الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    أغرب القوانين اليابانية    أخضر الشاطئية يتغلّب على الصين في ختام بطولة كأس نيوم الدولية    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    «مَلَكية العلا»: منع المناورات والقيادة غير المنتظمة في الغطاء النباتي    سعرها 48 مليون دولار.. امرأة تزين صدرها ب500 ماسة    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    أكثر من 92 ألف طالب وطالبة في مدارس تعليم محايل    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    الأخضر يبدأ تحضيراته لمواجهة أندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    منتخبنا فوق الجميع    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    عروض ترفيهية    المملكة تستعرض إنجازاتها لاستدامة وكفاءة الطاقة    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    ضبط أكثر من 20 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    إشادة سعودية – فرنسية بتقدم مشروع «فيلا الحجر»    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    عمق إنساني    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    ألوان الأرصفة ودلالاتها    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية    ابنتي التي غيّبها الموت..    زيلينسكي يفضل الحلول الدبلوماسية.. ومجموعة السبع تهاجم روسيا    إحباط تهريب (32200) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي في جازان    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    اتحاد القدم يحصل على العضوية الذهبية في ميثاق الاتحاد الآسيوي لكرة القدم للواعدين    الزفير يكشف سرطان الرئة    تطوير الطباعة ثلاثية الأبعاد لعلاج القلب    القهوة سريعة الذوبان تهدد بالسرطان    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تطبيق الدوام الشتوي للمدارس في المناطق بدءا من الغد    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيد قطب : الصلة بالتشدد ومنهجية القراءة
نشر في الحياة يوم 07 - 08 - 2004

تعرض سيد قطب لقراءات متعددة باختلاف القارئين وانتماءاتهم، والجدل حول قطب ليس جديداً، ولا ضيقاً، ومع ذلك فهو يلقى تعاطفاً كبيراً في أوساط الإسلاميين، في مقابل خصومة شديدة من غيرهم، والبعض يرى فيه ابتعاثاً لفرقة الخوارج التي ظهرت في القرن الهجري الأول ورفعت شعار "لا حكم إلا لله". وبعض آخر يرى أنه أسس للتشدد الديني ومهد لحركات التكفير والهجرة التي عرفتها الساحة العربية والإسلامية في ثمانينات القرن الفائت وما بعدها. ولعل من المفارقة أن يتعرض قطب نفسه للتكفير من جانب بعض المتسلفين الجدد الذين استغلوا علم "الجرح والتعديل" الذي اخترعه المحدّثون قديماً، في التنفير من قطب والتحذير من ضلاله!
وإذا كان الهضيبي قد قام - من خلال "دعاة لا قضاة" - ببلورة معالم الأسس الجوهرية للقطيعة بين التيارين الراديكالي والدعوي الوسطي، فيبدو القرضاوي أخيراً معنياً بإحداث قطيعة مع فكر قطب، بعد أن كان متحمساً للحاكمية في ستينات القرن العشرين، والقطيعة تبدو من جهتين: من جهة أن قطباً كان يكفر عامة المسلمين بحسب القرضاوي في مذكراته وفي بحثه الأخير "هل يكفر قطب مسلمي اليوم؟"، وينشغل ببيان خطأ هذا الفهم. ومن جهة أن التكفير لصيق الصلة بالعنف المناهض للوسطية التي يدعو لها القرضاوي، ومن ثم كان مشغولاً بعد 11 أيلول سبتمبر بخاصة، ببيان لا شرعية العنف المستخدم هنا وهناك باستثناء "العمليات الاستشهادية" في فلسطين. كما ان قطباً كان لا يعترف بحضور الفقه في "المجتمع الجاهلي"، بينما يبدو القرضاوي مشغولاً بتجديد الفقه التقليدي.
وإذا كان بحث القرضاوي عن تكفير قطب لعامة المسلمين قد تم استثماره سعودياً في سياق الحملة على العنف، فإنه لاقى ردوداً سلبية لدى بعض الإخوان، وأعلم ان القرضاوي تعرض لضغوط بسبب كتابته هذا البحث، الذي شكّل خروجاً عن تفسير "الجماعة" الاعتذاري المبسط لكتابات قطب، بأنه كتبها في ظروف الاعتقال الخاصة، وأن الشباب الإسلامي قد غالى في فهمها الراديكالي. وهو التفسير الذي اعتبره البعض "يعكس تساهلاً خجولاً مع الأدلوجة القطبية، وتركها من دون نقدٍ جوهري فعلي يطور موقف الهضيبي منها".
في قراءة فكر قطب يواجه الإسلاميون المتحمسون له مشكلة منهجية تتمثل في الفصل بين صحة الفكرة وتضحية أصحابها في سبيلها، الذي يبدو صعباً عليهم، فالناس تتعاطف دائماً مع الضحية، وأفكار الموتى تتقدس فكيف بمن وصفوا بالشهادة؟ إنها بهذا تتغذى من مَعين الثورية والقدسية معاً.
وأول ما يُلحظ في التعامل مع فكر سيد قطب ان الكثيرين يقرأونه بمعزل عن سياقه زماناً ومكاناً وظروفاً، وتكويناً شخصياً. وهذا يرتد الى النزعة الإطلاقية السائدة لدى كثير من الإسلاميين حين يتصورون الأفكار متعالية تهبط من السماء، لا تنبع من الأرض. وهذه الملحوظة المنهجية لها تأثيرها الكبير في الموقف الذي سنتخذه مع أو ضد، ومن الأفكار التي سنناقشها سواء وصفناها بالتطرف أم بالاعتدال، فهما وصفان غير كافيين بذاتهما" من دون النظر الى بيئة تشكل ذلك الفكر، وروافده، وفي مواجهة من وماذا؟
فكر قطب... وسياقه التاريخي
برز قطب في خضمّ الصراعات الفكرية، وحصول "المثال" الغربي على قدر كبير من السيادة في القيم السياسية وفي العادات وأساليب العيش، وفي ظل صعود نجم الاشتراكية والفكر القومي الى درجة ظهور محاولات تحمل الربط بين الإسلام والاشتراكية والقومية، ولو عنواناً.
كانت الصراعات الفكرية الدائرة آنذاك، سواء التغريبية أم الإسلامية الإصلاحية، تعكس - في أحد جوانبها - حالة نفسية تجاه الغرب، انبهاراً بمنجزاته، ومع سقوط الخلافة وقيام الدولة الوطنية العلمانية، سادت أجواء من اهتزاز الثقة بالنفس، وفي هذا السياق جاء السؤال الكبير والمؤثر الذي صاغه أبو الحسن الندْوي 1950م "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"، واعتبره سيد قطب "من خير" ما قرأ من الكتب التي تتناول الإسلام ك"عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها احساس العزة من غير كبر، وروح الثقة من غير اغترار، وشعور الاطمئنان من دون تواكل، وتشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة"، بعد أن انتكس المسلمون "الى الجاهلية الأولى" - على حد تعبير سيد قطب في مقدمته للكتاب-.
كانت كتابات سيد قطب مشبعة بالحديث عن زيف الحضارة الجديدة، وجنايتها على الإنسان، وفقدان الرجل الأبيض لدوره. كان يكتب من منطلق استعلاء ايماني، وكان مشروعه هو تجديد إيمان المؤمن بدينه، وشحذ همته، ليكون مؤهلاً لدور الوصاية، فأعاد تعريف مفهوم "الجهاد"، وحمل على القائلين بكونه دفاعياً بشدة، واتخذ موقف المفاصلة من الأنظمة التي وصفها ب"الجاهلية"، وتحدث عن ضرورة بناء الطليعة المؤمنة التي ستكون نواة للمجتمع الإسلامي على صورته الأولى، ونقاؤه لا يتأتى إلا من عزلته عن "الجاهلية" السائدة، ومن ثم فإن الحديث عن الاجتهاد الفقهي هو - بمنظوره - عبث قبل إنشاء المجتمع الإسلامي" فالاجتهاد يكون لمجتمع اسلامي لا جاهلي!
كان الخيار الراديكالي للأمة بحسب ما تصوره نخبها في ذلك الوقت هو إما التغريب الذي كان يعني التقدم، أو الأسلمة والتي تعني لدى التغريبيين التخلف والرجعية، وكانت مظاهر المجتمع تسير في اتجاه التغريب" الأمر الذي أدى الى نشوء فكر الهوية، وهنا مثّل قطب أحد أركانه فبعث الكثير من الثقة في نفوس قرائه بدينهم ونصرته وعظمته، وزهّدهم بالأنموذج الغربي وحضارته، وبين لهم ان الإسلام هو الحضارة حين رفض وصفه ب"المتحضر".
واللافت أن قطباً كان يرى ان دور الإسلام المنتظر يقتصر على دائرة القيم فقط، والتي ترتكس فيها الحضارة المعاصرة، فقيادة العالم الغربي أوشكت على الزوال لأنه "لم يعد يملك رصيداً من القيم يسمح له بالقيادة"، و"لا بد من قيادة تملك ابقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت اليها البشرية، من طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي، وتزود البشرية بقيم جديدة جدَّة كاملةً هذه القيادة هي الإسلام كما يقول قطب في مقدمة "معالمه".
لم يكن نقاء تصورات قطب ونزعته الطهورية تعكس بالضرورة واقعيتها، وصحتها أيضاً، فقد كان مسكوناً بالمفاصلة الحدية مع جاهلية المجتمع، وبهاجس أن الصراع مع العالم بأسره ومع الأنظمة هو عقدي، وأن نقطة البدء في اقامة المجتمع الإسلامي هي تعبيد الناس - بحق - لله وفق مدلول الحاكمية عنده والتي هي من العقيدة كلمة لا إله إلا الله، ومن هنا كانت المفاهيم المركزية التي ميزت فكره هي: الجاهلية، والحاكمية، ومن باب هاتين الفكرتين العقديتين دخلت الى الفكر السياسي الإسلامي والعمل الحركي جميع أفكار المقاطعة والتكفير والاستحلال واستباحة الدماء والأموال، وعدد من النتوءات التي نُسبت الى الإسلام!
لم تكن أفكار قطب تتناول مسائل فقهية فرعية، بل كان ينأى بنفسه عن ذلك أيضاً، ليس لأنه ليس بفقيه فقط، ولكن بناء على رؤيته الخاصة بخصوص "حضور" الفقه في المجتمع "الجاهلي"، وهو وان لم يكن يهدف - كما يبدو وكما صرح هو - الى الحكم على الناس، لكن أصول أفكاره هي أفكار عقدية، فهو قد جعل نظرية "الحاكمية" مسألة عقدية لصيقة بالإيمان والفكر، بل داخلة في مفهوم "التوحيد" الذي هو أخص خصائص مسائل الاعتقاد، وربما يكون متأثراً في تقرير هذا بعكوفه على كتب ابن تيمية وابن القيم في سجنه حيث بلور "حاكميته في صورتها الأخيرة في كتاب "المعالم"، وهو بهذا قدم للسلفية الجهادية المعاصرة معيناً ثرياً أدركت من خلاله "الشرك المعاصر" الذي يعكر صفاء التوحيد، ولزم منه تكفير الحكام والأنظمة.
هذا فضلاً عن أنه شكّل مع المودودي - ومن قبلهما البنا - ريادةً لفكرة "النظام الإسلامي الشامل" طوال خمسينات القرن العشرين، والتي كان لها كبير أثر على رؤية الحركات الإسلامية لدورها، وذلك عندما كتبا في مكافحة الرأسمالية، ومحاسن النظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي، كما كتب محمد الغزالي والسباعي في مكافحة الشيوعية، وفي القراءة النقدية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أن قطباً سقى ذلك النظام بفكره الثوري، وأمده ببرنامج عمل لتنفيذه في "معالمه"، وبيئة ذلك كانت أجواء القطيعة والاشتباك مع النظام الحاكم.
يقوم النزاع هنا كثيراً حول مسألتين أساسيتين: الأولى هل لفكر قطب علاقة بجماعات العنف والجهاد التي ظهرت؟ والثانية: هل يتحمل قطب المسؤولية؟
فكر قطب... والفكر الحركي والجهادي
في ما يخص المسألة الأولى: يبدو للعديدين ولي أن فكر قطب شكل مَعيناً لكل الفكر الجهادي والحركي، ومن السهل أن نلحظ كاريزما قطب لدى عدد من الحركات الإسلامية بدءاً من الحديث عن علاقته بالتنظيم الخاص الإخواني ودوره في الانشقاقات التي حدثت داخله أثناء فترة سجنه حتى قيل: ان تنظيم الإخوان غصّ بفكر قطب فلا هو قدر على هضمه ولا هو قدر على لفظه، مروراً بعبدالله عزام رائد "الجهاد الأفغاني"، الذي يقول: "وجهني سيد قطب فكرياً وابن تيمية عقدياً وابن القيم روحياً والنووي فقهياً، فهؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياتي أثراً عميقاً". وكذلك يذكر أبو قتادة عن الظواهري انه عاش شبابه "منفعلاً بما كتبه سيد قطب" الى ان التقى شباباً مثله وأسسوا التنظيم، كما أن أبا قتادة شديد الاحتفاء بفكر سيد قطب ويقول: ان "الحركات الإسلامية توقفت عموماً في التقدم نحو الأفضل، ومن الأمثلة الصريحة على ذلك صنيع الإخوان المسلمين، فقد كان سيد قطب رحمه الله تعالى هو النتيجة الجيدة، والموقع المتقدم بعد حسن البنا". وهو يعتبر الحركات "الجهادية السلفية" هي "الطائفة المنصورة"، وان أول أسس شرعية عملها هو أن دار الإسلام "قد انقلبت الى دار كفر وردة، لأنها حُكمت من قبل المرتدين، ولأن الكفر قد بسط سلطانه عليها من خلال أحكامه ودساتيره"، وهذا ذاته مضمون ما نجده لدى قطب في كتبه، ومع ذلك فهذا ليس حكماً على الأفراد كما ينبه.
كما ان صالح سرية وهو صاحب أول تطبيق فعلي للعنف في مصر عام 1974 تنظيم الفنية العسكرية يقول في "رسالة الإيمان" التي كتبها سنة 1973م: "ان كل الأنظمة، وكذلك كل البلاد الإسلامية التي اتخذت لها مناهج ونظماً وتشريعات غير الكتاب والسنّة فقد كفرت بالله واتخذت من نفسها آلهة وأرباباً. فكل من أطاعها مقتنعاً بها فهو كافر" معتبراً هذا "الفرض الأول لأنها أساس التوحيد والشرك في هذا العصر"، ومحيلاً الى سيد قطب. بل انه اعتبر في مقدمة رسالته تلك ان من خير التفاسير لمعرفة التفسير الحق للقرآن "في ظلال القرآن" في طبعاته الأخيرة.
وعلى رغم أن محمد عبد السلام فرج صاحب الدور البارز في اغتيال السادات، لم يأت على ذكر قطب في "الفريضة الغائبة" الذي كتبه 1981م وشحنه بنقول عن ابن تيمية إلا أن جوهر الكتاب يقوم على البدء بجهاد الأنظمة الكافرة، وأن "الأحكام التي تعلو المسلمين اليوم هي أحكام الكفر" على حد قوله، ففكرة الحاكمية وروح كتابات سيد قطب غير خافية في رسالته وان لم يذكره، فهو يتحدث عن تكفير الأنظمة وجهادها، ومفاصلة المجتمع، و"دعوة الناس الى الإسلام" وغير ذلك.
كما ان أفكار واصدارات الجماعة الإسلامية المصرية عن الجهاد وتحكيم الشرع والمواجهة مع الأنظمة لا بد من ان تتماس مع فكر سيد قطب، وليس بالضرورة أن يكون الشكل الوحيد للتفاعل هو النقل والاقتباس، ففكر العنف يبدو لي بطبيعته لا يقف عند مرجعية ثابتة، بل يطوّر نفسه وفق تعقيدات مختلفة تتعلق بالظرف والزمان والأشخاص، ولا يمكن السيطرة عليه، وهو الأمر الذي يفسر الانشقاقات التي تحصل داخل بعض التنظيمات الجهادية والعنفية.
ان أي حركة جهادية أو تغييرية عنفية لا يمكن لها أن تزهد بالمعين الثوري الذي تركه قطب، ومن هنا نجد أنه حتى حركات الجهاد كحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين تحتفي بسيد قطب مع علي شريعتي، ومالك بن نبي، وثلاثتهم يشكلون وفق تعبير زعيمها الشهيد فتحي الشقاقي "مثلثاً خطيراً في الفكر الإسلامي الحديث"، وكان كتاب "المعالم" من ضمن ما استند اليه الشقاقي في "كيفية الصياغة الثورية للفكر الإسلامي". فسيد قطب نُظر اليه في حركة الجهاد من زاوية تحقيقه "للشرط الذاتي" لعمليتي البعث والنهضة، الشرط الذاتي كمحرك للذات الإسلامية التي أرادها متميزة وواعية بأزمة التحدي الغربي للأمة.
إذاً ان ثورية قطب وأفكاره تشظت على مجموعات ورجالات مختلفة التوجهات والعمل الحركي.
اعتذاريات القطبيين... ومنهجية قراءة فكر قطب
أما في ما يخص المسألة الثانية فيميل المدافعون عن قطب، الى ان المسألة لا تعدو ان تكون مشكلة قرائه، لا مشكلته هو. ويعتذرون بأدبيته عن فقهيته، وبليونة تعبيراته عن دقة مدلولاتها، وبأفعاله مع أقواله عن أقواله فقط، وبالجمع بين نصوصه عن بعضها فقط، وبظروف المولعين به عن مدلولات أفكاره في ذاتها، وأن الظروف أوصلتهم الى ما أوصلتهم اليه. وهنا يحسن أن نذكر ملحوظات منهجية في التعامل مع الأفكار، ومع فكر سيد قطب رحمه الله تحديداً.
1 - ضرورة النظر لملابسات تأليف الكتاب
لا بد من النظر مرة أخرى في ملابسات تأليف الكتاب الذي يُرجع اليه، وأن مصنفات كاتب ما ليست جميعها على الدرجة نفسها من العمق والتحرير أولاً، فمنها ما يكون في ابتداء الأمر، ومنها ما يكون لأغراض أخرى" فقد كان من عادة العلماء قديماً أن يصنفوا الكتب في بداية طلبهم، لمجرد النفع الذاتي، وثانياً لأن الكاتب نفسه قد يطرأ عليه تغيير في فكره فيرجع عن شيء دوّنه قبلُ. وهذا لا بد من تحريه بالوسائل المنهجية المعروفة لدى المعنيين بهذا الشأن.
نضرب مثالاً للأول، بالحافظ ابن حجر الذي قال في أخرةٍ من حياته: "لست راضياً عن شيء من تصانيفي لأنني عملتها في ابتداء الأمر، ثم لم يتسنَّ لي تحريرها سوى شرح البخاري ومقدمته والمشتبه، والتهذيب، ولسان الميزان. وأما سائر المجموعات فهي كثيرة العَدد، واهية العُدد".
ونضرب مثالاً آخر بالإمام الحافظ الذهبي الذي قال: "كتاب مستدرك الحاكم كتاب مفيد، وقد اختصرته ويعوز عملاً وتحريراً". وأمام هذه النصوص يتبين لنا الخطأ الذي يقع فيه عديد من الباحثين المعاصرين حين يتجاهلون هذه الكلمات أثناء تعاملهم مع تلك المصنفات، فيشنع بعضهم على الذهبي مثلاً لكونه سكت عن حديث ضعيف أو موضوع في المستدرك! أو لخطأ وقع من ابن حجر في كتبه التي لم يحررها ومات غير راضٍ عنها!
وللثاني نضرب مثالاً بالإمام الشافعي، ومعلوم أنه تراجع عن مذهبه القديم ولم يُحلّ الرجوع اليه باستثناء مسائل معدودة يعرفها أهل الفقه.
وفي ما يخص سيداً، وهو قاصر عمن سبق ذكره مكانة، غير أن المنهج نفسه ينطبق عليه، فقد ذكر القرضاوي في مذكراته فقال: "حدثني الأخ د. محمد المهدي البدري ان أحد الاخوة المقربين من سيد قطب - وكان معه معتقلاً في محنة 1965م - أخبره ان الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله، قال له: ان الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة: المعالم، والأجزاء الأخيرة من الظلال، والطبعة الثانية من الأجزاء الأولى، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، والإسلام ومشكلات الحضارة، ونحوها مما صدر له وهو في السجن، أما كتبه القديمة فهو لا يتبناها، فهي تمثل تاريخاً لا أكثر. فقال له هذا الأخ من تلاميذه: إذاً أنت كالشافعي لك مذهبان: قديم وجديد، والذي تتمسك به هو الجديد لا القديم من مذهبك؟ قال سيد رحمه الله: نعم، غيرت كما غير الشافعي رضي الله عنه. ولكن الشافعي غير في الفروع، وأنا غيرت في الأصول!" أ ه.
هذه الشهادة التاريخية لها قيمتها التي لا تنكر، ومع ذلك يجب أن نحتاط منهجياً فيها، ويكون ذلك بالدراسة المتأنية لأفكاره قبل السجن وبعده، ورصد المتغيرات التي طرأت عليه، ويدعم تلك الشهادة شهادة أحمد عبدالمجيد الذي كان من الدائرة الأولى التي تجالس قطباً وتأخذ منه مباشرة، وتأثرت بأفكاره تأثراً كبيراً، وهو يقرر أن التغير طرأ في السجن وفي أصول أفكاره الجاهلية، الحاكمية، المفاصلة الشعورية.... ولا شك في أن آخر ما يكتب الرجل هو آخر ما ينتهي اليه فكره.
2 - تأريخ الأفكار وخطأ الجمع بين الأقوال
بناء على ما سبق فإن من الخطأ الجمعَ الاعتباطي بين أفكاره، وحمل بعض نصوصه على بعض، فمعلوم أن فكر سيد قطب مر بمراحل وظروف مختلفة، وتأريخ أفكاره هنا بالغ الأهمية، فلا يمكن مثلاً الاستدلال على فكره بنصوص من رسائله لشقيقته أيام إقامته في أميركا 1948 - 1950م والتي نشرت في كتابه "أفراح الروح" للبرهنة على أن قائل هذا الكلام لا يمكن أن يكفر المجتمع! فلا بد لمن يريد أن يفهم سيد قطب أن يحيط بمراحل حياته وتطوره فيها، حتى يعرف حقيقة موقفه.
ان مشكلة البعض - كصلح عبدالفتاح الخالدي مثلاً - ممن تحدث عما سماه ب"المنهج الإسلامي في الجمع بين الأقوال المتعارضة" للجمع بين أقوال سيد قطب: انه يقع في مشابهة مذمومة، فيستعير المنهج الإسلامي للتعامل مع نصوص الوحي، ليطبقها على أقوال البشر! والفوارق المنهجية - فضلاً عن الدينية - كبيرة، فالجمع والترجيح والنسخ والتوقف، وهي الخيارات المطروحة بضوابطها للتعامل مع نص الوحي قرآن أو سنّة المتعارضة أو التي "ظاهرها التعارض": مبنية أصلاً على نزاهة النص الديني لأنه لا ينطق عن الهوى، وعلى براءة القائل من الوقوع في التناقض أو النسيان الذي هو شأن البشر، وعلى عصمة التشريع الإلهي من خضوعه للتطور، أو اكتشاف مجهول ونحو ذلك من الفروق، من دون أن ندخل في الفروق المرجعية بين نص وحي لا مناص من الاحتكام اليه، وبين نص بشري لا يضير تجاهله وعدم معرفته أصلاً!
فكيف بعد هذه الفوارق لو علمنا ان فكر قطب نفسه تعرض لتطورات وتغيرات حكمت بها ظروفه النفسية والفكرية والوجدانية، قبل السجن وبعده؟ ضميمة الى ما نقل من شهادة عنه سابقاً؟
3 - لغة الكاتب وبناؤه المفاهيمي
مسألة أخرى تثار في الاعتذاريات عن قطب، وهي أدبيته، ولا بد أن نقرر ان المعاني تطلب من المفاهيم لا من الألفاظ، فمن طلب المعاني من الألفاظ ضل وتاه، وقوام الأدبية قائم على التشبيه والتخييل والتمثيل، ورقة العبارة، وسعة التعبير، وفي هذا غلبة للحس على اللفظ، وللعاطفة على الفكر، ومشكلة قطب أنه خاض بعباراته المرنة هذه في قضايا عقدية ولا بد، والمسائل العقدية يطلبها الناس من الألفاظ، والأحكام الشرعية تقوم في الحدود والعبارات، فلا يمكن تبرئة الأديب سيد قطب رحمه الله من مسؤولية عباراته.
* كاتب سوري مقيم في الدوحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.