تبدو ولادة المثقف كما ترد في كتاب رضوان زيادة"المثقف ضد السلطة"الصادر حديثاً عن"مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان"2006 لصيقة برحلة عبور المثقف من الحقل الثقافي الى الحقل السياسي، لكنّ حدود هذه الرحلة لم تكن واضحة، على رغم أن تطور هذه الولادة بدا مرتبطاً بالحراك الاجتماعي والتغيير السياسي الذي مرّ به المجتمع الفرنسي خصوصاً والمجتمع الغربي عموماً. والسؤال الذي يفرض نفسه هو هل تتطابق شهادة ميلاد المثقف في المجتمعات العربية مع السيرة الذاتية لولادته في الغرب؟ لا شك في أن القضية أو الوظيفة المرتبطة بولادة مفهوم المثقف أبعد من أصلها اللغوي وترتبط ارتباطاً حميماً بأدائه الفكري والمعرفي حتى السياسي. ولذلك من الصعب الفصل بين الأصل التاريخي لمفهوم المثقف في المجتمع العربي وبين التطور التاريخي والاجتماعي والسياسي لهذا المجتمع، والخروج من إشكالية التعميم التي تكاد تسم معظم الكتابات العربية التي تتحدث عن"المجتمع العربي"وپ"النظام العربي"وپ"المثقف العربي"، الى غير ذلك مما طغى استخدامه ايديولوجياً في شكل مكثف في العقود الماضية. فإنّ من الصحيح أن راهن"الأزمة"اليوم يبدو عربياً تماماً لكن تجلياتها مختلفة تماماً أيضاً باختلاف المساحة الجغرافية العربية، وما يتعلق بذلك من الأطر التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطوّر فيها كل إقليم عربي بمعزل عن غيره من الأقاليم، لكن طموح الباحث رضوان زيادة في كتابه"المثقف ضدّ السلطة"الى قراءة إشكالية المثقف والسلطة في داخل إطارها السوري لم يأتِ رغبة في فصم جدليات التأثر والتأثير بين المثقف السوري وغيره من المثقفين العرب، وانما رغبة في تركيز الإشكالية وتعميقها بما يسمح بقراءة التطور التاريخي للنخب السورية ودور هذه النخب في السياسات السورية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. من الممكن الإشارة الى ما يمن اعتبارها بمثابة الرؤية الموجهة لدور المثقف السوري خلال تطوره التاريخي، فالمثقف السوري وُلِدَ في حضن"المعارضة"للوضع القائم على رغم نسبه أو استفادته من ميزات التعليم الذي كان قائماً من بدايات القرن العشرين وتأثيراته العثمانية، لكن صلته مع مجتمعه جعلته يمحور خطابه حول مطالب إصلاحية إيديولوجية كان التعبير عنها في تلك الفترة عروبياً. غير ان تلك الرؤية تحمل في داخلها انحيازاً مسبقاً، نوعاً ما، الى الدور الوظيفي للمثقف أكثر من أخذها للتكوين المعرفي للمثقف بعين الاعتبار، وهنا لا بد من أن زيادة انطلق في قراءته للمثقف السوري وتحولاته اعتباراً من دوره لا من ثقافته التكوينية لأن بناءه المعرفي جعل منه فئة اجتماعية متميزة وألغى دوره السياسي الذي سعى الى البحث عنه والكشف عن أدائه من خلاله. وضعت الظروف الدولية النخب السياسية في سورية أمام خيارات صعبة كانت سبباً في ترسيخ الشرخ السياسي القائم أصلاً بين مؤيدين لسياسات الأمير فيصل ومعارضين لها. وقد تعزز هذا الشرخ بالنظر الى السياسات التفاوضية التي اتبعها الأمير فيصل مع الفرنسيين والانكليز، الا أن هذه المعارضة سرعان ما أدَّت الى الفرز بين النخبة المثقفة وفقاً لمصالحها وعلاقاتها الخاصة. وهو ما ظهر جلياً في عهد الانتداب الفرنسي في سورية، عندما بدت الأحزاب التي تشكلت في هذه الفترة الحزب الشيوعي، والسوري القومي الاجتماعي، والديني المؤطر والحاضن لنشاط المثقف السوري. برزت النخب المثقفة في سورية عقب الانفصال كنخب إيديولوجية بامتياز ترجع في أصولها الى الطبقة الوسطى، وتحول المثقفون القوميون الى كيانات إيديولوجية حزبية متخالفة ومتنابذة حول نزاعات ومواقف تاريخية وإيديولوجية مختلفة. ووصل الوعي الإيديولوجي الى ذروته تقريباً عبر امتلاكه الأحزاب السياسية وتملكه لها، اذ ان خريطة الأحزاب السياسية السورية في فترة ما بعد الانفصال تعكس بجلاء الحركة النشطة للأحزاب السياسية العقائدية وخموداً تاماً للمثقفين المستقلين أو للأحزاب ذات الإرث الوطني الليبرالي القديم. ولكن، بالتوازي مع هذا الحراك النشط للنخب المثقفة كان يجري حراك آخر بين العسكريين والضباط السوريين الذين كان لهم إسهامهم في الانقلابات العسكرية المتتالية، وهو ما فتح لهم الباب أمام إعادة التفكير مجدداً في صنع الحياة السياسية وتشكيلها عبر الانقلاب العسكري، ولبروز التنظيمات العسكرية الناصرية والبعثية التي ساهمت في تأكيد مواقفها عبر حركات عسكرية لم تُفلح في البدء، إلا أنها نجحت في ما بعد في تأسيس دولة من نوع جديد بعد حركة 8 آذار مارس 1963. هذا النموذج الهش للدولة في وعي النخب والمثقفين السوريين شجع"العسكر"كما يطلق عليهم، على التدخل وإنجاز ما عجز عنه المثقفون في طرق ووسائل أكثر فاعلية.