اقر مجلس الوزراء اللبناني الذي انعقد برئاسة فؤاد السنيورة مسودة نظام المحكمة ذات الطابع الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومرافقيه، وانهى بهذا الإقرار فصلاً شائكاً من فصول الخلاف اللبناني المستحكم في هذا الملف. في طبيعة الحال، لم يمر الإقرار من دون اعتراضات حادة من قبل"حزب الله"والفريق الذي يحالفه في لبنان، لكن مشروع القانون تجاوز المطهر القانوني والدستوري، ولم يعد في الإمكان العودة فيه إلى الوراء. وبصرف النظر عن الاجتهادات القانونية والعرفية والدستورية التي يحاول فريق 8 آذار تسويقها واقناع اللبنانيين بها حول لا شرعية قرار مجلس الوزراء المنعقد في غياب الوزراء الشيعة الذين قدموا استقالتهم من الحكومة، فإن تمرير القرار دولياً وتسويقه اصبح امراً نافذاً. هذه الواقعة لم تكن خافية على الفريق المعارض. واغلب الظن ان اركان هذا الفريق لا يعولون كثيراً على ادعاء لا شرعية القرار. بل ان الخطابات والاعتراضات التي ووجه بها قرار الحكومة كانت كلها تصب في خانة التحضير لما بعد القرار. فإذا لم يكن ممكناً تعطيل الحكومة دستورياً وقانونياً، فليس ثمة ما يمنع من تعطيل البلد برمته، عبر استنكاف طائفة وازنة واعتراضها بما يخل بالتوازن الأهلي، قبل القانوني والدستوري. وبهذا الاستنكاف يدخل البلد في ازمة مفتوحة ليس مقدراً لها ان تشهد حلولاً سهلة في القريب العاجل من الأيام. تخوف"حزب الله"من اقرار مسودة نظام المحكمة ذات الطابع الدولي على ما يردد اركان فريق 14 آذار، يكمن في كون التحقيقات في الجريمة تطاول بعض اركان النظام السوري، وتجعل من الوصاية الدولية على هذا النظام امراً شرعياً ويملك من الحجج ما يكفي لإحراج سورية وحشرها في زاوية اضيق من التي تقبع فيها اصلاً، وهو ما يفقد"حزب الله"المنضوي في المحور الإيراني - السوري ظهيراً داعماً لا غنى عنه في مواجهة اسرائيل. ويذهب بعض اركان هذا الفريق إلى ابعد من ذلك حين يشيرون إلى احتمال توريط الرئيس اللبناني الجنرال اميل لحود في مضبطة الاتهام التي يعدها فريق التحقيق الدولي برئاسة القاضي البلجيكي سيرج براميرتز. وإذا صح ما يشاع في هذا الصدد، تتوضح الأسباب التي تحدو ب"حزب الله"للاعتراض على تشكيل المحكمة والتخوف من تسييسها، حيث ان مثل هذا الاحتمال قد يطيح بموقع رئاسة الجمهورية اللبنانية، وهو الموقع الأكثر امانة في تحالفه مع"حزب الله"وتسويغ سياساته لبنانياً بين مواقع الرئاسات الثلاث. ففي هذه الحال يصبح"حزب الله"من دون سند شرعي وقانوني ودستوري يمثله في المواقع الأولى في الدولة اللبنانية. وهذا امر يخالف بطبيعة الحال وزن الحزب ومن يتحالف معه في الحياة السياسية، على مستوى التمثيل السياسي في المواقع المؤثرة في لبنان. تأسيساً على هذه الهواجس يبدو"حزب الله"مسوقاً، من دون ان يرف له جفن، إلى محاولة تعطيل آلة الدولة برمتها. لأن خسارة الموقع الذي يمثله رئيس الجمهورية بالنسبة الى الحزب لا يمكن تعويضها بسهولة بالمد الشعبي فقط. لذلك يبدو امر تعطيل الدولة، عبر الدخول في لعبة الانقسامات الحادة في البلد، آخر بيادق"حزب الله"على رقعة الدولة اللبنانية. فالتوتير الذي يعبق في اجواء لبنان هذه الأيام محكوم بأن يصنع خطوط تماس سياسية بين الطوائف المختلفة، ومع استمرار النفخ في بوق هذا الانقسام الحاد، لا يعود ممكناً للرئيس نبيه بري ان يلعب دوراً وسيطاً في الحياة السياسية كما كان يطمح ويؤسس، لأن الانقسام الحاد والأعمى لن يميز في طبيعة الحال بين شيعي من حركة"امل"وآخر من"حزب الله"، وسيضع الشيعة جميعاً في سلة واحدة بالنسبة الى الطوائف الأخرى، الامر الذي يعيد ل"حزب الله"موقعاً اساسياً في السلطة عبر استدراج نبيه بري وحركة"امل"إلى حضن الطائفة المحكومة بالتوحد في مواجهة التسعير الطائفي الذي يضرب البلد طولاً وعرضاً. في هذا السياق قد يكون خطاب الرئيس السنيورة الذي يصر على استعادة الوزراء المستقيلين إلى حضن الدولة الجامعة، آخر الخطب التي تنشد الوحدة بين اللبنانيين قبل اندلاع الانقسام الطائفي وتفلته من كل عقال، إلى حد قد لا تعود تجدي معه التدخلات الخارجية العربية والدولية في لملمة وضع البلد. ليست المرة الأولى التي يمر فيها لبنان في مثل هذا المخاض العسير. لكن البلد في المرات التي وصل فيها انقسامه الاهلي إلى هذا الحد البالغ الخطورة لم يستطع التغلب عليها بجهود ابنائه وساسته وعقلائه، بل استلزم في كل مرة جراحة عسكرية خارجية تعيد صناعة قواعد الحياة السياسية وفق ما ترتأيه مصالحها اولاً. هذا حدث في العام 1989 حين كانت حكومة العماد ميشال عون العسكرية تجتمع من دون وزرائها المسلمين في بعبدا، ويومذاك لم يكن الجنرال عون يرى في هذا الخلل الفادح في التوازن في حكومته ما يجعله يحجم عن اتخاذ القرارات التي كان يراها تصب في مصلحة سياسته وافكاره. وغاية الرجاء ان تكون دروس تلك التجربة المرة على لبنان واللبنانيين هي التي تجعل عون يصرح اليوم بلا شرعية قرارات حكومة فؤاد السنيورة. * كاتب لبناني