من يتذكر "عشرة عبيد صغار"؟ سؤال قد يجده كثر من اصحاب الحنين الى "تلفزيون لبنان" في غير محله. والسبب أن هذا المسلسل المأخوذ عن رواية البريطانية أغاتا كريستي كان بمثابة ظاهرة يوم عرض على الشاشة اللبنانية في بداية عصر التلفزيون في المشرق العربي، ومن هنا صعب ان يغيب من الذاكرة الجماعية. حتى ان كثراً لا يزالون يتذكرون خلو الشوارع من ناسها أثناء عرض المسلسل، وكثر يعترفون بأنهم تعرفوا الى أغاتا كريستي مع هذا العمل. لكن علاقة أغاثا كريستي بالتلفزيون لم تبدأ مع هذا المسلسل اللبناني ولم تقف عنده، إنما سبقته أعمال أخرى، خصوصاً في بريطانيا، وتبعته أعمال لا تزال الى اليوم تنهل من روايات سيدة القصص البوليسية... حتى ان الفرنسيين حين أرادوا منافسة الدراما البوليسية الأميركية، لم يجدوا أفضل من روايات أغاتا كريستي. الاميركيون أسسوا لو سئل المخرج الكبير جان - لوك غودار عن الفارق بين الدراما البوليسية الاميركية ومثيلتها الفرنسية لكان جوابه شبيهاً بنظرته الى الفارق بين السينما والتلفزيون، حين قال:"الأولى تتفرج عليها وانت رافع رأسك، والثانية تخفض رأسك لتراها". أما اختصاصيو الإعلام فيجيبون انطلاقاً من نظرة كل طرف من طرفي الأطلسي الى التلفزيون. إذ بينما ينظر الاميركيون الى الشاشة الصغيرة كنمط ثقافي إبداعي، تختلف النظرة عند الفرنسيين وتضيق. ولعل أبرز الباحثين الذين استفاضوا في شرح هذه النظرية، الفرنسيين بيار بيلو وجنفياف سيلليه صاحبي كتاب"الدراما البوليسية"أول كتاب فرنسي علمي يتطرق الى هذا الموضوع، وفيه يذهب الباحثان بعيداً في انتقاد إنتاج بلادهم في هذا المجال مقارنة بالإنتاج الأميركي، الذي يبدو"أكثر غنى وجمالاً وطموحاً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي". طبعاً لم تخل الساحة التلفزيونية الفرنسية من بعض المحاولات الجدية في عالم الدراما البوليسية، لكن في شكل عام، شكلت الدراما الأميركية المنطلق والأساس، بل إن بعض الأعمال الفرنسية لم تكن أكثر من نسخة منقحة لأعمال أميركية شهيرة. وهنا يخطر في البال مسلسل"ب ج"المستنسخ عن المسلسل الأميركي الشهير"أن واي بي دي بلو". أمام هذا الواقع، كان لا بدّ من مسلسل يعيد الاعتبار الى الدراما البوليسية الفرنسية، ويضعها على خريطة المنافسة... حتى أن أصحاب الشأن لم يجدوا مانعاً في الاستعانة بتراث الجارة البريطانية لإنقاذ ماء الوجه، ومن أفضل من البريطانية أغاتا كريستي للعب هذا الدور؟ وهكذا أبصرت النور رباعية"جرائم قتل صغيرة في العائلة"عن قصة"عيد ميلاد هيركل بوارو"الصادرة عام 1938 من توقيع الكاتبة البريطانية. وكانت هذه القصة نفسها "عيد ميلاد هيركل بوارو" شكلت المنبع لسلسلة بوليسية بريطانية بعنوان"هيركل بوارو"، بدأت عروضها في 1989. اما"جرائم قتل في العائلة"فهي الدراما الأولى التي تعرض على"فرانس 2"من نوع أدب الملاحم العائلية منذ أكثر من عقد، حين عرضت سلسلة"اسياد الخبز"عام1993. سؤال لغز من قتل الثري المقيت سيمون لوتيسكو روبير حسين في ليلة من ليالي كانون الأول ديسمبر عام 1939 في قصره الخاص؟ سؤال لغز تجيب عنه الرباعية على مدى الأسابيع الأربعة التي تعرضها فيها"فرانس 2"عرضت منها حلقتين من خلال ملاحقة تحريات الكوميسير لاروازيير أنطوان دوليري ومعاونه إميل لامبيون ماريوس كولوشي. وطبعاً لا تخلو الساحة الدرامية من المشتبه بهم - تماماً مثل كل روايات أغاتا كريستي، حيث الجميع مشبوهون -، خصوصاً أن سيد البيت عرف كيف يزرع الحقد والضغينة في صفوف العائلة. وهكذا تقودنا هذه الرباعية الى بريطانيا عشية الحرب العالمية الثانية، وتحديداً الى بيت بريطاني أشبه ب"وكر للدبابير". بداية من الأب الحاقد على أبنائه وصولاً الى الأبناء والمحيطين بهم. ونجح المخرج إدوين بايلي في رسم عالم أغاتا كريستي الحميم: نيران تشتعل في الموقد، نزهات على الأحصنة... كما نجحت كاتبتا السيناريو آن دي جيافري وموريال ماغالون في الغوص داخل سيكولوجية الشخصيات، مع إضفاء لمسات فرنسية على الشخصيات والحوارات، أو هذا على الأقل ما يؤكده النقاد الذين كتبوا عن هذا العمل في الصحافة المتخصصة، متوقعين له ان يجمع بين رضا الجمهور العريض وإعجابه، ما يعيدنا مرة اخرى الى لبنان السبعينات"وعشرة عبيد صغار"لنسأل:"في زمن الشح الخيالي هذا، عندنا، أفلا يجدر بنا أن نتخذ من هذا النجاح أمثولة ونحاول بدورنا..."لعل وعسى؟