قرأت بإمعان منذ أسابيع عدة ما قاله د/ رضوان السيد في جريدة"الشرق الأوسط"في مقاله المعنون سيد قطب بعد أربعين عاماً... أسئلة لا تبيد وأعدت قراءته مرة أخرى وأعتقد انها قضية مهمة تستحق المناقشة والاضافة. يقول السيد في هذه المقالة، بعد مرور هذه السنوات على إعدامه"ظللت مقتنعاً أن سيد قطب ظلم، وما كان ينبغي أن يسجن أو يعدم. فالرجل الذي يكتب"في ظلال القرآن"، مثقف كبير، وكاتب كبير وملتزم، وهذه هي رسالة المثقف والداعية: التعبير بأقصى درجات الإقناع عن رأيه. وما دام لم يحمل سلاحاً ضد النظام، فليس من حق أحد التصدي لحريته في التقدير والتعبير". ويضيف في فقرة أخرى من هذا مقال"الواضح أن سيداً ما فكر كثيراً بالنتائج المترتبة على الجاهلية المدّعاة، وهل يعني ذلك تكفير المجتمع والدولة في عالم الإسلام أم لا؟ أمّا السلفيون الذين دخلوا على الإخوان المسلمين من المدخل الفقهي منذ السبعينات فقد لجأوا الى ابن تيمية وابن كثير في مسألتي التكفير وإحلال الدم، وسيد قطب لا يفيد في شيء من هذه الناحية". الواقع أن إعدام سيد قطب بهذه السرعة جعلت الكثير من الشباب المندفع يعتقد بأن أفكاره في الجاهلية والحاكمية تعني تكفير المجتمع والناس أجمعين، وهذه الرؤية الخطيرة التي تم تأويلها لسيد قطب ربما جاءت في سياقات ومفاهيم ورؤى لا تتسق مع ما فسره البعض في مسألة التكفير والتغيير بالعنف. حيث عانى سيد قطب والكثير من أصحاب التوجهات الإسلامية في فترة الحكم الناصري، وهو ما ظهر بعد ذلك بما سمي بپ"فكر الأزمة"الناتجة من السجن والتعذيب وافتقاد الحريات العامة. ولو أن سيد قطب كان حياً في اعتقادي لكان أسبق في تصحيح هذه المفاهيم والتأويلات لأفكاره، ولكان الأسبق أيضاً من قيادات الجماعات الإسلامية الذين راجعوا أفكارهم في مسألة العنف والتكفير وغيرها من المفاهيم الخاطئة في السجون المصرية، وهو الرجل المثقف والأديب الكبير. ومع ذلك نعتقد بأن الكثير من الآراء التي قالها سيد تحتاج إلى التدقيق والمراجعة العادلة والعميقة في قضيتي الجاهلية والحاكمية. ويرى المستشار سالم البهنساوي في كتابه الحكم وقضية تكفير المسلم أن"الأستاذ سيد قطب لا يحكم على المسلمين في عصرنا بالكفر لمجرد أن الحاكم قد حكمهم بغير ما أنزل الله فهو لا يفترض أنهم يرضون هذا، بل يوضح أن الكفر يتحقق فقط بالنسبة الى من لا يرضى بحكم الله ورسوله منهم أو من يتولى عنه ويرفض قبوله مفضلاً عليه حكم الجاهلية الحديثة. وعبارة"من لا يرضى بحكم الله، أو من يتولى ويرفض قبوله"لا تحتمل التأويلات فأقواله هذه صريحة في أنه لا يقول بكفر الشعوب المسلمة إلا أن عارضت حكم الله أو تركته واحتكمت مختارة إلى غيره لأن عدم الرضا لا يتواجد ولا يتحقق إلا بهذين الأمرين: المعارضة الصريحة لحكم الله، أو المعارضة الضمنية بالاحتكام إلى حكم آخر". هذه الآراء التي ناقشت أفكار سيد قطب تطرح أن هناك التباساً في ما طرحه سيد قطب في تفسيره"في ظلال القرآن"أو كتابه معالم في الطريق حول مسألة الحاكمية وقضية تكفير المسلم الذي تحكمه القوانين الوضعية، وهذا في حد ذاته مخالف لما تبناه بعض الشباب حول هذه القضية، أو ما اعتقده بأن هذه أفكار سيد قطب حول عقيدة المسلم الذي لا تحكمه الشريعة الخ. بل أن الأخ الشقيق لسيد قطب الكاتب الإسلامي المعروف محمد قطب قال في رسالة نشرتها مجلة المجتمع الكويتية في منتصف السبعينات عندما ظهر الغلو والتطرف عند بعض الشباب المسلم حول المجتمع الجاهلي والتكفير والهجرة من المجتمع الخ. يقول محمد قطب في هذه الرسالة"إن كتابات سيد قطب قد تركزت حول موضوع معيّن، هو بيان المعنى الحقيقي للا إله إلا الله، شعوراً منه بأن كثيراً من الناس لا يدركون هذا المعنى على حقيقته، وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان كما وردت في الكتاب والسنة، وبأن كثيراً من هذه المواصفات قد أهمل أو غفل الناس عنه. لكنه مع ذلك حرص حرصاً شديداً على أن يبين أن كلامه هذا ليس مقصوداً به إصدار أحكام على الناس وإنما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة ليتبينوا هم لأنفسهم إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي أم أنهم بعيدون من هذا الطريق فينبغي عليهم أن يعودوا إليه ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول"نحن دعاة ولسنا قضاة". ويضيف محمد قطب في فقرة أخرى"كما سمعته أكثر من مرة يقول:"إن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك، وهذا أمر ليس في أيدينا ولذلك فنحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس فضلاً عن كوننا دعوة ولسنا دولة، دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم. أما بالنسبة الى قضية المفاصلة فقد بين في كلامه أنها المفاصلة الشعورية التي لا بد من أن تنشأ تلقائياً في حس المسلم الملتزم تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام، ولكنها ليست المفاصلة الحسية المادية، فنحن نعيش في هذا المجتمع وندعوه إلى حقيقة الإسلام ولا نعتزله والا فكيف ندعوه؟!". كما أن الباحث الفرنسي في الجماعات الإسلامية"جيل كيبل"طرح هذه القضية في كتابه النبي والفرعون ويقول فيه إن المقصود بالمجتمع الجاهلي عند سيد قطب هو"المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه وخلقه وسلوكه". ويضيف كيبل في صفحات أخرى من هذا الكتاب"إن إعدام سيد قطب المبكر وضع مفاهيمه وأفكاره في متناول الشعب بكل ما احتملته من مضامين غير واضحة أيضاً وأدى ذلك إلى وقوع سلاح التكفير بين أتباع مذاهب لا يمكن السيطرة عليها". كما إن الذي قاله سيد قطب في قضية الحاكمية قاله أحد المفكرين الإسلاميين المعاصرين للسيد قطب، يكن له الجميع التقدير والاحترام، وتوصف أفكاره بالاعتدال والنزاهة والدقة والأمانة العلمية - وهو كذلك - ولا نزكي على الله أحداً. يقول د/ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه كبرى اليقينيات الكونية صپ371و372."الحاكمية إنما هي لله وحده، هو المشرع لعباده في شتى شؤونهم المتعلقة بدنياهم وآخرتهم وهو المرجع في حل كل مشكلة من مشكلاتهم وإقامة كل تنظيم ودستور لحياتهم. ومن جحد ذلك فهو كافر بالله ورسوله وإن ادعى بلسانه الإيمان بالله ورسوله وصلى وحج وصام. قامت على ذلك أدلة العقل والنقل من الكتاب والسنة وتم على ذلك إجماع المسلمين كلهم". لماذا لا يكون نص سيد قطب في قضية الحاكمية مثل نص محمد سعيد البوطي المشار إليه آنفاً؟!، ربما السبب أن أفكار البوطي ورؤيته واضحتين في هذه القضية لأنه يعيش بيننا - متعه الله بالصحة والعافية - ولا يستطيع أحد أن يتهمه بالتكفير، لأنه ببساطة يستطيع الرد وتفنيد كل التباس في طرحه مسألة الحاكمية التي قالها في هذا الكتاب. لكن سيد قطب في ذمة الله ولا يستطيع الرد على من يتهمه بالتكفير وتجهيل المجتمع والهجرة منه. والغريب أن سيد قطب في كتابه ظلال القرآن بأجزائه الثمانية وهو الكتاب الذي نشره في مرحلته الثانية التي يصفها البعض بالمرحلة الأكثر حدة ومناقضة للأفكار المعتدلة والتي منها كتاب معالم في الطريق يتحدث عن حرية الاعتقاد والاختبار الحر للإنسان في اختيار عقيدته وهو ربما أكثر تقدمية من بعض الليبراليين والعقلانيين المعاصرين، وهذه ربما تجعل آراءه في الجاهلية والحاكمية ذات مدلولات أخرى مناقضة لتفسيرات البعض عنه. يقول قطب في"الظلال"الجزء الأول ص291 - طبعة دار الشروق"إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق"الإنسان"التي يثبت له بها وصف"إنسان". فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء... ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة الى العقيدة، والأمن من الأذى والفتنة... وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة. والإسلام - وهو أرقى تصور للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الذي يبيّن لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين... فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المتعسّفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة"! والتعبير هنا - كما يقول سيد قطب - يرد في صورة النفي المطلق:"لا إكراه في الدين"... نفي الجنس كما يقول النحويون... أي نفي جنس الإكراه. نفي كونه ابتداء. فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع. وليس مجرد نهي عن مزاولته والنهي في صورة النفي - والنفي للجنس - أعمق إيقاعاً وآكد دلالة". أشارك الدكتور السيد في أن سيد قطب"ظُلم"لكنني أعتقد بأنه ظلم مرتين، مرة ممن يدّعون أنهم من تلاميذه أو متعاطفين معه الذين فسّروا كتاباته أكثر مما تحتمل التفسيرات، ومرة من مخالفيه وأعدائه عندما أقدموا على إعدامه والتشنيع بأفكاره وكتاباته مما جعل إعدامه يتحول إلى ذخيرة حيّة لأفكاره، وان تتطاير هذه الأفكار في عشرات الطبعات من دون أن يكون الرجل حياً - رحمه الله - يفنّد ويصحح ويبيّن ما قصده في قضايا الحاكمية والجاهلية والطليعة المؤمنة إلخ. ولله الأمر من قبل ومن بعد. * كاتب وباحث عماني