شهدت الساحة العراقية نشاطات مكثفة سبقت الانتخابات التي جرت في 30 كانون الثاني يناير الماضي تحضيرا لها، اتخذت أشكالا وطرقا مختلفة بدءا بالأعمال الحربية للقوات الأميركية وقوات الحكومة الموقتة بضرب سامراء والنجف ومدينة الصدر والفلوجة التي ذهب ضحيتها آلاف المواطنين الأبرياء, واتصالات أجرتها الإدارة الأميركية بواسطة قادة عسكريين في العراق وأجهزة استخباراتها وسفاراتها في العراق ودول أخرى وبواسطة الحكومة العراقية المؤقتة وبعض الدول الإقليمية مرورا بمؤتمر شرم الشيخ الدولي، الذي أعطى شرعية للانتخابات قبل حصولها ومنح الشرعية للحكومة والهيئة التي سيتم انتخابها سلفا، بهدف تهيئة الظروف لمشاركة واسعة بإشراك القوى السياسية المقاطعة للانتخابات. وساهمت الأوساط السياسية من الحكومة الموقتة والأحزاب المتوافقة مع إدارة البيت الأبيض بالاتصال مع القوى التي أعلنت مقاطعة الانتخابات أو طالبت بتأجيلها ، كما أعلنت أغلب القوى المشاركة في حكومة أياد علاوي عن رغبتها في تأجيل الانتخابات لتحقيق حالة أمنية أفضل مما هي عليه ولكي تتاح ظروف مناسبة لإشراك القوى المقاطعة والمعارضة، باستثناء قائمة الائتلاف العراقي التي طالبت بالانتخابات في الموعد المحدد . ثم تراجعت القوى الحكومية عن مطالبتها بالتأجيل بناء على إصرار أميركي بإجرائها في موعدها. والسؤال: لماذا الإصرار الأميركي على الإسراع في إجراء الانتخابات؟ وهل أن الولاياتالمتحدة راغبة حقا في إحلال الديمقراطية في العراق ولو كان ثمن ذلك آلاف الخسائر البشرية من جنودها وإبداء استعدادها لتقديم المزيد من الخسائر إضافة إلى الخسائر المادية التي تجاوزت مئات البلايين من الدولارات؟ تجيب القوى والشخصيات الوطنية والقومية والإسلامية والمقاومة العراقية التي أعلنت مقاطعتها للانتخابات : أن أميركا لا يهمها تحقيق الديمقراطية ولكنها تسعى إلى تحقيق أهدافها و مصالحها من خلال احتلالها للعراق وتتمثل في السيطرة على النفط العراقي ونفط المنطقة وحماية أمن إسرائيل والاحتفاظ بقواعد عسكرية في العراق وإخضاع الدول المجاورة للهيمنة الأميركية وجعل العراق احدى حلقات المنظومة الأمنية الأميركية الهادفة إلى الهيمنة على العالم . القوى التي قاطعت الانتخابات اعتبرت أن تلك الأهداف تتعارض مع المصالح الوطنية والقيم والمبادئ التي تشكل رؤيتها. لذا اختارت طريق معارضة الاحتلال والمطالبة بخروجه من العراق بجدولة انسحابه في مقابل مشاركتها في تلك الانتخابات. وتعتبر هذه القوى أن الانتخابات التي فرضتها قوات الاحتلال ستؤدي إلى ادعاء الحكومة المقبلة بجانب من الشرعية تحقق للمحتل أهدافه عبر توقيع معاهدات واتفاقات تقيد سيادة العراق وتفرط بثرواته الوطنية . أما القوى المشاركة في الانتخابات فتعتقد أن الانتخابات هي الطريق نحو إنهاء الاحتلال، ولا تجد مبررا للمقاومة على الأقل في الظروف الراهنة. ووضعت بعض من هذه القوى في برامجها الانتخابية المطالبة بجدولة الانسحاب وصدرت بعض التصريحات من قوى أخرى مشاركة في الحكومة المؤقتة المعينة بأن الاحتلال غير مرغوب به . إذا سلمنا تبدي غالبية القوى العراقية رغبتها برحيل قوات الاحتلال مع اختلاف الوسائل، ففريق يعتمد طريق المقاومة، وفريق آخر يرى أن الديمقراطية والطريق السلمي هما الأسلوب المناسب لإنهاء الاحتلال، لكنه يبدي تخوفا من أن خروج الاحتلال في الظروف الراهنة يقود إلى حرب أهلية .ونرى أن البرنامج الآتي كفيل بإزالة تلك المخاوف: أولاً: انسحاب قوات الاحتلال من العراق وفق جدول زمني محدد من دون قيد أو شرط واستعادة العراق لسيادته الكاملة. ثانياً: إحلال قوات عربية وإسلامية ودولية بديلة بإشراف الأممالمتحدة، تعمل على ترسيخ الأمن وتعزيزه، وإعادة بناء مؤسسات الدولة والأجهزة الحكومية بما فيها الجيش. ثالثاً: الإعداد لانتخابات حرة بإشراف الأممالمتحدة ، تنبثق عنها المؤسسات الدستورية الشرعية "مجلس تشريعي" حكومة يتم اختيارها من المجلس التشريعي رابعا : يضع المجلس التشريعي المنتخب مباشرة من الشعب العراقي دستورا يضمن وحدة وسيادة العراق وهويته العربية الإسلامية وإقامة نظام تعددي يحقق المساواة بين كافة أبناء الوطن بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب مع مراعاة خصوصية الحال الكردية في الحقوق القومية المشروعة والتأكيد على أهمية التعددية الثقافية للشعب العراقي واعتبارها عاملاً إيجابياً في تعزيز الوحدة الوطنية ونبذ مبدأ المحاصصة المذهبية والطائفية والعرقية في أي شأن من شؤون الدولة، ويضمن الحريات العامة والفردية في إطار الثوابت الوطنية. وإذا أيقنا بأن الطرفين العراقيين جادان في إنهاء الاحتلال لا نرى في الاعتراض حول الأسلوب شأناً يصعب تجاوزه، وأن فكرة استهداف قوات الشرطة والحرس الوطني يمكن تجاوزه عندما تبتعد هذه القوات عن المساهمة إلى جانب قوات الاحتلال في دهم المدن وتدميرها وملاحقة المواطنين الأبرياء كما حصل في الفلوجة والنجف ومدينة الصدر وسامراء والموصل وغيرها. مواقف القيادة الكردية 1- بالغت القيادة الكردية في الاعتماد على العامل الخارجي في سعيها لتحقيق الأهداف الكردية وبنت تصوراتها على أوهام القوة والانتصار ولم تأخذ في الاعتبار تجاربها الطويلة. 2 - الإصرار على النظام الفيديرالي وإطلاقها تهديدات بالإقرار بمبدأ النظام الفيديرالي أو الاستقلال، وسوقت الفكرة لتشمل مناطق العراق الأخرى من دون أي اعتبار لرأي الشريك العربي الذي سيقيم ذلك النظام الفيديرالي، الذي لم يعهده تاريخ الدول والنظم السياسية في العالم اذ أن النظام الفيديرالي يأتي عادة باتحاد أو اتفاق دولتين أو أكثر لتشكيل الدولة الفيديرالية، أما أن يجري تفكيك الدولة إلى دويلات ثم العودة مجددا لتشكيل الفيديرالية فأنه أمر غير مسبوق . 3- اتبعت سياسة الإصرار على إبعاد العرب القاطنين في مدينة كركوك من دون مراعاة لحق المواطن في اختيار المكان الذي يرغب سكناه أو ربما تضطره ظروفه سواء بإجباره أو ترغيبه أو مقتضيات عمله أن يقطن هذه المدينة أو تلك في حدود دولته. وهذا الأمر ليس فريدا ولا جديدا على سكان العراق فالكثير من السكان الآن ليسوا حيث عاش آباؤهم وأجدادهم لن يثير أحد أي اعتراض لو تمت إعادة المهجرين الذين هجروا قسرا إلى مدينتهم التي رحلوا عنها وإعادة أملاكهم وتعويضهم إذا رغبوا ذلك. وكذلك عرض هذا الخيار لمن تم إسكانهم في كركوك كما هي الادعاءات القائمة. وماذا سيحصل لو تم إتباع السياسة نفسها للقاطنين الأكراد في بغداد، وعلى الكثير من السكان الذين سكنوا في محافظات أخرى؟ 4- ذهبت القيادة الكردية بعيدا في محاولاتها استمالة بعض السياسيين العراقيين ممن أبدوا استعدادا" للقبول بالفيديرالية، بإغداق الأموال عليهم والدعم بالأشكال الأخرى، وحولت بعضهم إلى تابعين ومرتزقة أصبحوا معزولين عن محيطهم السياسي والاجتماعي، وأخذت تلك السياسة تزرع بذور الصراع القومي الذي لم يشهده تاريخ العلاقة بين العرب والأكراد الذي يمتد إلى مئات السنين وأخذت تمول الدعوات إلى الفيديرالية في جنوبالعراق مما ترك انطباعا لدى العرب بأن القيادة الكردية تسعى إلى تمزيق العراق . 5- اتبعت سياسات تركت انطباعا بأنها شريكة الاحتلال في تحقيق أهدافه في العراق والمنطقة من خلال ما قدمته إلى قوات الاحتلال من خدمات واستعدادها لتقديم المزيد من التسهيلات . 6 - أجرت استفتاء على مبدأ الاستقلال إلى جانب الانتخابات التي حصلت بتاريخ 30 كانون الثاني ينايرعام 2005، وأظهرت النتائج كما أعلنتها القيادة الكردية بأن ما يزيد على 80 في المئة من الشعب الكردي يطالب بالاستقلال. كيف يمكن تفسير إصرار القيادة الكردية على تحقيق الفيديرالية كونها تمثل إرادة الشعب الكردي الذي جاءت في انتخابات عام 1992 ، ولا نجد ذلك الإصرار على الاستقلال الذي عبر عنه الشعب الكردي عام 200؟ 7- كان في إمكان القيادة الكردية أن تتصرف كقيادة تاريخية عراقية وكردية بحكم امتلاكها تجارب طويلة ووقعت تحت تصرفها إمكانات مادية كبيرة وظروف سياسية وطنية ودولية لم تكن في حساباتها ولم تكن من صنعها بإتباعها سياسة تضميد جراح الوطن وجراح الشعب لأنها القيادة الوحيدة في العراق التي كانت مؤهلة لذلك بعد الاحتلال، وكان في إمكانها أن تؤسس لمبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي عن طريق كسب تعاطف الشعب العراقي. إلا أنها للأسف تركت انطباعا من خلال السياسات التي تم اعتمادها وكأنها استغلالا" للظروف واقتناص الفرص لتحقيق مكاسب آنية أضرت بحقوق العراق. هل تستطيع القيادة الكردية أن تقوم مجددا بمهماتها الوطنية الكبرى؟ هذا ماسينتظره الشعب العراقي منهم والأيام والأشهر القليلة المقبلة ستكون شاهداً . شرعية المقاومة إن المقاومة التي تهدف إلى إخراج المحتل لابد من الاعتراف بشرعيتها كونها تستمد هذه الشرعية من الدين والوطن والشعب والقوانين الدولية ، ولولا الاحتلال والظلم والعدوان لما عرفنا المقاومة. أصبح العراق تحت حالة الاحتلال الحربي من خلال استصدار قرار مجلس الأمن الرقم 1483 في 22 أيار مايو 2003 ووضعت الولاياتالمتحدة وبريطانيا نفسيهما بوصفهما قوتي احتلال يمنح المقاومة حقوقا وامتيازات يتعين شمولها بهما. إن اتفاقات لاهاي لعام 1899 و1907 واتفاقية جنيف لعام 1906 وعام 1929 وعام 1949 اعترفت بشرعية المقاومة المسلحة بنوعيها المقاومة المسلحة المنظمة والمقاومة الشعبية التلقائية . فيما ذهبت اتفاقية جنيف لعام 1949 إلى أبعد من ذلك حينما اعترفت بمشروعية المقاومة وإلىشمولية أفرادها بجميع أحكام الرعاية الإنسانية المعترف بها للجيوش النظاميةسواء بالنسبة للجرحى أو الأسرى أو القتلى . الحوار والمصالح الوطنية العراقية : لاشك في أن الدعوة إلى الحوار هو طريق العقل والأسلوب المناسب للخروج من الأزمات، ولكي يؤدي الحوار أهدافه في تحقيق المصالح الوطنية العراقية التي يمكن إجمالها في الإطار الآتي لا بد من الإشارة إلى الثوابت في أدناه: 1- العمل على إنهاء الاحتلال بوضع جدول زمني بضمانات دولية . 2- أن يؤدي الحوار إلى إيجاد قواعد من شأنها تمتين الوحدة الوطنية العراقية بكافة الوسائل بما فيها رفض مبدأ المحاصصة والنسب القائمة على الأساس المذهبي والطائفي . 3- الدين الإسلامي مصدر أساسي في التشريع . 4- أن يقوم الحوار على مبدأ إقرار شرعية مقاومة الاحتلال بأشكالها المختلفة كطريق لإنهائه، وإن أي حوار يقوم على فكرة أن قوات الاحتلال ستنسحب من العراق في المدى المنظور فهي فكرة واهمة وخداعة تهدف إلى إضعاف الحركة الوطنية العراقية والالتفاف على مبدأ المقاومة . 5- العراق جزء من الأمة العربية ومن الأمة الإسلامية . 6 - تعتبر الحكومة التي سيتم تشكيلها حكومة تصريف أعمال لا يحق لها توقيع اتفاقات ومعاهدات تنتقص من سيادة واستقلال العراق أو التفريط بثرواته الوطنية. 7- إعادة النظر بالقوانين والقرارات التي من شأنها تحديد صياغة الدستور باتجاهات تخدم المصالح الأميركية أو تؤدي إلى تقسيم العراق ومنها قانون إدارة الدولة وقرار اجتثاث البعث . 8- اعتماد الديمقراطية والانتخابات كإحدى الوسائل الأساسية لتحقيق حرية الإنسان العراقي وحقوقه في المشاركة في بناء الوطن وبشكل متكافئ واعتماد معيار المواطنة كأحد ركائز التعامل الذي يجب أن ينظمه الدستور . 9- التعويض المناسب عن الأضرار التي لحقت بالمواطنين نتيجة العدوان الأميركي - البريطاني على المدن العراقية وتعويض الضحايا والشهداء. 10- السعي لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة على قاعدة العدل وتأسيس علاقات حسن الجوار القائم على مبدأ المصالح المشتركة والابتعاد عن منطق الحرب والعدوان . ولابد من الإشارة الى أن هناك قوى عراقية تعتبر وجودها ومصيرها مرتبطا بوجود قوات الاحتلال وثمة قوى متطرفة قومياً وطائفياً وسياسياً متوزعة على الساحة السياسية العراقية ستحاول إعاقة أية خطوات إيجابية نحو الحوار المشترك لإفشاله .لذا فأن خطوات الحوار ستكون غاية في الصعوبة والحساسية التي أفرزتها تفاعلات السياسة والقرارات المتخذة في الماضي إضافة إلى السياسة والقرارات التي اتخذها الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي والوزارتين المشكلتين خلال الاحتلال. نأمل أن يتمكن المتحاورون من تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية والفئوية والحزبية. وهذا ما سينتظره الشعب العراقي من أبنائه المخلصين . كاتب وسياسي عراقي.