بلغ عدد الضحايا في غزة خلال السنوات الست الأخيرة 2300 قتيل بما فيهم 300 خلال الأشهر الأربعة التي مضت على اختطاف الجندي غلعاد شاليت على يد مقاتلين فلسطينيين يوم 25 حزيران يونيو الماضي. أما الجرحى فتعدادهم بعشرات الآلاف، علما أن معظم الضحايا هم من المدنيين وبينهم العديد من الأطفال. ويستمر القتل يوميا سواء برصاص الدبابات أو القناصة أو من الجو أو بالقصف من البحر، أو من قبل فرق سرية بالألبسة المدنية ترسل إلى الأراضي المحتلة لنصب الكمائن والقتل، وهذا اختصاص إسرائيلي جرى استخدامه خلال العقود الماضية. ومن حق المرء أن يتساءل إلى متى يقبل"المجتمع الدولي"باستمرار هذه المذبحة؟ فالقمع الوحشي في الأراضي المحتلة، وخصوصا في غزة، هو من أكبر الفضائح المخزية التي يشهدها العالم اليوم والتي تعتبر لطخة عار في سجل الدول المزعوم أنها ديموقراطية. والمطلوب هو تدخل سريع في صورة قوة دولية على الحدود بين إسرائيل وغزة لحماية كل طرف من الطرف الآخر وللسماح ببعض الأوكسجين لإنعاش اقتصاد غزة المحتضر ومد يد العون لضحايا الكارثة الإنسانية. ولا بد أن يحس رئيس الحكومة البريطانية توني بلير الذي يعتبر لفظيا من أقوى دعاة الحل القائم على إنشاء دولتين بعقدة الذنب إذ أخفق في إقناع الرئيس بوش بتأييد حق الفلسطينيين بتقرير المصير. وهو ربما ظن بأن بوش يفكر بحل ما، لكنه كان مخطئا لأنه نسي مدى نفوذ المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل وتأثيرهم على سياسة بوش في الشرق الأوسط. وبدلا من ضبط الصقور الإسرائيليين وحركات المستوطنين وقتلة العرب والتوسعيين منحهم بوش الحرية المطلقة للاستمرار بسياساتهم، وهو ما زال كذلك. وربما كان ذلك ما يفسر خطاب بلير في المؤتمر الأخير لحزب العمال منذ شهر الذي أعلن فيه أن حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي سوف يحظى بأولوية الاهتمام في الفترة المتبقية له في الحكم. ولكن المؤسف أن هذا الكلام الجميل ظل من دون أي بادرة فعلية تدعمه اللهم إلا اقتراح بأن تقوم بريطانيا بمساعدة الفلسطينيين في بناء مؤسساتهم. ولكن أي مؤسسات وأي عالم خيالي يعيش فيه توني بلير؟ فهناك مليون ونصف مليون فلسطيني يعيش ثلثاهم تحت خط الفقر، محشورين في قطاع من 360 كلم مربع، بينهم 45 في المئة عاطلون عن العمل، جياعا ومحاصرين ومعزولين عن العالم ويتعرضون للقصف كل يوم. ومع ذلك يتحدث بلير عن بناء المؤسسات؟ أليس في وسعه أن يقترح وقف المذابح قبل كل شيء؟ أو ليس لكلمة بريطانيا ورأيها أي وزن وأي اعتبار؟ لقد تصفحت المواقع الحكومية البريطانية على الانترنت فوجدت خطبا عصماء لوزيرة الخارجية مارغريت بكيت وغيرها من المسؤولين حول العراق وأفريقيا وأفغانستان والدفء الكوني وما إلى ذلك، لكنني لم أعثر على كلمة واحدة حول عمليات الإذلال الإجرامي في غزة. لقد سمح فقط لإيان ايغلاند المنسق الخاص للشؤون الإنسانية بأن يقول ان غزة هي"قنبلة موقوتة"تنذر بانفجار اجتماعي. وهنالك شائعات بأن محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية يفكر بأن يعهد إلى منيب المصري، وهو رجل أعمال ثري من نابلس، بتأليف حكومة مستقلة من التكنوقراط من أجل وضع حد للمقاطعة التي فرضها الغرب على حكومة"حماس"المنتخبة ديموقراطيا, ولكن ليس هنالك حتى كتابة هذه السطور ما يشير إلى أن"حماس"قبلت بالتخلي عن الحكومة. أجل إن لغزة طاقة خرافية على تحمل المتاعب والأزمات، ولكن مهما كانت شجاعة المرء فإنه لا بد أن ينهار حين يعجز عن توفير الطعام لأولاده وحين يتحول بيته إلى ركام. فالوضع في غاية الخطورة ويستدعي اهتماما عاجلا، ولا سيما وأن التقارير الواردة من إسرائيل تفيد بأن هنالك حملة أشد ضراوة وأذى تلوح في الأفق. فبعد المذبحة التي قامت بها حكومة اسرائيل في لبنان خلال الصيف، وحرصا منها على محو آثار الفشل الذريع، يفكر ايهود اولمرت ووزير الدفاع عمير بيريتس والجنرال دان حالوتس رئيس الأركان بشن حملة في غزة أوسع نطاقا من القصف اليومي وتوغل الدبابات الذي شهدته غزة خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة. ويبدو أن الهدف المعلن لهذه الحملة هو وضع حد نهائي لصواريخ القسام المصنوعة محليا التي يطلقها الفلسطينيون بين حين وآخر على منطقة النقب. وهذه الصواريخ هي في الواقع مصدر إزعاج أكثر منها مصدر أذى إذ لم تتسبب سوى في قتل خمسة إسرائيليين خلال السنوات الست الماضية. ولعل الهدف الحقيقي الذي تسعى إليه إسرائيل هو القضاء على"حماس"واقتلاع كل معارضة في قطاع غزة. ومن هنا جاءت تصريحات الجنرال حالوتس المثيرة التي تحدث فيها عن قيام"حماس"وغيرها من الحركات الفلسطينية بتهريب أسلحة من مصر إلى غزة بملايين الدولارات بما في ذلك الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات وأطنان من المتفجرات - وببناء مدينة"كاملة تحت الأرض"لتخزين ترساناتها. لذلك"لن نسمح بأن تتحول غزة إلى لبنان آخر". والواقع أن إسرائيل عادت إلى احتلال ما يسمى بممر فيلادلفيا جزئيا، على الحدود بين مصر وغزة في محاولة لوضع حد لاجتياز الحدود وللتهريب عبر الأنفاق. أما في الضفة الغربيةالمحتلة فالوضع أقل عنفاً غير أنه لا يقل بؤساً ويأساً. فالرسميون من الأممالمتحدة يؤكدون بأنه تمت تجزئة الأراضي إلى ما لا يقل عن 528 حاجزا عسكريا، أي بزيادة 40 بالمائة منذ شهر آب أغسطس الماضي، الأمر الذي يحد من حرية الفلسطينيين في الحركة والتنقل. ولم تكتف سلطات الاحتلال بتقسيم الضفة إلى ثلاث مناطق شمال ووسط وجنوب بل جعلت المناطق الفلسطينية في هذه البقاع معزولة بعضها عن بعض، ما يخلف صعوبة بالغة للناس في الوصول إلى أرضهم أو إلى الخدمات الأساسية كالصحة والتربية والتعليم. وفي هذه الأثناء نرى الاقتصاد يمر بأسوأ الظروف والسكان في حالة معاناة دائمة في حين تمضي إسرائيل في بناء جدار الفصل لتنهب الأرض الفلسطينية وتدع المستوطنات المخالفة للقانون تنتشر على أوسع نطاق. ولعل ما هو أسوأ من صمت لندن إزاء هذه التطورات وانضمام واشنطن إليها في هذا الموقف هو دخول أفيغدور ليبرمان الحكومة الإسرائيلية كنائب للرئيس. فهذا الرجل البالغ من العمر 48 سنة هاجر من مولدافيا إلى إسرائيل وهو في العشرين من عمره, وهو يرأس حزبا يمينيا متطرفا يدعى"إسرائيل بيتينو"جميع أعضائه من المهاجرين الروس. وقد ذاعت شهرة هذا الرجل حين اقترح إغراق مصر عن طريق تدمير سد أسوان. وهو من المتحمسين للمستوطنين ويعارض كل انسحاب من الأرض الفلسطينية. والحل الذي يقترحه هو نقل العرب خارج إسرائيل كي تصبح إسرائيل ذات أثنية يهودية صافية. كذلك اقترح إعدام كل نائب عربي في الكنيست يتصل بأعضاء من"حماس"أو"حزب الله". ولو كان يعيش في دولة ديموقراطية فعلا لأثار السخط واعتبر فاشياً خطراً. ولكن عوضا عن ذلك، عهد إلى ليبرمان بمهمة وضع السياسة الإسرائيلية إزاء"الأخطار الاستراتيجية"التي تهددها. وقد علقت صحيفة"هآرتس"الإسرائيلية قائلة:"إن اختيار هذا الرجل غير المسؤول وغير القابل للانضباط لهذا المنصب هو الخطر الاستراتيجي بعينه". هذا وإن اطلاع ليبرمان على الأسرار الذرية، وكونه فعليا بمثابة وزير دفاع فوق الوزير الحالي، أمر يبعث على القلق البالغ باعتبار أن زعماء إسرائيل والمعلقين والمراقبين كرروا القول مرارا انه إذا لم تقم أميركا بضرب إيران فقد تجد إسرائيل نفسها مضطرة للقيام بذلك. لذلك فإن انضمام ليبرمان إلى الحكومة من شأنه أن يزيد من احتمال المواجهة بين إيران وإسرائيل. وأما زعيم حزب العمل عمير بيرتس الذي خيب آمال اليسار بمواقفه وسياساته"الحربجية"في لبنانوغزة، فسيكون سعيدا جدا بالجلوس جنبا على جنب في الحكومة مع العنصري الشهير وكاره العرب ليبرمان. هكذا وبينما تتجه أنظار العالم إلى تطور الوضع الكارثي في العراق وإلى عودة"طالبان"في أفغانستان وكيفية معالجة طموحات إيران النووية وهي المشاكل الثلاثة التي لم تجد حلولا لها - يستمر الفلسطينيون في نزيفهم وجوعهم وعذابهم المر وآلامهم تحت حكم إسرائيلي لا يعرف الرحمة. * كاتب بريطاني خبير في شؤون الشرق الاوسط