين لم يكونوا ينتظرون ظهور هذه الافلام، وخصوصاً فيلم"الحس"لفسكونتي ليعلنوا موت"الواقعية الجديدة"... بل هم اعلنوه خلال اجتماع عقد في بارما أوائل كانون الاول ديسمبر 1953، وكان الهدف منه"انقاذ الواقعية الجديدة من الطريق المسدود الذي كانت وصلت اليه". ولكن لم يتمخض الامر عن انقاذ ولا عن تجديد... بل تمخض عن عبارة اعتبرت نعياً رسمياً، اذ وقف احد كبار مخرجي الواقعية الجديدة وقال:"أيها السادة... لندع النفاق جانباً ولنعلن موت الواقعية الجديدة". هل تراها ماتت بالفعل لحظتذاك؟... ابداً... ماتت رسمياً، لكن روسليني، رجلها الاكبر - وإن لم يكن الاول - واصل طريقه، كما ان سينمائيي بلدان اخرى تلقفوها... بل انها في ايطاليا نفسها سرعان ما اندمجت في سينمات اكثر خصوبة وقوة. قواعد ذهبية 11 عاماً، اذاً، عاشت"الواقعية الجديدة"في ايطاليا بصورة رسمية... لتعيش نتفاً نتفاً في كل مكان بعد ذلك. فما هي - بعد كل شيء - هذه الواقعية الجديدة؟ إن الاجابة المنطقية على هذا السؤال، لا تحيلنا في الواقع الى الافلام الاولى التي حققت خلال سنوات الحرب لتكون مجرد ارهاصات، بل تحيلنا الى فيلم محدد هو"روما مدينة مفتوحة"1945 - راجع في مكان آخر من هذه الصفحة -. وهذا الفيلم، الذي هو العلامة الاساسية لذلك التيار، حقق في العام 1945، وكان مخرجه هو روبرتو روسليني، الذي اعلن بفيلمه، ليس فقط، الولادة الحقيقية لهذا التيار الكبير، بل كذلك شهادة الفن على هزيمة الفاشية وانتهاء الحرب. فالواقع ان سقوط الفاشية في ايطاليا في ذلك العام كان ادى الى ارتباك سياسي عام، صحبه ارتباك فني وأدبي، تحول لدى المتقدمين من الكتاب والفنانين وهم كثر دائماً في ايطاليا الى رغبة"عارمة في التعبير عن ارضية الواقع الرهيب الذي يعيشه الشعب الايطالي". وللتعبير عن ذلك كان لا بد للكاميرا من ان تصور حركة هذا الشعب وحياته على الطبيعة. وهكذا انتقلت الكاميرا الى الشارع لتعيد بناء الحدث الواقعي. وكان لا بد، من اجل هذا، من الامعان في الاستغناء عن الممثلين والديكورات الفخمة، واللجوء الى وسائل تقنية بسيطة. وهكذا اذا كان سابقو روسليني قد خلفوا التيار عفوياً، فإنه هو الذي حدد له معالمه في ثلاث قواعد مستنتجة من تلك الممارسة: 1- التصوير في الأماكن الطبيعية وفي اوساط الناس، انطلاقاً من مواضيع مرتبطة بحياة الناس. 2- الاستغناء عن القسم الاكبر من الممثلين المحترفين، لتصوير الاشخاص والجماعات وهم يؤدون ادوارهم الطبيعية في الحياة، وربما غير تلك الادوار ايضاً. 3- الاستغناء عن الديكورات واللهجات الفخمة وعن الحكايات غير الواقعية. وعلى ضوء هذه المبادئ - تنقص هنا او تزيد هناك - راحت تحقق الافلام، ولا سيما تحت رعاية الكاتب تشيزار زافاتيني، الذي اقترن اسمه بالواقعية الجديدة، طوال سنوات وجودها. وتتالت تلك الافلام وتتالى مخرجوها طوال ما تبقى من الاربعينات... غير ان ما حدث هنا هو انه، بعدما كان كل واحد من أولئك المخرجين - راجع مكان آخر في هذه الصفحة - يبدأ بفيلم ينتظم توجهه مع القواعد المرسومة، كان سرعان ما يتحول بعد ذلك في وجهات اخرى. وهكذا ما إن انفضت سنوات الفورة الاولى حتى بدأت"الواقعية الجديدة"تعيش انحدارها، بحيث لم يعد في إمكان احد انقاذها. ولسوف يقول الناقد غويد وآرستوركو لاحقاً، في معرض تأريخه للتيار، ان انتهاءه لم يكن صدفة، بل يرتبط بالواقع التاريخي نفسه، حيث - بالنسبة اليه -، حدث على التوالي ان عادت القوى الشعبية التي ساندت التيار ورأته معبراً عنها الى"الاندماج الوطني، طارحة جانباً الصراع الاجتماعي، الذي كان ركيزة اساسية من ركائز الواقعية الجديدة"كما ان"المقاومة أبعدت عن السلطة بالتدريج، ابتداء من عام التحرير نفسه"، في وقت"قبلت فيه احزاب اليسار سياسة تحالف وتعاون مع احزاب الوسط"، وخصوصاً بعد ان"حققت الديموقراطية المسيحية في نيسان ابريل 1948، انتصارات تاريخية انتخابية اطلقت يدها في التصرف، فزادت من هيمنة الرقابة وراحت تشن الحملات على التقدميين"واذ تزامن هذا"مع انخفاض مداخيل صالات السينما"راح بعض المخرجين"من ذوي الانتماءات الطبقية المبهمة يلجأون الى نوع متجدد من الواقعية الروحية". قد يكون في كلام ارستوركو هذا شيء من المغالاة والاختزال، لكن الواقع يقول لنا انه ما ان حل العام 1954، حتى كانت"الواقعية الجديدة، قد انتهت رسمياً، ولكن ليخلفها في ايطاليا توجهات سينمائية اكثر قوة وانسانية، من نجومها فسكونتي نفسه وفيلليني وأنطونيوني وبازوليني... اما خارج ايطاليا فإن هذه"الواقعية الجديدة"سجلت مرحلة العبور الحتمية بين السينما على النمط الهوليوودي، وبين كل تلك التيارات الواقعية والوطنية البعيدة من هوليوود... الحلقة المقبلة: "الموجة الجديدة في فرنسا".