كان يوماً من أيام مهرجان الاسماعيلية الاعتيادية في دورته قبل الماضية، والحضور غالباً يكون قليلاً في الحفلات الصباحية، وجاء العرض لفيلم تسجيلي طويل - مملاً نوعاً ما - جعل الحضور يتثاءبون، وفجأة بدأ عرض عدد من الأفلام القصيرة قدمها مخرجون ينتمون الى دول مختلفة ومن إنتاج"يونيسكو"، وتتحدث عن فكرة"السلام والتعايش وحوار الثقافات". الأفلام في مجملها جاءت عادية، لم تحمل شيئاً جديداً، في ما عدا الفيلم الأخير في المجموعة، وهو فيلم صوّر في القدس، ويتحدث عن العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من خلال طفل صغير. الفيلم قدم تفاصيل شديدة الإنسانية وفي النهاية انتصر للحياة وليس للحرب، وجاء شديد التميز على مستوى الصورة والفكرة. بحيث ان الجميع صفقوا بحرارة. إلا أن الموقف تبدل تماماً مع الدقيقة الأخيرة في الفيلم فور ظهور الأسماء اذ تبين انها مطبوعة باللغة العبرية. هنا تراخت الأكف وشهق البعض،"فالحدث جلل بحق"- بحسب تعبيرهم -: مهرجان الاسماعيلية التابع لوزارة الثقافة المصرية يعرض فيلماً إسرائيلياً، وحلت حالة هرج ومرج في المهرجان، وجاء رئيس المهرجان علي أبو شادي مسرعاً إلى مكان العرض وكتب اعتذاراً رسمياً نشر في الجرائد والمجلات، مؤكداً أن عرض الفيلم جاء"بطريق الخطأ". إلا أن البعض وصل إلى حد وصف الأمر بالمؤامرة، قائلين إن وزارة الثقافة المصرية"تجس النبض"فإن مر العرض بسلام تنتهي المشكلة ويحل... التطبيع! الكادر المصري كان من الطبيعي استدعاء هذا المشهد وعذراً للإطالة، خصوصاً بعد الهجوم الذي شنته الصحافة المصرية أخيراً على مهرجان"حوار الثقافات"الذي نظمته مؤسسة"كادر"للانتاج السمعي والبصري وترأسه الناقد السينمائي سمير فريد. اذ وصل الأمر إلى اتهام المهرجان والمؤسسة بأنهما عملاء لتنظيم يعمل"من أجل هدم ثقافتنا المصرية"وپ"حضاراتنا". وليس ذلك فقط، بل جمح البعض بخياله إلى السؤال:"لماذا اختير اسم كادر لتوقع المؤسسة باسمه؟"، حيث رأى البعض ان الكلمة ترمز لمصطلح"كادر أمني"، أو"كادر في الجستابو"وپ"FBI"في حين أن كلمة"كادر"التي تعني الإطار الذي يحكم الصورة هي لفظة سينمائية عادية جداً ومستخدمة. والأكثر إثارة للدهشة أن البعض كتب في عناوين رئيسية يطالب سمير فريد بالكشف عن مصادر تمويل المؤسسة وأعضائها الحقيقيين، وسألوا عن أي ثقافة سلام تتحدثون؟ خصوصاً بعد أن قال فريد:"إن حوار الثقافات يعد من أهم القضايا على مدى التاريخ، وأن الإنسانية في حاجة إلى الحوار بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر أكثر من أي وقت مضى إذ جسدت الهجمات تلك الحاجة على نحو غير مسبوق، وأشعلت أول حرب عالمية في التاريخ بالمعنى الحرفي لكلمة عالمية خصوصاً أن الحرب التي بدأت في 11 أيلول ميدانها العالم كله، وليس فقط التأثير عليه"، وعلق واحد قائلاً:"عندما أسمع كلمة"السلام"عليّ أن أتحسس مسدساً"- في استعارة غير موفقة من الوزير الهتلري الشهير. ووصلت المغالاة إلى حد إعلان البعض أن هناك مؤسسة غامضة تجاهر بالتطبيع، دليلهم على هذا هنا هو اختيار إدارة المهرجان فيلم"11 أيلول"لعرضه فيلماً للافتتاح، وهو الفيلم الذي قامت بإخراجه مجموعة من مخرجي العالم ينتمون إلى ثقافات مختلفة ومنهم المصري يوشف شاهين والإيرانية سميرة مخملباف والإسرائيلي عاموس غيتاي، المعروف بتعاطفه ونصرته للقضية الفلسطينية. إلا أن وزير الثقافة المصري أخذ على عاتقه معالجة المسألة، وعرض على إدارة المهرجان أن يُعرض الفيلم من دون الجزء الذي يخص"غيتاي"فرفضت إدارة المهرجان وفضلت عدم عرض الفيلم بالمرة واستبداله بفيلم آخر هو"الطريق إلى غوانتانامو". وهنا هلل بعض الصحف لوزير الثقافة المصرية، باعتباره"فارساً مغواراً"، أخذ على عاتقه إنقاذ ماء وجه الثقافة المصرية، في حين أن مكتبة الاسكندرية التي تتبع مباشرة السيدة سوزان مبارك جاهر مسؤولوها بعرض الفيلم! عودة الى الوراء إن ما حدث من تبعات بمجرد الإعلان عن"مهرجان حوار الثقافات"يعيدنا بالزمن إلى الوراء ويؤكد أن هناك خلطاً مرعباً في الأمور، فعن أي تطبيع يتحدثون؟ وعن أي مؤامرات؟ المسألة أبسط من ذلك بكثير، خصوصاً أن الناقد سمير فريد ومن معه من مسؤولي المهرجان والمؤسسة كانوا شديدي الوضوح في كل ما يتعلق بإقامة مؤسسة مهتمة بالشأن السينمائي، والبصري، الى درجة أنهم نشروا كل المعلومات المتعلقة بذلك في الكتيب الصغير الذي أصدره المهرجان. والأدهى أن كل الردود التي أرسلها فريد ومن معه الى الصحف والمجلات التي سألته عن التمويل وأعضاء المؤسسة تم تجاهل نشرها، وكأننا أصبحنا مدمنين لفكرة المؤامرة، والضرب تحت الحزام. والمفارقة أن هذه المؤسسة تضم في عضويتها عدداً من أبرز نقاد السينما المصرية ومخرجيها وأهلها ومنهم كمال رمزي، منير راضي، عصام المغربي، علي مراد، ومجلس الأمناء يضم سمير فريد، ومجموعة من المخرجين الشباب: محمد الاسيوطي، أحمد حسونة، تامر السعيد، عمرو بيومي، ابراهيم البطوط، أمل الجمل ومنى غويبة. واضح ان هدفهم اقامة نشاط سينمائي مستقل يعود بالنفع على السينما المصرية التي باتت تعاني أمراضاً مزمنة، وتبرع كل منهم بمبلغ 1000 جنيه مصري، واستأجروا مقرًا وبدأوا مزاولة أنشطتهم. أما في ما يتعلق بالمهرجان والأفلام التي عرضت وهي في معظمها أفلام أوروبية وآسيوية فإن معظمها عرضت على DVD وأتى من مكتبة الناقد سمير فريد الخاصة، أي أن المسألة هي مجرد تظاهرة فنية تنادي بالسلام وترغب في الحوار مع الآخر، وهذا أبسط حقوقهم، خصوصاً أننا لم نعد نعرف لماذا يتم تفسير كلمة الآخر بأنه الإسرائيليون، فالآخر قد يكون الغرب وقد يكون آسيا أو ايران أو تركيا، الآخر هو كل من يرانا وكيف يرانا وكيف نراه؟ فلماذا النظرة القاصرة الى الأمور، ان"كادر السينمائية"مؤسسة لا تزال تحبو وتتحسس خطاها، حتى الكتيب الصغير الذي طبع وتضمن معلومات عن المهرجان لم يستطع انجازه الا بعد الحصول على إعلانين من شركة"أفلام مصر العالمية"- يوسف شاهين - وپ"استوديو مصر"كريم جمال الدين - وأعتقد بأنهما شركتان معروف تماماً مَنْ وراءهما، إلا إذا كان هناك من يرى غير ذلك! وفي سياق ما تعرض له المهرجان في دورته الأولى والهجوم على فريد علق الناقد المعروف قائلاً: لا بد من أن أؤكد أن مؤسسة"كادر"هي من مؤسسات المجتمع المدني التي أسستها مجموعة من صُناع السينما الشباب ونقادها، مع عدد محدود من المخضرمين الذين تحتاج المؤسسة إلى خبراتهم، وقامت المؤسسة على ضوء توجه وزير الثقافة المصري فاروق حسني نحو رعاية المبدعين الشباب في كل المجالات، وتوجه الحكومة المصرية نحو تشجيع مؤسسات المجتمع المدني عموماً". لذلك من المؤسف اعتبار اختيار المؤسسة للفيلم الفرنسي"11 أيلول" انتاج 2002 والذي يتكون من 11 فيلماً قصيراً ل 11 مخرجاً من 11 ثقافة يعبرون فيها عن رؤيتهم للحدث، نوعاً من التطبيع، لأن أحد المخرجين إسرائيلي، فضلاً عن أنه"عاموس غيتاي"الذي يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني وتمنع الرقابة في إسرائيل بعض أفلامه لهذا السبب. إننا نفهم أن التطبيع الثقافي مع إسرائيل هو زيارة إسرائيل أو دعوة شخصيات من إسرائيل، أو توزيع فيلم إسرائيلي معادٍ في مصر، أو إنتاج فيلم مشترك مع إسرائيل، أو نشر كتاب لها أو تلقي دعم من مؤسساتها، والأهم من ذلك، تأييد سياستها التي تحول دون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه، أما اتهامنا بالتطبيع، للتفكير في عرض فيلم ضمن أجزائه جزء يحمل توقيع مخرج إسرائيلي فلا نراه نوعاً من التطبيع، بأي حال من الأحوال، خصوصاً أن من بين هؤلاء مخرجنا الكبير يوسف شاهين، والأميركي شون بن، والياباني أيما مورا، وغيرهم من مخرجي العالم الذي يدافعون جميعاً عن حقوق كل شعوب العالم". تجدر الإشارة هنا إلى أن مهرجانات سينمائية عربية عدة عرضت أفلاماً من إسرائيل مثل مهرجان دبي، ومراكش، وقرطاج، ومعهد العالم العربي، ومهرجان السينما العربية في روتردام. ولكن من الواضح أنه سيظل هناك دائماً من يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة"سلام أو حوار"، مع الاعتذار لوزير الدعاية الألماني في عهد النازية غوبلز. وفي النهاية لا أعرف لماذا لا نأخذ من مهرجان بيروت لأفلام الشرق الأوسط شعاره الباهر لنصنع الأفلام بدلاً من الحرب؟!