الشعب الفلسطيني ما زال مدعواً الى انتفاضة جديدة. هذه المرة ليست ضد الإسرائيلي المحتل الذي سفك دمه، ولم ينجح في إخضاعه، بل ضد فلسطيني آخر، أعمته نوبات الانفعال والتحدي والتعصب للذات، الى مرتبة لم يعد يميّز فيها بين الأبيض والأسود... بين الغاصب والشقيق، بين دم الفلسطيني ودم الإسرائيلي! تخطف حكومة دولة العدو وزراء ونواباً، للفلسطيني ايضاً حصة، وها هو يخطف من مسؤوليه. ويتعدى الجنون ان يهدد أحد فصائل المقاومة، بتصفية قادة في المقاومة، لإعادتهم الى طريق"الصواب"! قمة اليأس والعبث والانتحار، بل ذروة انحراف وعي تكاد ان تعلن كفراً بقضية كانت أم قضايا العرب، منذ جيّشوا أولى مقاوماتهم وجيوشهم لإنقاذ شعب من عصابات إسرائيل. كل حلم وطموح قومي أو وطني، من المحيط الى الخليج، كان"يتطهر"بفلسطين، فانتصرت ضميراً لجميع العرب، حتى حين كانوا يقتتلون، ثم يخجلون، لأن أمهم فلسطين تحزن وتنحني... ثكلى بجيل، لا تبكي الشهداء، تربّي كل الأحرار. ضاعت مفردات أجيال، تضحياتهم، دماؤهم. اسماعيل هنية رئيس وزراء"حماس"المتأبط نصراً بالانتخابات، يخشى على"الشرعية"، ولن يسمح بحرب أهلية. لكأنه يقول إن شوارع غزة التي باتت شاهداً على"ملحمة"الاخوة الأعداء، إنما تضيق بتلك الحرب، لمجرد رغبة"حماس"في ما تريد. أيُ تسمية إذاً لقتل أخوّة الدم باسم المواجهة بين"الانقلاب"و"الشرعية"... التائهة بين السلطة والحكومة؟ دم الفلسطيني بات رخيصاً،"حماس"نقية و"فتح"نقية، وما بينهما شيطان الفتنة وحده يُلام. هذا ما يريدون لسجناء حرب تصفية القضية، ان يصدقوه، ان يأملوا بنهار بعد ليل الكارثة، اذا اقتصت ذراع"فتح"من خالد مشعل وسعيد صيام ويوسف الزهار، أو اقتلعت"حماس"الذين تراهم متآمرين مع"أبو مازن"، لمصلحة العدو الإسرائيلي. أي عدو؟ كم عدواً...؟ ضاعت دماء الشهداء، توارت فلسطين خجلاً في زواريب غزة والضفة، ومعها كل الفقراء الذين لا يعترفون بنسبٍ مع أهل السلطة والحكومة، وباتوا عاجزين عن سماع أصواتهم: رصاصهم في الشارع، وقنابل إسرائيل فوق البيوت، أولمرت يصفق، وبوش ما زال يصدق ان بين الفلسطينيين ممن ظنوا انهم سيصنعون حريتهم بانتخاب"حماس"... مَن يصدق وعد الدولة، وأن يد الرئيس الأميركي ليست ملطخة بدماء الفتنة. وبين فخ الانتخابات الذي استدرج"حركة المقاومة الإسلامية"من المقاومة الى الحكم، وخنق الحكومة بإفلاسها، يسقط الفلسطيني ضحية الجوع، أو تُكتب له الشهادة، برصاص فلسطيني. لا يعنيه بالتأكيد إن كان هذا الرصاص نار"التطرف"أم طلقات الشرعية الأولى التي تحتمي ب"عقلانية"الاعتراف بإسرائيل، ممراً إلزامياً على طريق الدولة، وكسب الثقة الدولية... بالتالي رفع الحصار المالي عن مناطق السلطة. ومرة أخرى يجدر التساؤل ما اذا لم يكن أجدى ل"حماس"التحصن في مواقع المعارضة بدلاً من السقوط أمام إغراء لعبة السلطة. هو تساؤل متأخر، فالثمن دُفع والمكاسب لإسرائيل، وحوار السلطة والحكومة عاد الى ما تحت الصفر. أسبوعان هما الفرصة الأخيرة ل"أبو مازن"للخروج من مأزق الحصار والشلل والتعايش المستحيل مع حكومة"حماس"، ليس خشية من شبح الحرب الأهلية، وتمدد النموذج العراقي فحسب، بل كذلك لأن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس جاءت الى المنطقة لإبلاغ دولها ان إدارة الرئيس جورج بوش تعد لفصل جديد في"ديبلوماسية"مواجهة"المتطرفين"، مسرحه الأول فلسطين. صحوة أميركية حقناً للدماء الفلسطينية؟ بالأحرى مسعى من بوش لإقناع دول المنطقة بأنه استمع الى نصائحها أخيراً، لتجفيف أكبر منبع للتطرف، عبر رؤية الدولة المستقلة وتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وما بين اعتداء من العدو وآخر"وطني"على ضحاياهما في غزة ورام الله ونابلس، يصعب الرهان على تنازل"حماس"امام"الانقلابيين"، باعتباره المخرج الوحيد لتجنب الطوفان. فالسلطة باقية على رغم الاهتراء، بقرار أميركي، والحكومة راحلة الى الشارع بقرار لن يقوى الرئيس محمود عباس على تفاديه... إذ ذاك لا يمكن التكهن بعواقب التحالف بين الجوع والنار.