شكل السودان، في السنوات الأخيرة، مثالاً كبيراً على أقلمة وتدويل"المحلي"، وعلى أن البنية الداخلية التي تعيش حالة من اللااندماج الاجتماعي، لا تشكل فقط أرضية خصبة للتدخل الأجنبي وإنما أيضاً تؤدي إلى مد الأيدي من النوافذ للخارج. لم تكن هذه حال السودان في فترة الحرب الباردة، عندما كان لاعباً رئيسياً ضد اثيوبيا حليفة السوفيات أثناء حربها مع الصومال من أجل اقليم أوغادين 1977، ومن خلال دعمه للحركات الإريترية ضد الاحتلال الاثيوبي، كما كانت الخرطوم عاملاً فاعلاً في الصراعات التشادية خلال السبعينات والثمانينات بين حليف ليبيا غوكوني عويدي وخصمه الموالي للغرب حسين هبري. تغيرت الأمور في عام 1989 لما تزامن صعود الاسلاميين السودانيين للسلطة مع انفكاك تحالف واشنطن مع الحركات الاسلامية العالمية إثر انتفاء حاجتها إليها بعد هزيمة المعسكر السوفياتي، وقد لوحظ منذئذ تصاعد اعتماد الأميركيين على دول الجوار الأفريقي للسودان من دون الخرطوم في قضايا افريقية عدة أوغندا في أزمتي رواندا وبوروندي عام 1994- اثيوبيا في أزمة الصومال بعد انهيار حكم زياد بري في عام 1991، وهو الأمر الذي لا يمكن عزوه فقط إلى توترات الحكم الاسلامي السوداني مع الغرب في التسعينات، وإنما يمكن القول أيضاً إن ذلك أعطى دلالات على اتجاه أميركي جديد وإلى تزايد الاعتماد على الدور الافريقي الإقليمي في مناطق التماس والجوار مع العالم العربي، على حساب أدوار قامت بها القاهرةوالخرطوم والرباط لحساب واشنطن في المحيط الافريقي خلال أيام الثنائية القطبية. في هذا الإطار، كان واضحاً الغطاء الأميركي للدور التدخلي الذي قامت دول منظمة"الإيغاد"في أزمة جنوب السودان بالتسعينات، سواء على صعيد دعم بعضها، مثل أوغندا وكينيا لحركة جون قرنق أو على صعيد تأمينها لإطار تفاوضي افريقي للأزمة يتمتع بمظلة واشنطن، مع استبعاد أدوار دول عربية معنية بالوضع السوداني، كمصر وليبيا والسعودية، وكان واضحاً من مسار أزمة الجنوب في التسعينات أن الخرطوم لم تعد تستطيع التحكم بمجرياتها، ولا الحد من التدخلات الاقليمية والدولية فيها، بل إن الكثير من التحولات الداخلية السودانية، مثل عزل الدكتور حسن الترابي من الحكم عام 1999 كان الهدف منها التكيف أو التخفيف من تأثيرات الرياح الخارجية أو التلاقي معها عبر تحولات داخلية"مرضية"للمحيطين الاقليمي والدولي، ربما من أجل تكرار تجربة اتفاقية أديس أبابا آذار / مارس 1972 التي أنهت التمرد الجنوبي الأول منذ آب / اغسطس 1955 وأتت بعد أشهر من ضرب الرئيس نميري للشيوعيين المحليين. لم ينجح الرئيس البشير في محاولة ذلك، حيث ظهر من اتفاقيتي مشاكوس عام 2002 ونيفاشا عام 2005 مع الجنوبيين، أن الخرطوم وقعت اتفاقيات ستؤدي وأدت إلى فقدان سيطرتها على الجنوب، في وقت كانت قد انفجرت أزمة دارفور منذ شباط / فبراير 2003 وكان واضحاً من التنازلات المتزايدة التي قدمتها الحكومة السودانية في نيفاشا أنها تريد التفرغ من الهم الجنوبي لاحتواء أزمة الاقليم الغربي التي ظهرت فيها عملية تدويل واسعة للمشكلة المحلية السودانية، إضافة الى أقلمتها عبر دور لبعض الدول الافريقية مثل تشاد ونيجريا، حيث فاق تدويل دارفور ما كان في الجنوب بالتسعينات من تدويل لم يكن فاقعاً ومباشراً وإنما كان يتغطى بقفاز"الإيغاد". في هذا الإطار، فرضت دارفور حركات اجبارية على الحكومة السودانية، من الواضح أن اتفاقية نيفاشا كانت احداها، وبالمقابل فإن فشل اتفاق أبوجا في أيار مايو 2006 بشأن دارفور، بسبب رفض فصائل رئيسية التوقيع عليه واتجاه الولاياتالمتحدة إلى تدويل قوات حفظ السلام هناك، سرَع كثيراً في توقيع الخرطوم على اتفاقية وقف النار مع جبهة الشرق في حزيران الماضي، ثم اتفاقية أسمرة في 14 تشرين الاول اكتوبر، لتقاسم السلطة والثروة في الاقليم الشرقي. في اتفاقية أسمرة ظهرت إريتريا كدولة راعية، وهي التي استطاعت خلال عقد ونصف عقد من استقلالها أن تصبح لاعباً كبيراً بفضل لعبها على مشاكل الدول المجاورة أو ضدها، عبر دعمها لجون قرنق ول"التجمع الوطني الديموقراطي"السوداني المعارض وحركات التمرد في دارفور وجبهة الشرق السودانية إضافة إلى دعمها اللاحق للمحاكم الاسلامية الصومالية الداخلة في صراع ضار مع اثيوبيا. وبالمقابل، فإن تشاد، كما أوغندا في التسعينات خلال أزمة جنوب السودان، ظهرت كلاعب كبير، هي ونيجيريا، في الأزمة الدارفورية. لقد تمتعت وتتمتع هذه الدول الاقليمية المتدخلة في الشأن المحلي السوداني وأزماته، بغطاء دولي كبير وبسكوت يعكس رضى المحيط الافريقي، وأصبحت هي و"القطب الواحد"، محدِداً كبيراً للمسارات الداخلية السودانية. * كاتب سوري.