تدل تصريحات وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر الأخيرة تعليقاً على عمل لجنته التي كلفها الكونغرس درس اوضاع العراق والدور الاميركي هناك الى ان الرجل واعضاء لجنته ادركوا ان تمسك الادارة الاميركية بشعار"السير الى نهاية الشوط"، اي ادامة الاحتلال العسكري، لم يعد خياراً مجدياً وان على الولاياتالمتحدة ان تسحب قواتها العسكرية من العراق بعد ان فشلت في بسط الاستقرار والسلم الاجتماعي فيه. والواقع ان السياسات الاميركية في العراق قادت الى اذكاء النعرات والفتن العرقية والمذهبية وادخلت البلاد في حرب أهلية بعد ان فككت الدولة العراقية واخفقت في اعادة بنائها على اسس متينة تكفل بقاءها دولة موحدة. كان من السهل على لجنة بيكر في ما يبدو ان تستنتج استحالة الاستمرار في الاستراتيجية الاميركية المتعثرة لأسباب قوية تؤكدها ارقام مخيفة. ومن ابرز هذه الأرقام ان عدد من يسقطون قتلى في العراق في ازدياد مستمر ويبلغ احياناً مئة قتيل يومياً، وان عدد من يعبرون الحدود الى سورية يومياً هرباً من الجحيم العراقي يقرب من الفين. وتقدر وكالة الاممالمتحدة للاجئين عدد المهاجرين داخلياً في العراق هذه السنة وحدها ب365 الفاً. وقد فر الى الاردن نحو ثلث عدد المهنيين العراقيين من اطباء ومهندسين ومعماريين وغيرهم من الكفاءات وقتل ما لا يقل عن مئة استاذ ومحاضر جامعي في بغداد. وثمة تقديرات بأن عدد من قتلوا بسبب الغزو الاميركي يفوق نصف مليون نسمة. وقتل من العسكريين الاميركيين منذ احتلال العراق الى الآن نحو الفين وثمانمئة. في ضوء هذه الارقام القاتمة بات العراق الآن اقرب الى الانشطار الى ثلاث دويلات من أي وقت سابق، خصوصاً بعدما امر رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني برفع العلم الكردي على مقار المؤسسات في الشمال وبعد ان صوت النواب بغالبية بسيطة تأييداً لقانون الفيديرالية. ولو كان العراق مستقراً في هذه الاثناء فلربما امكن الحفاظ على وحدته في اطار فيديرالي، ولكن هذا صار صعباً جداً الآن. لذا فإن الكيان السياسي الكردي جاهز اكثر من غيره للتحول الى دويلة، كذلك الامر بالنسبة الى المحافظات الجنوبية التي اصر زعماؤها على الصيغة الفيديرالية. واما محافظات الوسط والغرب فقد تصبح هي الاخرى دويلة هزيلة. رغم هذا الادراك لفشل السياسة الاميركية في العراق، اذا كانت ترمي اصلاً الى ضمان استقراره ووحدته في ظل نظام ديموقراطي وليس اضعافه وتقسيمه، ورغم اقرار رئيس هيئة اركان القوات البريطانية الجنرال ريتشارد دانات بأن وجود قوات اجنبية في العراق يفاقم ازمة ذلك البلد، فإن الرئيس الاميركي بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير يواصلان اصرارهما المشين على انهما شنا حرباً لها مبرراتها وان التعجل في الانسحاب سيزيد الموقف سوءاً. ان المنطق يملي، كما استنتج بيكر، الاستعانة بالدول المجاورة للعراق للمساهمة في حل أزمته، فيما يستعد الاميركيون وحلفاؤهم للرحيل تدريجاً. ويشير الاميركيون هنا تحديداً الى ايران وسورية. وقد سارعت دمشق الى ابداء استعدادها لمساعدة العراقيين في استعادة الاستقرار، مشيرة الى العلاقات الطيبة التي تربطها بكثير من القوى الفاعلة في العراق. ان تحركات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لحشد تأييد المرجعيات الدينية لوفاق وطني عام واجراءاته من اجل تطهير الجيش والشرطة من العناصر التي تذكي الاقتتال الداخلي تستحق الدعم. ولكن لعله يعلم ان اي وفاق وطني لن يحصل ما لم يشمل ايضاً تنظيمات المقاومة ومن يسميهم الاميركيون المتمردين، بغض النظر عن موقف اي طرف منهم. وبالاضافة الى ضرورة شمل جميع الاطراف الداخلية في مساعي الوفاق، ينبغي الاتصال بجميع جيران العراق طلباً لمساعدتهم في ضمان استقراره وضمان عدم وجود اجندات لدى اي من الجيران لخلخلة الاستقرار بدعم فريق عراقي ما دون غيره. ولعل جيران العراق يبادرون من دون تأخير الآن الى مد يد العون في حل أزمته لئلا يتفتت ويصبح انقسامه خطراً عليهم ايضاً.