كتبت أغاتا كريستي ستاً وستين رواية بوليسية، ومئة وأربعاً وخمسين قصة، وعشرين مسرحية فيها جميعها من التشويق والألغاز الغامضة ما يقف له شعر الرأس، وتعتبر الكاتبة الأشهر على المستوى العالمي والأكثر ترجمة إلى لغات غير لغتها الأم. لكن – وحسب منظوري الخاص - لا شيء كسر مخيلة أغاتا كريستي في اختراع الجرائم الغامضة، إلا "الدراما العربية" التي تقدم كل سنة خلال شهر رمضان على فضائياتنا، وأعتقد جازمة أنّها لو عاشت بيننا في هذا الزمن لما كتبت صفحة واحدة ولما استطاعت دخول عالم الشهرة من باب القصة البوليسية، مع أنها صالت وجالت في العالم العربي على أيامها كما أرادت، فعاشت في سورية والعراق ومصر، واكتشفت مع رفيق عمرها وزوجها الثاني الحياة على أوسع نطاق. كما عاشت تفاصيل الحرب العالمية الثانية، وانعكس عنف تلك الحقبة في أدبها، لكنه عنف غير مبالغ فيه، بدون صراخ، ومزايدات، وبدون انتهاك لإنسانية الإنسان، لقد كتبت الجريمة كما هي في الواقع، وتقفت أثرها في تلك النزوات البشرية وأطماعها الشاذة بهدوء وتأمل حتى ينتهي المجرم رغم كل حيله من أجل النجاة مكسوراً مستسلماً. كم العنف الذي قدم لنا هذا العام زادت وتيرته، ولا شيء يبرره، ففي الوقت الذي تحاول فيه بعض الحكومات إيجاد حل لإيقاف منتجات العنف، نجد مؤسسات إعلامية تقدم العنف كوسيلة لإضحاك النّاس..! ودراما مفبركة بكل عناصر العنف الممكنة، قتل، اختطاف، اعتداء على الأعراض، تعاطي مخدرات، سكر وإرعاب ممنهج للمتفرّج من أجل رفع نسبة المشاهدين، أيعقل؟؟؟ إنها نكسة العقل أن يعتقد من نعتبرهم مبدعين أن العنف معنوياً كان أو جسدياً هو الذي يجلب الفرجة، ويرفع أرقام المتابعين لفضائياتنا، لقد كنا ننكمش في عمر النشاط والحركة مع روايات أغاتا كريستي ولا نغادر الكتاب حتى ننهي قراءته، كنا نلاحق لغز الجريمة بشغف ونحاول كشف سره قبل بلوغ نهاية القصة، وكنا ندخل في رهانات مع بعضنا بعضاً عمّن يفوز في الأخير. كنا أيضاً نعشق مسلسلات أميركية مثل "دورية الليل"، و"المفتش كولومبو" والمفتش "أبو قرعة" المدعو "كوجاك" وغيرها من المسلسلات التي تجعلنا نستخدم أدمغتنا ونحن نحلل تفاصيل الجريمة لنصل للحل قبل أن تنتهي كل حلقة...! كانت أياماً زاخرة بالهدوء حتى حين تكون الموضوعات الأدبية والدرامية تدور حول الجرائم، وكانت قنواتنا التلفزيونية اليتيمة كافية لتربطنا تماماً وتقطع أنفاسنا بتلك البرامج الجميلة، أمّا اليوم فرغم الكم الهائل من الخيارات، فإننا نمسك "الريمونت كونترول" ونقلّب بين القنوات بحثاً عمّا يرضي أذواقنا فلا نجد غير الصراخ، ولا أدري لماذا يعتقد المسؤولون في تلفزيوناتنا أننا مصابون بالطرش، فهم يطلبون مزيداً من الإثارة وصناع الدراما يزيدون نسبة الصراخ والتعنيف والترعيب في أعمالهم، وكأن "الإثارة" تختصر في هذه العناصر البائسة. أيها السّادة لا أريد أن أترحّم على العقل لأني أحتفظ دوماً بشعلة أمل في قلبي، لكني في هذه الفترة بالذات أخرجت التلفزيون إلى شرفتي وناديت أول محتاج وأهديته له. عيدكم مبارك، وعسى أن يرحم صناع الدراما في رمضان المقبل عقولنا، وقلوبنا، فقد تحوّلوا إلى مدارس مختصة لتعليم العنف.