لم أكن أبدا من المعجبين بالرئيس الأميركي جورج دبليو بوش واعتبرته منذ انتخابه عام 2000 في واحدة من أغرب الانتخابات الرئاسية في التاريخ الأميركي غير مؤهل أو جدير بقيادة الدولة الأقوى والأكثر تأثيرا في العالم المعاصر. بل وصل عدم اقتناعي بهذا الرجل حدا دفعني الى القول في إحدى مقالاتي في هذه الصفحة، إن ملامحه وتصرفاته توحي بأنه ربما يكون مصابا بنوع من التخلف الفطري، وتعجبت كيف يمكن لنظام سياسي ديموقراطي بهذه القوة أن يفرز رئيسا بتلك المواصفات. وتمنيت، عندما حل موعد الانتخابات الرئاسية التالية عام 2004، أن يعبر الشعب الأميركي عن ندمه لانتخاب بوش بالامتناع عن تجديد ثقته به لفترة ولاية ثانية بعد أن تبين بوضوح أنه يشكل خطرا على مصالح الولاياتالمتحدة ذاتها وليس فقط على السلم والأمن في العالم. لكن يبدو أن هذه القناعة لم تكن قد ترسخت بعد في أذهان غالبية الشعب الأميركي التي فضلت منح بوش وقتا إضافيا لاستكمال مهمته. ومن المعروف أن المحافظين الجدد كانوا قد نجحوا في زرع وتوظيف واستثمار الخوف من الإرهاب لتثبيت الاقتناع بأن الرئيس بوش هو الوحيد القادر على مواجهته وهزيمته في وقت لم تكن الساحة السياسية الأميركية قادرة على إفراز منافس آخر يتمتع بما يكفي من كاريزما لإقناعها بوجود بديل أفضل. غير أن هذه الغالبية ما لبثت أن أدركت، وبعد عامين فقط، استحالة تحقيق نصر عسكري في العراق وأن استمرار الرئيس بوش في نهج السياسات نفسها قد يفضي إلى كارثة كبرى تحل بالدولة العظمى التي تطمح لاستمرار هيمنتها المنفردة على النظام الدولي. لا جدال عندي في أن نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس تعكس ثلاث حقائق أساسية. الأولى: فقدان الثقة بالرئيس جورج دبليو بوش شخصيا، وهو أمر تؤكده نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت قبيل وعقب هذه الانتخابات مباشرة والتي تقول إن نسبة لا تتجاوز 31 في المئة من الشعب الأميركي ما تزال تبدي ثقتها فيه. الحقيقة الثانية: إقرار غالبية الشعب الأميركي بفشل السياسة المتبعة في العراق والتعبير عن رغبتها في عودة الجنود الأميركيين إلى ديارهم في اسرع وقت ممكن. الحقيقة الثالثة: الإدراك المتزايد لخطورة الطروحات الأيديولوجية للمحافظين الجدد والسياسات والبرامج المنبثقة عنها والدفع في اتجاه العودة إلى النزعة البراغماتية التي تتسم بها العقلية الأميركية التقليدية. وفي هذا السياق يبدو واضحا أن الشعب الأميركي، والذي كاد يتعافى من الأمراض والعقد التي سبق أن أصيب بها في المستنقع الفيتنامي، أصبح أكثر ميلا لمعاقبة بوش وتيار المحافظين الجدد باعتبارهم مسؤولين عن توريط الولاياتالمتحدة في مستنقع جديد. غير أنه سوف يكون من الخطأ البالغ الاعتقاد بأن الشعب الأميركي يريد معاقبة بوش والمحافظين الجدد لأسباب أخلاقية تتعلق بعدم شرعية أو عدالة الحرب الأميركية على العراق أو بسبب ما ارتكبوه من جرائم وتجاوزات بحق الشعب العراقي أثناء وعقب هذه الحرب، وإنما يريد معاقبتهم، في تقديري، لأسباب عملية تتعلق بعجزهم عن تحقيق أهدافهم الحقيقية أو المعلنة على السواء، وتحولهم بالتالي إلى خاسرين بعد أن تبين بما لا يدع مجالا للشك عدم قدرتهم على كسب الحرب عسكريا أو حتى سياسيا. ومن المسلم به أن الشعب الأميركي لا يحب الخاسرين ولا يتردد أبدا في التضحية بهم في أول منعطف، خاصة حين يتحولون إلى عبء عليه، وقد بدأ يشعر بأنهم قد يتسببون في خسائر أكبر وأفدح إذا طال بقاؤهم في السلطة أكثر من ذلك، خصوصا أن الخسائر الأميركية تبدو أكبر وأخطر بكثير مما يعتقد البعض. كانت دراسة أميركية قدرت أن إجمالي خسائر الولاياتالمتحدة في الحرب على العراق قد يصل إلى ألفي بليون دولار 2 تريليون دولار، لكن هذه التقديرات أثارت في حينها استنكارا شديدا واعتبرت مبالغا فيها بدرجة خيالية. غير أن دراسة حديثة، نشر ملخص لها منذ أيام وسينشر نصها الأصلي في كانون الاول ديسمبر القادم، قام بها جوزيف ستغليتز Stiglitz، الأستاذ بجامعة كولومبيا والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، وليندا بلمز Bilmes، الأستاذة في جامعة هارفارد، أكدت أن إجمالي الخسائر الأميركية في هذه الحرب وصل حتى الآن إلى 2267 بليون دولار. وتتضمن هذه التقديرات عددا من العناصر أهمها: أ- الخسائر الناجمة عن تكاليف العمليات العسكرية. ب- التعويضات المترتبة على مقتل ما يقرب من ثلاثة آلاف جندي أميركي وجرح أكثر من عشرين ألفا آخرين، وفقا للتقديرات الرسمية، متضمنا جملة المبالغ التي ستدفع لهؤلاء كأقساط تأمين أو كنفقات علاج. ج- الخسائر الاقتصادية الناجمة عن هذه الحرب بما في ذلك التكلفة الاقتصادية لارتفاع سعر النفط بسبب عدم استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط. وقد وردت في الدراسة المشار إليها ميزانية تحتوي على تقديرات مفصلة لمختلف البنود وطريقة حسابها. إن الإحساس بالمأزق المستحكم نتيجة استمرار نزيف الدم والمال في العراق، في وقت لا يلوح فيه أي مخرج أو ضوء في نهاية النفق، هو الذي دفع بالناخب الأميركي لانتهاز فرصة الانتخابات النصفية في الكونغرس لتغيير الغالبية الحاكمة والتصويت لمرشحي الحزب الديموقراطي المطالبين بانسحاب سريع من العراق. ومن الواضح أن الناخب الأميركي لم يأبه هذه المرة بسلاح التخويف الذي لجأ إليه الرئيس بوش مرة أخرى حين حذر أثناء الحملة الانتخابية من أن الانسحاب من العراق"سيمكن قوى التطرف في الشرق الأوسط من الضغط لتغيير السياسة الأميركية المؤيدة لإسرائيل والدفع في اتجاه رفع سعر النفط الذي قد يصل إلى 300 أو 400 دولار للبرميل الواحد". ومن المتوقع أن يمارس الكونغرس الأميركي ضغطا هائلا على الإدارة في المرحلة القادمة لوضع جدول زمني للانسحاب من العراق، لكن السؤال: هل يمكن أن يصل ضغط الكونغرس إلى الحد الذي يساعد على إفراز آليات تدفع في اتجاه إعادة صياغة مجمل مفردات السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك الصراع العربي الإسرائيلي، أم أن الأمر سيقتصر على العراق فقط؟ للإجابة على هذا السؤال يتعين علينا أن نبحث في طبيعة البدائل الحقيقية المتاحة أمام الإدارة الأميركية للخروج من الوحل العراقي، من ناحية، ومدى استعداد إدارة بوش للتعاون مع الكونغرس لصياغة سياسة خارجية مشتركة تعبر عن الحزبين الكبيرين معا، خصوصا بعد إقالة أو استقالة رامسفيلد. فإذا كان الحزب الديموقراطي بدأ يدرك ويقتنع كل الاقتناع بأنه لا يوجد حل عسكري للازمة العراقية، وهو ما يعني عدم وجود خيار آخر سوى الانسحاب من العراق، إلا أنه يدرك في الوقت نفسه عدم وجود حل سياسي سهل أيضا وأن هذا الحل، إن وجد، لن يتوقف على إرادة الولاياتالمتحدة وحدها أو حتى بالتعاون مع حلفائها، وإنما قد تكون هناك ضرورة للحوار مع أعدائها. وفي هذه الحالة فسوف يتعين على صانعي السياسة الخارجية الأميركية، بصرف النظر عما إذا كانت هذه الصناعة منفردة أو مشتركة بين الحزبين الكبيرين، الاختيار بين بديلين. الأول: التفاوض المباشر مع هؤلاء"الأعداء"، أي مع فصائل المقاومة العراقية وبعض القوى الإقليمية ذات التأثير على الداخل العراقي مثل إيران وسورية. والثاني: الانسحاب أحادي الجانب من دون أي ترتيبات مسبقة مع أي طرف، باستثناء الأطراف الراغبة والقادرة على تسهيل الانسحاب الأميركي بأقل الخسائر الممكنة والذي قد يكون جزئيا، بإعادة الانتشار داخل قواعد عسكرية محددة ومتفق عليها وفق جدول زمني معقول نسبيا، وقد يكون كاملا وخلال فترة زمنية قصيرة. ولا يمكن أن يجادل أحد في أن الإدارة الأميركية الحالية تفضل حلا يضمن لها الانسحاب مع الاحتفاظ بقواعد عسكرية دائمة في العراق وأنها ستكون مستعدة ومرحبة بالتعاون مع الكونغرس لإيجاد حل من هذا النوع، غير أنها تدرك في الوقت نفسه أن حلا كهذا لن يكون سهلا لأنها لو كانت قادرة على التوصل إليه من قبل لما ترددت في قبوله أصلا، فضلا عن أن دخول الحزب الديموقراطي على الخط لن يسهل بالضرورة إمكانية توفير حلول من هذا النوع. وفي سياق كهذا لن يكون هناك سبيل آخر، عمليا، سوى التفاوض مع المقاومة والقوى الإقليمية المعادية، وهو ما يتطلب ثمنا يتعين دفعه، أو الانسحاب السريع الاحادي الجانب، وهو ما قد ينطوي على مخاطر كارثية بالنسبة للمنطقة كلها، خصوصا إذا أفضى هذا الانسحاب إلى حرب طائفية قد تنجر اليها دول وقوى إقليمية مجاورة. من الواضح أن الثمن الذي ستطلبه إيران وسورية للتعاون مع الولاياتالمتحدة لإيجاد حل يضمن لها انسحابا يحفظ ماء الوجه سيكون باهظا. فإيران لن ترضى بأقل من السماح لها بالمضي قدما في برنامجها النووي السلمي والاكتفاء بضمانات للحيلولة دون تحوله إلى برنامج عسكري يتيح لها القدرة على امتلاك السلاح النووي. أما بالنسبة لسورية فلن ترضى بأقل من استعادة هضبة الجولان وانسحاب إسرائيل إلى المواقع التي كانت عليها يوم 4 يونيو 67. وليس من المتوقع أن تقبل إسرائيل أو الإدارة الأميركية دفع مثل هذا الثمن، كما أنه ليس من المتوقع أيضا أن يضغط الكونغرس في هذا الاتجاه لأن موقف الحزب الديموقراطي من البرنامج النووي الإيراني ومن النظام السوري لا يقل، وربما يكون أكثر، تشددا من موقف الحزب الجمهوري والإدارة الحالية. وليس سرا أن نانسي بيلوسي زعيمة الأغلبية الديموقراطية في مجلس النواب تعد من أكثر أعضاء الكونغرس تعصبا وتأييدا لإسرائيل. ففي خطاب ألقته مؤخرا امام منظمة"إيباك"المتهمة بممارسة أعمال تجسس فاضحة لحساب إسرائيل، بدت بيلوسي غير عابئة بمعاناة الشعب الفلسطيني أو بالمشاعر العربية إلى درجة مثيرة للاشمئزاز حين قالت"ان الصراع بين العرب والإسرائيليين لم يكن في يوم من الأيام حول أرض محتلة وإنما كان على الدوام حول حق إسرائيل في الوجود". وليس لمثل هذا الادعاء سوى معنى واحد وهو أن حل الصراع العربي الإسرائيلي وفقا لهذه الزعيمة، التي من المتوقع أن تلعب دورا محوريا في صياغة السياسة الأميركية في المرحلة القادمة، لا يتطلب انسحاب إسرائيل من أي أرض تحتلها بقدر ما يتطلب اعتراف الدول العربية بإسرائيل في الأراضي التي توجد فيها الآن! وأيا كان الأمر فالعالم كله، وليس منطقة الشرق الأوسط وحدها، بحاجة إلى تغيير جذري في السياسة الخارجية الأميركية. فقد انسحبت الولاياتالمتحدة في عهد بوش من بروتوكول معاهدة كيوتو ضاربة عرض الحائط بالأخطار التي يمثلها ارتفاع حرارة الجو التي تتسبب فيها الولاياتالمتحدة أساسا على الأنسان والبيئة، ورفضت التصديق على معاهدة خاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية كانت إدارة كلينتون قد وقعت عليها بالأحرف الأولى في آخر لحظة واضعة بذلك عراقيل جديدة أمام إمكانية تطوير القانون الجنائي الدولي وتمكينه من ملاحقة مجرمي الحرب، بل أصرت على أن الحرب الإجهاضية هي نوع من الدفاع الشرعي عن النفس ضاربة بذلك عرض الحائط بجهود دولية استمرت قرونا للحد من استخدام القوة في العلاقات الدولية. ربما تكون انتخابات التجديد النصفي قد ذكرت المحافظين الجدد بأن زمانهم بدأ في الأفول وأن"السكرة"التي جعلتهم يتصورون أن بإمكانهم إقامة عالم من تصميمهم تهيمن عليه الولاياتالمتحدة قد ذهبت، لكن"الفكرة"القادرة على تصميم عالم آخر أكثر عدلا وأمانا لم تنضج بعد، لكن حان أوان صناعتها. فهل يدرك العالم العربي هذه الحقيقة؟ وهل هو قادر على المشاركة في صنعها؟ * كاتب مصري