عرف الفكر الغربي مدرستين في السياسة الخارجية، المدرسة الايديولوجية التي تصنّف الدول الى دول عدوانية ودول محبة للسلام، او الى دول ديموقراطية وأخرى استبدادية... والمدرسة الواقعية التي انطلقت من منهج تحليلي لمحددات السياسة الخارجية من خلال الموقع الجغرافي والمصالح الوطنية واحتياجات الأمن والقدرات الاقتصادية... وكثيراً ما صُنّفت دول العالم الحر بأنها تنتمي الى المدرسة الواقعية، في مقابل دول المجموعة الاشتراكية في مرحلة الحرب الباردة - بأنها تنضوي في كنف المدرسة الايديولوجية او المثالية. وبصرف النظر عن مدى دقة هذا التصنيف، وتغاضيه عن إمكان الانتقال من الايديولوجيا الى الواقعية او العكس، فإن السياسة الخارجية الأميركية في عهد ادارة جورج بوش حاولت ان تدمج بين المدرستين مع رجحان كفة المحافظين الجدد الذين صنّفوا العالم بين أخيار وأشرار، ودول مكافحة للارهاب في مقابل"دول محور الشر"، ودول ديموقراطية في مقابل دول استبدادية. وما نداءات الرئيس الأميركي الى شعبه والعالم بضرورة الالتحاق بمعسكر مكافحة الارهاب، تحت شعار:"إما ان تقفوا معنا او تقفوا ضدنا"، سوى احد دلائل هذا التوجه الايديولوجي المستند في احد مصادره الى الدين. إن هذا الميل الى الايديولوجيا الدينية التبشيرية هو الذي زاد من امتعاض شعوب، وجماعات قومية مختلفة، بحيث صار السؤال عن كره السياسة الأميركية مبرراً، ومطروحاً داخل الولايات وخارجها. ولعل التحالف الأميركي - الاسرائيلي الذي تعاظم في عهد الادارة الحالية هو المظهر الأبرز لاندفاعة المدرسة الايديولوجية، بالتزامن مع صعود الاحزاب الدينية في اسرائيل، ومع الإصرار على أطروحة صراع الأديان والثقافات والحضارات. كيف نفسر مثلاً هذا الفيتو الاميركي داخل مجلس الأمن في مواجهة أي قرار يدين جرائم اسرائيل المتمادية، من جنين الى بيت حانون؟ سابقاً، كانت تُدان اسرائيل على عدوانها، بل كان مجلس الأمن يبطل قرارات اسرائيلية خاصة بتهويد الجولان والقدس. اما اليوم، فإن الدعم الاميركي لاسرائيل بات واجباً دينياً في نظر زمرة المحافظين الجدد. بالطبع ان هذا الاعتبار لم يقف وراء إخفاق الحزب الجمهوري في انتخابات الكونغرس النصفية. إن الذي وقف وراء هذا الاخفاق هو حرب العراق، بما حملته من ذكريات فيتنامية تؤرق الأميركيين. والنتيجة هي ان السياسة الخارجية الاميركية هذه المرة وقفت خلف دوافع التصويت، على أهمية العوامل الداخلية وأبرزها موضوعات الضرائب والضمانات الاجتماعية والبطالة... ثمة أزمة تعانيها الادارة الاميركية الحالية، داخلياً وخارجياً، بعد تصاعد الحديث عن ظاهرة الفساد. فساد أخلاقي، وفساد مالي، وفساد اداري، وفساد مع محاولات تزوير الوقائع... فساد يطاول الكونغرس من داخله، وأطراف الادارة وصنّاع القرار، بحيث يمكن القول ان زمرة المحافظين الجدد لطّخت سمعة أميركا، وأثارت موجة كراهية غير مسبوقة ضد الأميركيين. نعود الى العنوان الأبرز الذي يفسّر ازمة السياسة الخارجية الاميركية، الحرب على العراق. فلا أسلحة الدمار الشامل وُجدت في ارض العراق، ولا علاقة أكيدة بين تنظيم القاعدة ونظام صدام حسين البائد، على رغم تخلفه وسطوته. ولا ديموقراطية موعودة تتحقق امام هول المذابح الطائفية، والعرقية، بل محاصصة طائفية ممجوجة، لا تؤسس لاستقرار وازدهار. وفوق ذلك، يتلطّخ سجل الولاياتالمتحدة بانتهاكات غوانتانامو وأبو غريب، ويغدو شعار حقوق الانسان مجرد مدخل الى الاحتلال والسيطرة على آبار النفط. ليس كلاماً عابراً عندما يفصح أمين عام الأممالمتحدة كوفي أنان عن الازمة العراقية بتعقيداتها المختلفة. لا الخروج من العراق مقبول اميركياً، ولا البقاء في العراق ممكن مع تصاعد المقاومة العراقية في الوقت الذي تبدد ثروات العراق وموارده. وهكذا تعود الادارة الأميركية من جديد الى براغماتيتها المعروفة، كأن تلتمس تسوية ما بانسحاب تدريجي مع رفع الصوت على الدول الحليفة، أطلسية وعربية وإسلامية، كي تشارك في قوة لحفظ السلام داخل العراق. ولا بأس بالاستناد الى توصية لجنة بيكر - هاميلتون في هذا الصدد، بينما يصرّ الديموقراطيون الذين سيطروا على الكونغرس بمجلسيه على الانسحاب، والتخلص من الورطة العراقية. وحتى تكتمل البراغماتية الأميركية في فصولها، لا بد من فتح حوار مع طهران ودمشق حيث يمكن محاصرة الأزمة العراقية، واحتواء قضية فلسطين من دون التوصل الى تسوية عادلة، ومعالجة الملف اللبناني بمسكّنات مرحلية بانتظار الاستقرار الاقليمي. أليست هذه هي السياسة الاميركية المعتمدة منذ وقت طويل في الشرق الأوسط؟ لم يعد المحافظون الجدد قادرين على اقناع الرأي العام الاميركي بشنّ حروب جديدة، تحت مسميات مكافحة الارهاب، أو منع انتشار أسلحة الدمار الشامل. أما الرأي العام العالمي، فإنه شكّك في جدوى مكافحة الارهاب بالسلاح الحربي على طريقة قصف جبال تورا بورا، ومطاردة أسامة بن لادن بالطائرات الحربية. وبذلك أخفقت المدرسة الايديولوجية من جديد - بعد إخفاقات المدارس الفاشية والنازية والماركسية في الدفاع عن سياساتها. هذا اضافة الى انتكاسات البراغماتيين المتذرعين بالواقعية. جوهر الإخفاق يكمن في مجافاة البعد الانساني سواء كان التوجه ايديولوجياً أو واقعياً. * كاتب لبناني