تشهد الخريطة السياسية لآسيا الوسطى منذ انفراط عقد الاتحاد السوفياتي, خلط أوراق وزحفاً لنفوذ جديد، خصوصاً بعد الحرب في أفغانستان, وما تبعها من نتائج, لجهة تغيير المعادلات السابقة, وظهور تحالفات جديدة, وبروز معطيات على الأرض, تؤكد الأهميه الاستراتيجية لهذه المنطقة. وبعد ثورة اوكرانيا البرتقالية, وثورة جورجيا المخمليه, اللتين حركتا شعور العالم كاشفتين عن خفايا لعبة لم تعد تسمى حرباً باردة, إذ باتت في ملعب روسيا وبين أطراف ربما يغيب عنهم التكافؤ، ها هو المشهد يتكرر، ولو بزخم اقل في قلب آسيا الوسطى, وتحديداً في قيرغيزستان, الدولة الأصغر في المنطقة, والأكثر فقراً, والتي تعيش حال توتر عرقي بين شمالها وجنوبها. وهي تحتل موقعاً في غاية الأهمية, وتتشابه مع أفغانستان الى حد كبيرعرقياً وجغرافياً واقتصادياً وانضمت أخيراً الى جارتها اوزبكستان في الترهيب من الخطر الإسلامي, لاسيما بعد الثورتين الناجحتين في جورجيا وأوكرانيا, إذ سبق للرئيس القيرغيزي المخلوع اسكار اكاييف أن أشار الى ان مصادر تمويل الثورات مجهولة, مثلما هي مصادر تمويل الارهاب مجهولة ايضاً. سيناريو الثورات الملونة دخل آسيا الوسطى عبر بوابة قيرغيزستان, التي تعتبر السلطة فيها الأكثر هشاشة بين حكومات اسيا الوسطى, من خلال ثورة سميت بنفسجية أطاحت حكم اسكار اكاييف عام 2005. هو الذي كان وصل إلى الحكم عام 1990 كديموقراطي ينتقد السلطة ويتعهد مكافحة الفساد ويَعد بالكثير من الاصلاحات. واعتبرت البلاد في بداية حكمه واجهة للديموقراطية في عموم اسيا الوسطى. ثم تغير الوضع, بعدما أبعد اكاييف الكثير من أنصاره وقرّب أصدقاءه, وخيّل إليه أنه وطد سلطته. ولكن تبين في أول امتحان عام 2002 أن مواقع هذه السلطة ليست وطيدة في أحداث عنف ذهب ضحيتها العشرات نتيجه لاتفاق حدودي مع الصين. وبعد ثلاثة أعوام فر اكاييف من بلاده, في اول سيناريو للثورات الملونه في المنطقة, ودار الحديث وقتها عن دور مالي للمليارديير الأميركي جورج سورس في دعم نشاط المعارضة, وسبق ان كان لهذا الرجل ومؤسسته دور في ثورة جورجيا المخملية, وهو لم يخف رغبته في تكرار ذلك السيناريو في آسيا الوسطى, وكان أنفق مبلغ عشرين مليون دولار خلال ذلك العام من اجل"الإصلاح في آسيا الوسطى". وبعد مرور اقل من عامين على تلك الثورة لم يستخلص حكام قيرغيزستان الجدد العبر من أخطاء سابقيهم. فلم يغيروا شيئا باستثناء إعادة توزيع الثروات التي سيطر عليها افراد عائلة الرئيس القيرغيزي السابق. ولهذا فإنهم لا يستطيعون اليوم عندما يواجهون أزمة خطيرة الرد على المعارضين بما يناسب حجم الأزمة. المعارضة القيرغيزية نفذت ما توعدت به من تنظيم مظاهرات كبيرة في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني نوفمبر الجاري احتجاجاً على سياسة الرئيس القيرغيزي الجديد كورمان بيك باكييف الذي جاء بدوره بالانقلاب على الرئيس المخلوع اسكار أكاييف. وتحاول المعارضة حل القضايا الملحة على غرار ثورة مارس آذار عام 2005پ البنفسجية أي بواسطة الاحتجاجات الجماهيرية. وتقول طوائف في المعارضة القيرغيزية ان على رغم مرور أكثر من سنة ونصف السنة على الانقلاب القيرغيزي ووصول باكييف إلى الرئاسة لم يحصل أي تقدم في الإصلاحات والديموقراطية التي كان الشعب القيرغيزي ينتظرها بفارغ الصبر، بل على العكس من ذلك بدأ باكييف محاولاته الجادة لتثبيت سلطته بتعيين أقاربه ومواليه في المناصب المهمة وتصفية المعارضين السياسيين له قدر الإمكان .وتشير الى فشله في تحقيق تقدم ملحوظ في الإصلاحات والديموقراطية. وقد اتهم الرئيس القيرغيزي بدوره المعارضين بالتحضير لانقلاب في هذه الجمهورية. وتواجه قيرغيزستان صعوبة في تحقيق الاستقرار منذ"ثورة"آذار 2005 التي طردت اكاييف وحملت باكييف الى السلطة.پومنذ ذلك الوقت، تتكثف الأزمات والتظاهرات والاتهامات بالفساد ضد عائلة الرئيس الجديد. وقد يعكس ذلك ما ذهب اليه احد نواب مجلس الدوما الروسي بقوله:"بوسع الأحداث الحالية في قيرغيزيا في حالتها القصوى أن تتمخض عن انهيار الدولة القيرغيزية". وأضاف ان"إطاحة الرئيس أكاييف كانت حركة احتجاج قسم من البلد ضد قسم آخر في الدولة. وان قرغيزستان كما هو معروف مقسمة قبلياً وثقافياً واقتصادياً بخط يقسمها إلى شمال وجنوب. ولهذا قد ينقسم البلد بهذه الصورة إلى جزءين إذا لم يجد سياسيو المعسكرين القوة للتوصل إلى حل وسط". وإضافة الى العوامل الداخليه التي تعصف بقيرغيزستان, يأتي العامل الخارجي ليزيد الطين بله, فتصفية الحسابات في دوله صغيره مثل قيرغيزستان للولايات المتحده صلة مباشرة, ومن هذا المنطلق لا بد من استمرار الوجود الأميركي في القاعدة العسكريه قرب العاصمة بيشكيك في مطار ماناس, والتي لعبت دوراً اساسياً في الحرب على"طالبان"وپ"القاعدة"في أفغانستان. وثمة جهود أميركية حثيثة لاستقطاب هذه الدولة الى الفلك الأميركي, خصوصاً ان قيرغيزستان تعتبر من حلفاء موسكو وعضو في رابطة الجمهوريات المستقله, كما انها تدخل في كل تحالفات موسكو الاستراتيجية, وهي تستضيف قاعدة جوية روسية على أراضيها تبعد مسافة قصيرة عن القاعدة الأميركية. والاهتمام الأميركي والروسي بهذا البلد له مبرراته, فمع وصول باكييف الى السلطه بدأ يطالب بتغيير شروط اقامه القاعدة الأميركية في بلاده, وفرض شروط إضافية على الجانب الأميركي. اما القاعدة الروسية التي تبعد 15 كيلومتراً عن نظيرتها الأميركية فقد انشئت قبل عام ونصف العام في إطار اتفاق الأمن الجماعي ومن اجل الاستقرار في آسيا الوسطى, كما ان موسكو على مايبدو لم تعد تنظر بعين الرضا الى بيشكيك بعد ثورتها البنفسجية, وذلك لجهة عدم ولائها المطلق. وأفلحت السلطة هذه المرة في إخماد التوتر الذي تصاعد بسبب رفض الحوار مع المعارضة في شأن الإصلاحات الدستورية وها هو باكييف يرضخ اليوم لمطالب المعارضة ومؤيديها الذين تظاهروا طوال سبعة ايام, ويوافق على تعديل الدستور وتحويل قيرغيزستان بذلك الى دوله برلمانية, منهياً بذلك ولو موقتاً، خطراً تربص ببلاده طوال الأيام الماضية. في ظل كل ذلك يسير باكييف في حقل الغام وهو في وضع لا يحسد عليه, من جهة ينبغي عليه تجنب ضغط المعارضة المتزايد وغضب الجماهير نتيجة تفرده بالسلطة, والأوضاع الاقتصادية المتردية, ومن جهة اخرى, تجنب أثمان الولاء لمصالح روسيا ومصالح أميركا, فهل ينجح في تخطي هذه العوائق بأقل مقدار من الأضرار؟