كل منتدى فكري يشكّل ظاهرة ايجابية، المهم ان يحمل في داخله ظاهرة التعددية، والملاحظ في المنتديات التي ظهرت أخيراً في سورية أنها تتمتع بمجموعة من السلبيات لا بد من الإشارة إليها: أولها: أنها تضم مجموعة تحمل هوى فكرياً وإيديولوجياً واحداً، وهي غير قادرة على الاتفاق مع اتجاهات اخرى بمعنى أنها واحدية وإيديولوجية وليست تعددية، وتعيد إنتاج التجربة الإيديولوجية التي تزعم أنها تنتقدها بدليل أنها بدأت ضمن مجموعة معينة فيها أحد رجال الأعمال ثم انتهت الى استبعاده من مشروعها مع أن اللغة واحدة بينهم. والسبب أن هذه المجموعة هي إحدى استطالات الماركسية القديمة والليبرالية المتمركسة التي فشلت في تمركسها فتحولت الى ليبرالية مع الاحتفاظ بالنهج الماركسي. وثانيها أن أغلب القائمين على هذه المنتديات هم من الجيل الغارب أي من الجيل الذي عمره الآن ما بين نهاية الخمسين والثمانين وبالتالي فهو جيل يحاول عبر هذا الخطاب الماركسي المتجدد أن يحافظ على وجوده ويعلن أنه لم ينته، وهذا حقه وجودياً وإنسانياً. ولكن السؤال يبقى ما هو مستوى فاعلية هذا الخطاب الماركسي المتجدد ليبرالياً. ومن يمثل من الجيل الجديد؟ صحيح أن هذا الخطاب يدغدغ مشاعر الناس وخصوصاً من العاديين الذين يخلطون بين الحرية والديموقراطية، فالناس لا تفهم ما هو المقصود ب"المجتمع المدني كمقولة يستند إليها رواد منتديات المجتمع المدني كتجسيد بصورة أو بأخرى لمقولة "الكتلة التاريخية" عند الماركسي المتجدد انطونيو غرامشي، والتي أراد منها ان تكون كتلة المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني، من لجان أحياء ونقابات وغير ذلك، حاملة للمشروع الاشتراكي الذي لم تعد تستطع ان تحمله البروليتارية الأوروبية. وبكلمة فإن هؤلاء لا يشكلون ظاهرة شعبية ويكررون مواقف النخبة التي ظهرت قبل أربعة عقود وتوهمت أنها قادرة على أن تكون حاملة الوعي للجماهير على الطريقة اللينينية، حتى أن البعض من المواطنين العاديين يسأل ببساطة من لا يعرف: هل نحن مجتمع عسكري وما معنى مجتمع مدني" لقد كان غرامشي يتصور أن مجموعات المجتمع المدني من مثقفين ونقابات ولجان أحياء وغير ذلك يمكن ان تحل محل غياب دور الطبقة العاملة لتكون هي الكتلة التاريخية للتغيير الاشتراكي. وفي الحقيقة أن رواد المجتمع المدني في سورية يريدون مفهوم الكتلة التاريخية من دون مفهوم الاشتراكية، ولكن ذلك كله من خلال تبنّي مصطلح المجتمع المدني الغرامشي حصراً. وهذا إعادة إنتاج لمحتوى الخطاب الماركسي بصورة ليبرالية. وإنني لا أنتقص من حق هؤلاء في التعبير عن وجهات نظرهم وفي اختيار ما يريدون، لكنني أعتبر ان ما يحدث هو تجديد للخطاب الماركسي بصورة ليبرالية واجتراح موضة جديدة على الطريقة الخلاصية تتخيل أن الخلاص من الاستبداد والحكم الشمولي - كما يقولون - هو بآليات المجتمع المدني، وهنا يسبتدلون مصطلح الاشتراكية أو الديموقراطية ك"خلاص" بمصطلح المجتمع المدني، هذه النزعة الخلاصية هي نزعة أصولية ايديولوجية على رغم ان هذه المجموعة تتخيل نفسها خارج إطار النزعة الوثوقية الخلاصية للمتدينين، وهذا ما يفسر غياب الاتجاهات الدينية عن التوقيع أو عن صياغة وثيقة المجتمع المدني المعروفة. ثالثها: أن هذه المجموعات على رغم ظاهرتها الثقافية تقول كما أكد أحد أعضائها لإذاعة لندن قبل أيام، إنها تريد أن تكون حزباً سياسياً، بمعنى أن هناك مسعى يتجاوز ما هو ثقافي إلى ما هو سياسي، أي أن هذه المجموعة بالأصل هي مشروع سياسي، ولا تدرك إنها تعيد إنتاج ما تنقده حالياً من نتائج اتصال ما هو ايديولوجي أعطى ما يسمونه المشروعية الثورية بما هو سياسي وهو الحكم. فهم يعيدون إنتاج نفس الآلية للأحزاب الثورية باتصال ما هو إيديولوجي خلاصي أحادي تأملي بما هو سياسي. رابعها: أن هذه المجموعة لا تقدّم مشروعاً سياسياً بمعنى خطوات إجرائية لتحقيق هدف معيّن، إنما تضع أهدافها بصورة تأملية وعلى طريقة القيامة الآن وتريد إعادة انتاج نفس الخطاب الإيديولوجي للستينات والخمسينات الذي كان يضع أحلاماً تأملية كبيرة من دون خطوات واقعية باتجاهها. وعندما وصلت بعض تلك التيارات التأملية الى السلطة فإنها وجدت نفسها مضطرة لإيجاد مسافة بين ما هو إيديولوجي وبين ما هو سياسي، وهذا ما لا يدركه القائمون على إعادة الخطاب نفسه من خلال وثيقة المجتمع المدني. فكيف يمكن تحقيق كل ما قاله هؤلاء: هل من خلال تنفيذ فوري أم من خلال تنفيذ تدريجي، وهم لا يسألون أنفسهم ما هي القوى التي يمكن ان تقوم بذلك؟ هل هم أنفسهم أم هناك قوى اجتماعية أخرى؟ وما هي الظروف المساعدة وغير المساعدة على ذلك؟ المثقفون والسلطة مرة أخرى لست ضد هذه الأفكار بالمطلق ولكنني أجد فيها مشاريع تأملية فقط لا تراعي ظروفاً بل وتكره حتى الإشارة الى الظروف لأنها تعتبرها "شمّاعة" لتعليق عدم التغيير عليها الذي يريدونه ووفق الطريقة التي يطرحونها وهي: الآن الآن وليس غداً، حيث أنهم لا يذكرون أبداً دور الصراع العربي - الإسرائيلي ومدى تعطيله لقدرة المجتمع السياسي على التطور باتجاه ما يقترحون، حتى أن موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي يكاد لا يشكل أساساً في تلك الوثيقة، إذ يبدو أن القائمين عليها قد طلّقوا طلاقاً بائناً الصلة بين ما هو سياسي وما هو إقليمي، على اعتبار أن الثمن المدفوع لذلك بخصوص الحريات الديموقراطية يفسح لهم في المجال أمام تجاوز حقيقة أن كل ما يشكلّ السياسة السورية منذ خمسين عاماً إنما هو الصراع العربي - الإسرائيلي، وهذه مفارقة كبيرة في مواقف أصحاب مشروع المجتمع المدني، فهم يتكلمون بلغة نظرية ويطالبون مطالبات سياسية ويلغون المحتوى الأعمق لما هو سياسي. كما ان ظروف تطور المجتمع السوري ساقطة من حساباتهم فهم يعتبرون انفسهم ناضجين بما يكفي لممارسة ديموقراطية على الطريقة الغربية، لكنهم لا يسألون انفسهم عن باقي فئات المجتمع الموزاييكي، وعن إمكان أن تتحول مؤسسات المجتمع المدني الى تعبير عن تلك الظواهر ما قبل الدولتية، وبدلاً من التقدم بالبلاد ترتكس بها، وهذا أمر شبه مؤكد لأنه ما لم تُحل مشكلات الانتماءات ما قبل القومية. عموماً، إن ما يحدث من حوارات ظاهرة صحية والاختلاف ضروري ولكن علينا ان ندرك انه اختلاف ثقافي - سياسي، وليس سياسياً وربما لن يكون سياسياً لأن اللغة النخبوية، والمحتوى النخبوي الإيديولوجي لهؤلاء ونصوصهم لن يجعل منهم ذوي قاعدة شعبية، لأن لغة السياسة اختلفت في مطلع القرن الواحد والعشرين، والناس تريد مصالحها الآن وليست متفرغة للإيديولوجية ولا لترف المناقشات ذات العمق الثقافي. ولهذا كنت ولا أزال أقول ليس للمثقفين اكثر من دور شاهد ومحلل وخبير. أما الدور الثوري الذي أُنيط بالمثقفين في الخمسينات والستينات ودور حامل الوعي الى الجماهير التي تنتظرنا! معبأةً فهو من ذكريات الماضي، ولن يستعاد، ولهذا كنت ولا زلت أطالب بمصالحة بين السلطة والمثقف على أساس أن تعطى الحرية للمثقف للقول وهذا ما يحدث الآن، وأن يتعلم المثقف من لغة الوقائع والمعطيات التي لدى السلطة، والهدف النهائي هو خدمة البلاد، وهنا نلاحظ أن السلطة قد بدأت بالمصالحة في الوقت الذي لا تزال لغة المثقفين لغة معارك وآسف أن أقول لغة دونكشوتية، ولهذا فإنني استغرب من هؤلاء أن دعوتي للمصالحة لم تستنفد حوارياتها، فهم قد اكتفوا بالتوهم أنها دعوة لاستنزاف المثقفين كعملاء للسلطة وتعبير عملاء هنا مستمد من التاريخ السابق للفهم السياسي التآمري البوليسي لدى المثقفين والثوريين. النموذج البولوني لقد تقدمت السلطة خطوات على المثقفين، وهذا ما يعني ان هؤلاء المثقفين لا يرون إلا انفسهم وهم إعادة إنتاج للاستبداد بالصورة الثقافية التي عُرفت في الخمسينات والستينات حتى نهاية القرن الماضي، إذ أن أحدهم اعتبر أن مثقف السلطة لا يستحق حتى لقب مثقف، وكأن لقب مثقف كلقب "باشا أو لورد" يمنحه ذلك المثقف الديموقراطي جداً للآخرين. المصيبة أنهم يطالبون بالديموقراطية ولم يتعلموا قبول الآخر، حتى أن بعض طروحاتهم فيه عدم قبول بالسلطة كلها، والآن خفّفوها لكنهم يطالبون بإلغاء حزب البعث، بمعنى أن هنالك مسعى لدى هؤلاء الى المشاركة في العمل السياسي، وهذا حقهم، ولكن عليهم أن يدركوا ان ميزان القوى، وهو أهم تعبير في السياسة، ليس لصالح إلغاء حكم البعث والإتيان بهم أو تبادل السلطة معهم وبهذا فهم ادعاؤهم أنهم ليسوا بطلاب مناصب فإنهم يتناقضون مع هذا الادعاء عندما يقولون إنهم يريدون أن يتحولوا الى حزب سياسي ويريدون مطالبة السلطة، بمعنى أنهم يريدون فعلاً مناصب ولكن ربما ليس في هذه الدولة إنما في دولة من صنعهم، وهذه مفارقة كبيرة. ونلاحظ أخيراً أن بعضهم الآخر قد اندمج في مؤسسات الدولة بما يعكس كأنهم كانوا يريدون فرص عمل تشعرهم بذواتهم وهذا امر طبيعي ويبدو ان حكمة الدولة تحتويهم. في الحقيقة أنا أتعاطف مع رغبة البعض بالعمل العام وإحباطهم من قاعدة أن "طالب الولاية لا يُولى" إذ يجب فعلياً دعوة الناس الى ممارسة العمل العام ومن موقع الوطنية والكفاية ومحاسبتهم على هذا الأساس، ولكن لا يجب عليهم ان يتوهموا إمكان تكرار النموذج البولوني في سورية ولذلك من عدم فهم السياسة المطالبة بإلغاء دور البعث الأساسي في الحكم بهذه النزعات الإرادوية والرومانسية بآن، إذ من الواضح ان هذه الدعوات لم تتعلم بعد السياسة. من حق الناس أن تتحاور، ومن حق الناس ان تطالب بنموذج سياسي أفضل والحقيقة أن كل ما يقدمه هؤلاء يدينون به عملياً ونظرياً للانفتاح الذي أعطاه الرئيس بشار الأسد لحرية الكلمة وتشجيعهم عليها، وأنا أتساءل دائماً أين كانت اصوات هؤلاء قبل ذلك في الوقت الذي كنا فيه كمثقفين مع الدولة وخط الرئيس بشار الأسد وإرث الرئيس حافظ الأسد نطرح الانتقادات تلو الانتقادات ونوجه النقد للفساد ونجرؤ على مواجهة الوقائع السلبية، في وقت كان الصمت يلفّهم، بمعنى أن تعالي صوت هؤلاء هو نتاج طبيعي لقناعة الرئيس الأسد بحق الناس في الكلام وليس نتيجة بطولاتهم الحقيقية. ومهما يكن من أمر فأنا على قناعة إن القول الحر من حقهم سواء كانوا أبطالاً أو غير ذلك ولا مناقشة في هذا الأمر، على أن لا يتم نبش إرث التجربة السياسية الكبيرة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد الى حدّ نحرها على مذبح آرائهم. لست على قناعة أن السلطة راضية أو مع هذا التوجه فهي ليست مع لكنها ليست ضد، وهي تنظر الى الأمر على ما يبدو على أنه وجهة نظر مثقفين، وتدعهم يقولون ويوقعون ليدعوها تعمل وصولاً الى التحديث والتغيير الذي يسير بإيقاع البرنامج الذي رسمه الرئيس والذي لا يُستفز بما يطلبه هؤلاء. إلا أن الخط الأحمر كما هو معروف العمل السرّي تحت الأرض والاتصال بالجهات الأجنبية، وبالتالي فمن حق هؤلاء أن يقولوا ما يشاؤون، ولكن وسائل الإعلام تأخذ هذا الأمر بمبالغة لأنها تعتبر أن هؤلاء يشكلون ضغطاً على النظام، وأن التغيير قد يأتي بسبب ضغطهم وأنهم كما يقول أحدهم يضغطون على الحرس القديم!! من أجل التغيير مع أنني على اقتناع أنهم هم الذين يمثلون أيضاً حرساً قديماً سياسياً وثقافياً لأنهم يعيدون الخطاب القديم بصورة متجددة. فهم لم يفتحوا حواراً مباشراً أو غير مباشر من موقع ان ما أطرحه هو عمل ثقافي، وهو اختلاف في السياسة فكيف سيقبلون بمن سيختلف معهم لو ولو حرف امتناع لامتناع تحقق لهم ما يريدون بتعددية سياسية. تجاوب السلطة أعتقد ان السلطة تنظر الى الموضوع برؤية واسعة وهي تتجاوب مع دعوات النفس الطويل واحتواء الرأي الآخر، وهي تدرك تماماً أن القوى المنظمة الوحيدة سياسياً هي حزب البعث بمليون وربع عضو والجيش بوطنيته وانضباطيته كقوة منظمة مع خطها السياسي لذلك فلا ضير على ما يبدو من عمل المثقفين الذي سينتهي برأيي الشخصي إما إلى إعادة إنتاج ثقافية لثقافة الستينات والسبعينات أو إلى مشاريع سياسية لا يبدو أنها مهيأة للتجانس والاستمرار. ولا يستحق الهيجان في الرد على طروحاتنا والذي أخذ أشكالاً من نسب ما لم نقله إلينا، وذلك في غلّ يذهب الى حد التساؤل: هل هي مشاريع لبناء الوطن ام لتصفية الحسابات... ليكن لكن احداً لا يمتلك الحقيقة والواقع أن هذه هي البداية. * كاتب سوري.