تحدثتُ في مقالي السابق عن فكرة الإسلام السياسي وحقيقة رسالة الإسلام، وقد انتهى المقال بأن حركات الإسلام السياسي – وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين طبعاً- قد خلطتِ الفقهَ بالشريعة وغيرَ المنصوص عليه شرعاً بالمنصوص عليه، وخلطت أيضاً بين التاريخ والنص؛ فجعلتِ التاريخَ في ممارساتها مصدراً للتشريع كما هو النص؛ إضافةً لمفهومها الضبابي الذي يشوبه التعميم دون تفصيل حول الشريعة والسياسة وحول مفهوم تحكيم الشريعة الإسلامية. وفي هذه المقالة سأتحدث عن سيد قطب المتهم الأول بأنه من حوَّلَ جماعةَ الإخوان المسلمين بعد تأسيسها على يد حسن البنا من مسارها الديني والأخلاقي إلى مسارات غياهب الإسلام السياسي الذي دخله الخلطُ في المفاهيم، والذي تحكَّمت فيه العاطفة والسياسة أكثر من العلم والعقل، فقد كنتُ أُقلبُ النظرَ وأقرأُ في كتاب «ظلال القرآن» لسيد قطب فرأيتُ مفاهيم عجيبة وغريبة مختزلة ناقصةَ التفصيل والتقصي مع تعميمها وتهويلها وافتقادها للمنهجية العلمية تجاه النص الشرعي بخاصة في مفهوم الحكم بغير ما أنزلَ الله. لقد اعتمدَ سيد قطب في تقريره للإسلام السياسي على فكرتين: الجاهلية والحاكمية لله؛ أما الجاهلية فهو يقسم المجتمعات إلى قسمين: مجتمع إسلامي يطبق الإسلام ومجتمع جاهلي لا يطبَّق فيه الإسلام، يذكر الدكتور محمد سليم العوا: أن هاتين الفكرتين: «الجاهلية» و«الحاكمية»، هما الفكرتان الرئيسيتان في منهج سيد قطب الفكري، وحول هاتين الفكرتين تدور كل الأفكار الأخرى التي تصادفنا في كتب سيد قطب، بل وفي تفسيره للقرآن الكريم «في ظلال القرآن»، وذلك حين يتعلق الأمر بالفكر السياسي أو بالحياة الاجتماعية. لكن ما حقيقة الجاهلية والحاكمية التي يقصدها سيد قطب؟ يلاحظ أن سيد قطب قد صنَّفَ البشريةَ كافة بمن فيهم المسلمين غير المنتمين لجماعته، والذين يسميهم (العصبة المسلمة على حدِّ تعبيره) ضمنَ مصطلح الجاهلية التي يرددها كثيراً في كتبه، يقول في كتابه ( ظِلال القرآن2/1057): «البشرية عادت إلى الجاهلية وارتدَّت عن لا إله إلا الله، البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع، هؤلاء أثقلُ إثماً وأشدُّ عذاباً يوم القيامة أنهم ارتدّوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبيّن لهم الهدى ومن بعد أن كانوا في دين الله»، ويقول في الصفحة نفسها: «ارتدَّت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظلَّ فريقٌ منها يردد على المآذن: لا إله إلا الله دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعيَ هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفضَ شرعية الحاكمية»، بعد ذلك يوجه سيد قطب في آخر تلك الصفحة من تفسيره الظِّلال (2/1057) كلمةً توجيهيةً لجماعته الحركية يقول فيها: «فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقفَ طويلاً أمام هذه الآيات»! إذن سيد قطب يرى في جماعته (العصبة المسلمة) أنهم هم المنقذون من ضلالات الجاهلية! ويقول -أيضاً- في كتابه (معالم في الطريق ص 101): «يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة، لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها» نجد سيد قطب في هذه النصوص الخطيرة يفهم الجاهلية والحاكمية بهذه الطريقة التي يُخرجُ بها عامةَ المسلمين بمن فيهم المؤذنين الذين يرددون (لا إله إلا الله) على المآذن؛ ويأتي استبعادهم عن الإسلام؛ لأنهم – حسبَ وجهة نظره – لم يرفضوا جاهلية الحضارة المعاصرة وحكم الحاكم الذي لم يطبق شرع الله. وينتقد الدكتور محمد سليم العوا فكرتي الجاهلية والحاكمية عند سيد قطب فيقول: «ومن باب هاتين الفكرتين القطبيتين دخلت إلى الفكر السياسي الإسلامي وإلى العمل الحركي جميع أفكار المقاطعة والتكفير والاستحلال واستباحة الدماء والأموال، وعشرات النتوءات الفاسدة التي نُسبت إلى الإسلام ظلماً وزوراً، وشوَّهت صفحته الناصعة بخطايا أصحابها». والسؤال المطروح: ما هو شرع الله الذي يريد سيد قطب تطبيقه؟ يلاحظ أن سيد قطب يرفض اختزال الإسلام في العبادات، ويطالب بأن يكون الإسلامُ حاضراً في حياة المسلمين، ولا إشكال عندنا في ذلك؛ الإشكال إنما يكمن في فهمه للإسلام ولحياة المسلمين؛ حيث نجده يتجاهل حضور الإسلام في حياة المسلمين اليوم، فالمسلمون – جملةً – يقيمون حياتهم وِفقَ الشريعة الإسلامية؛ فالزواج عند المسلمين – مثلاً- لا يكون إلا حسب ما تقتضيه الشريعة الإسلامية وكذا يقال عن الطلاق والمواريث والكثير من فقه المعاملات وغيرها، لكن مشكلة سيد قطب أنه لا يهمه ذلك كثيراً؛ إذ هو يفهم الإسلام بأنه صراعٌ بين المسلمين وغير المسلمين، وبأنه هو وجماعته هم أهل الإسلام ومن سواهم أهل جاهلية؛ إذ يقول: «لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها العذاب إلا بأن تنفصلَ عقدياً وشعورياً ومنهجَ حياة، عن أهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي الأمة المسلمة وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية»، إنها دعوةٌ صريحة من سيد قطب للتقوقع وهجر المجتمع بأكمله والانزواء بعيداً، وذلك بسبب إيمانه وإيمان جماعته أنهم الجماعة الوحيدة المسلمة على وجه الأرض، وأن من سواهم يعيشون عيشةَ الجاهلية، فليس حرياً بهم أن يختلطوا ببقية أفراد هذا المجتمع الجاهلي. مشكلة سيد قطب أنه مع كثرة كلامه وترديده الذي لا ينتهي حول الحاكمية والجاهلية لم يتحدث لنا بدقة حول ماهية الحاكمية لله فمثلاً يقول في كتابه معالم في الطريق: «والتحرُّر الحقيقي هو أن تكون الحاكمية العليا في المجتمع لله وحده متمثلةً في سيادة الشريعة الإلهية» فعلى كثرة كلامه عن الحاكمية؛ نجد غاية ما وصل إليه هو الدعوة لحاكمية الله وحده بشكلٍ عام؛ هذا التعميم والتهويل أدخلَ الفكر الحركي بخاصة جماعته الإخوانية في دوامة التعميم والتهويل دون فهمٍ دقيقٍ لمصطلح الحاكمية وسيادة الشريعة؛ بل هو كثير التعميم دون تفصيلٍ وتدقيق؛ سأعطيكم مثالاً لذلك في تفسيره (الظِّلال2/687) يقول عند الآية الكريمة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}: «إن المرجع فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة والأقضية التي لم ترد فيها أحكامٌ نصية.. إن المرجع هو الله ورسوله.. أي شريعة الله ورسوله» أتساءل عن هذا التعميم غير العلمي: إذا كانت تلك الأقضية غير منصوص عليها بأحكام من مُشرِّعها فكيف يكون المرجع فيها لله ورسوله؟ لأن هذا من المسكوت عليه الذي يدخل في دائرة المباح، مشكلة سيد قطب وجماعته الإخوانية أنهم دائماً ما يزايدون على المجتمعات الإسلامية بمسألة الحاكمية لله، وأن تلك المجتمعات خارجةٌ عن منهج الله إن لم تكن ضمن جماعته التي يسميها (العصبة المسلمة). لقد اتَّخذَ سيد قطب من«الحاكمية الإلهية» شعاراً ودعوى جذابة تبدو وكأنها ثورةٌ كاسحة، وتغييرٌ شامل؛ فإذا قلنا: وماذا تعنيه الحاكمية الإلهية «عملياً»؟ لما وجدنا شيئاً في مئات الصفحات من كتابيه: «ظلال القرآن» و»معالم في الطريق»، فإذا كان هذا هو دين الله ومنهجه في الحياة على ما قال فإن كل الفقهاء المسلمين السلفيين يقولونه، وليس فيما جاء به أي تجديد؛ بيد أن سيد قطب استخدم مصطلح «الحاكمية لله» استخداماً شعاراتياً سياسياً؛ لاستغلال دهاء الدهاة ولاستغلال غباء السذَّج والذين يسميهم (العصبة المسلمة). حينما نقرأ لسيد قطب – بعمق- في كتابه: (ظلال القرآن) نجده لا يدع أحداً دون نقد، فموقفه المعادي من الحضارة المعاصرة وكل المجتمعات الإنسانية متشدد وقاسٍ، فهو يتحدث عن الحضارة المعاصرة وعن المختلفين معه بطريقة (التجديف) فهو يحكم على آراء البشر وبطريقة تعميمية سمجة غير مستندة لأدلةٍ نقليةٍ أو شرعية بأنها (جاهلية) ويتعامل مع الحضارات ومع المجتمع الإسلامي بالمعادلة الصفرية إن لم تكن معي فأنت ضدي، فهل يمكن أن نتبين في ذلك مفكراً إسلامياً مثالياً دفعه التزامه الفكري بالعقيدة الإسلامية إلى مثل هذا التشدد البالغ؟ وهل كانت خيبته من الحضارة المعاصرة مريرةً إلى الدرجة التي تبرر سخطه البالغ على كل ما يمت إلى هذه الحضارة بصلة؟ وللحديث عن الإسلام السياسي تتمة.