يحدث أن تشهد بيروت في أمسية واحدة أحداثاً فنيّة عدّة، لا يعرف المرء كيف يتوزّع عليها جميعاً. مساء أوّل من أمس كان صالح بركات يفتتح في غاليري"أجيال"معرضاً لأعمال الفنان السوداني محمد عمر خليل تجمع بين طقوس الفنّ"الزنجي"والمشاغل البصريّة اللصيقة بالتراث الاسلامي. وأعمال محمد خليل التي تعتمد تقنيات الكولاج، وتتخذ أشكالاً دائرية وغير مألوفة، وأطراً خشبية مستعارة من الاثاث القديم، تعكس انتماءً بصرياً صريحاً الى تقاليد الفنّ الغربي إذ يقف صاحبها على أرضية ليس بعيدة عن البوب الأميركي وأسئلته الراهنة، وأعمال روبرت روشنبرغ وأقرانه. وقبل أن تحتار كيف تنهي السهرة بين فيلم"الأرض"ليوسف شاهين الذي تحتفل نضال الأشقر هذه الأيّام بثمانينه في"مسرح المدينة"الأحد ذروة التظاهرة بحضور المخرج المصري الكبير، وأولى حفلات الجاز الشتائيّة لتي ينظمها كريم غطّاس في قاعة ال"ميوزيكهول"مع مينة أغوسي وعمر سوسا، لا بأس من الابتعاد قليلاً من بيروت إلى ضاحيتها القريبة، وتحديداً إلى حيّ الكرنتينا الصناعي، حيث أطلقت أندريه صفير - سملر فضاء يراهن على إيجاد سوق عربية، للفنّ المعاصر بمختلف أشكاله وتقنياته وقوالبه وتجلياته. افتتحت"غاليري صفير - سملر"معرضاً جماعياً تحت عنوان"حديث شو"، يستضيف قطعاً وعروضاً لعدد من الأسماء العالميّة البارزة في مجالات الفنّ المفهومي والفنون البصريّة، من المصوّرة الفرنسيّة صوفي كال إلى السينمائي والمسرحي والرسام الجنوب إفريقي ويليم كنتريدج، مروراً بثلاثة أسماء عربيّة لافتة هي الفلسطينيّة منى حاطوم، والمصري معتزّ ناصر الدين، واللبناني ربيع مروّة."حديث"- تشرح السيدة صفير التي تحتل موقعاً مهمّاً على خريطة الفنّ المعاصر في أوروبا، انطلاقاً في الغاليري التي تديرها في هامبور المانيا - احالة الى التقاليد الثقافيّة العربيّة القائمة على السرد والقصّ وفنّ الحكواتي. والرابط بين الأعمال المقدّمة، كونها نثار من قصص، حكايات بصريّة وحركيّة بالضوء والصورة والمواد التشكيلية المختلفة، يرويها علينا فنّانون معاصرون، وتختزل أجزاء من حكايتنا المعاصرة... محطات مختلفة في رحلة واحدة، ومتعددة في آن. في علبها الضوئيّة تسائل دانيال بويتي سويسرا العصر، بسماته واشاراته المتحوّلة. تستعمل الصور الفوتوغرافيّة وتقنيات الكولاج، لتخلق أعمالاً راهنة تعكس العلاقة بالمجتمع الاستهلاكي ووسائل الاعلام الجماهيريّة. ومن جهته يشتغل بيرت دو بول بلجيكا على المشهد حتّى الاختفاء، كأن همّه هو محو المشهد الذي يراه لحظة تمثّله. في لوحات زيتيّة على قماش، على علاقة ما بعيدة ب"ما فوق الواقعيّة"، تبدو التفاصيل ممحوّة، مشوّشة، مطموسة، كأنّها ذابت في هلام المادة... كأن عين الناظر يعتريها شيء من الوهن والضعف. ولما لا يكون العالم نفسه، صورة عن أصل، انعكاسات لأوهام وذكريات غير دقيقة... غير واقعيّة في نهاية المطاف؟ هذا العالم الوهمي، الخرافي، يتمثّله ويليم كنتريدج بطريقة أخرى في فيلمه الفيديو بالأبيض والأسود، وهو كناية عن شريط رسوم متحرّكة وموسيقى. شخصيات ومشاهد من واقع درج على رصده في افريقيا الجنوبيّة، هو المعروف بأعماله الراديكالية في كشف تجليات التمييز العنصري، خصوصاً في أعماله المسرحية مع"هندسبرينغ بابيت كومباني". ولعلّ المصوّرة الفرنسيّة صوفي كال، بتجربتها الفنية المتعرّجة والمفاجئة، تكاد تكون الأقرب إل موضوع المعرض البيروتي. كل مشاريعها وتجهيزاتها وعروضها محاولات لسرد حكايات متقطّعة، لرصد هشاشة الحياة الانسانيّة، ودور المصادفة في تحديد كثير من المواقف والتجارب. تروي في"غاليري صفير - سملر"حكاية بينيديكت فانسان التي كانت تعمل مضيفة في"مركز بومبيدو"الباريسي... وكانت مهتمّة جدّاً بمراقبة سلوك الناس كما كانت تكن اعجاباً سريّاً لأعمال سوفي كال... كانت بينيديكت أيضاً تمتهن فنّ التصوير. وآخر مرّة شوهدت تركض مذعورة ومصدومة في الشارع على مقربة من شقتها التي تلتهما النيران. كان ذلك سنة 2000. سمعت صوفي كال بالفتاة المختفية من خلال مقالة صحافيّة. وما كان من المصوّرة إلا أن ذهبت بين خرائب الشقّة المتكلّسة بحثاً عن بينيديكت، بصماتها وملامحها وأشيائها وصورها المحترقة... ويشارك في معرض"حديث"ثلاثة فنانين عرب، أبرزهم منى حاطوم التي تحتلّ تجهيزاتها وعروضها مكانة مرموقة عالمياً. وكانت القاهرة قدّمت لها تحيّة خاصة في الأسابيع الماضية. في بيروت تعرض حاطوم مجموعة أعمال منها"كل باب جدار"2003 وهو كناية عن ستارة شفافة طبعت عليها صورة مكبّرة لخبر نشرته"انترناشونال هيرالد تريبيون"عن متسللين حاولوا عبور الحدود بين الولاياتالمتحدة والمكسيك. تلك الحدود بين عالمين ومكانين وزمانين، وذلك العبور المستحيل... نقع عليهما في أبرز أعمال حاطوم أيّاً كانت التقنيات والمواد المستعملة. ونشير الى تلك الصورة العملاقة للفنّانة نفسها 204.5 x 305 سنتم، وعلى أنفها جندي اسرائيلي. اسم العمل هو مفتاحه: Over my dead body لن تعبروا إلا على جثتي - 1998. وهذه المحاولة للتعامل مع الشعار بحرفيّته، هي من التقنيات التي تطبع أسلوب الفنّانة وتجربتها. وينبغي التوقّف عند شريط فيديو لحاطوم في المعرض، بعنوان"قياس المسافة"1988. فهو أوّل تجهيزات الفنّانة، ومن هنا أهميّة عرضه في بيروت. يستند على رسائل التي استلمتها من أمّها، وقد عادت للقائها وتصويرها لحظة الاستحمام. ويقوم العمل على التلاعب بين مستويات عدّة ليقول المسافة، والحواجز، والعبور المستحيل : الرسائل تتحوّل سطورها العربيّة أسلاكاً شائكة وتمائم، وصورة الأم خلفها، في حالة يوميّة أليفة وحميمة، وصوت الفنانة تقرأ الرسائل بالانكليزيّة. لعبة المستويات أيضاً اعتمدها الفنّان المصري معتزّ ناصر الدين في تجهيز فيديو بعنوان"الصدى"2003 سبق أن عرض في بينالي الشارقة. الصدى انعكاس لفيلم يوسف شاهين الشهير"الأرض"1968 المأخوذ عن رواية معروفة بالعنوان لنفسه لعبد الرحمن الشرقاوي 1933، تحكي انتفاضة الفلاحين على السلطة الفاسدة والاقطاع الجائر. اقتطع ناصر الدين من الفيلم مشهداً شهيراً هو مونولوغ أبو سويلم الذي يعبّر عن قهر الشعب المصري ونفاد صبره... مشهد يتألّق فيه محمود المليجي على امتداد أربع دقائق ونصف الدقيقة هي من اللحظات الأسطوريّة التي تسكن ذاكرتنا الجماعيّة. على شاشة أولى يعرض الفنان السكندري الشاب المشهد، وعلى شاشة أخرى متعامدة 09 درجة يعرض المونولوغ نفسه كما أدّته الممثلة والحكواتيّة شيرين الأنصاري في مقهى شعبي في القاهرة وسط الزبائن العاديين. كلام شيرين يأتي متأخراً لحظة عن كلام المليجي، كأنّه صدى أزمنتنا الحديثة التي لم يطرأ عليها أي تغيير في انسحاق الشعب المصري منذ أيّام تصوير فيلم شاهين، بل منذ أيّام رواية الشرقاوي وأحداثها! السياسة لم تعد تحتلّ هنا، في عمل معتزّ ناصر الدين، شأنه في ذلك شأن منى حاطوم وربيع مروّة، مكاناً مواجهاً، علنياً، مباشراً. بل انّها تعود بشكل موارب من خلال التجربة الذاتيّة، والمعاناة الفرديّة، واللعبة الابداعيّة... التي هي غالباً لعبة احالات ومرايا ومراجع. ربيع مروّة في أوّل تجهيز له، بعنوان"حديث"بالاشتراك مع علي شرّي، يخوض هذه التجربة بطريقة فنيّة مدهشة. انطلاقاً من لحظة تراجيديّة، جنازة شهيد هو شخصيّة وطنية كبيرة، سيبني مجموعة أعمال متجاورة ومتقاطعة، تبقى"أنا"الفنّان مركز كلّ منها، لكنّها ترتبط من خلال العمل المحوري: فيديو الجنازة الهائلة في قلب بيروت... كما أعاد مروّة قراءته والتعليق عليه، على طريقته المعهودة، أي الدمج بين"الحقيقي"و"المزعوم". كل جزء احالة إلى عمل أو تجهيز أو برفورمانس سابق: قفزة إيف كلان الشهيرة في الفراغ 1960،"أحاديث"فيتو أكونتشي 1971 التي تجسّد نصفه السفلي على شكل جسد امرأة،"البورتريه الذاتي"لبروس نومن على شكل نافورة 1966 - 1967، وعمل لوليد رعد عرض في غاليري صفير قبل عام بعنوان"تخالجني رغبة عارمة في مواجهة الحشود مرّة أخرى"2005. يتمثّل ربيع مروّة تلك الأعمال.: يقفز على خلفيّة الحشود في الجنازة علبة ضوئيّة، يصوّر بورتريه ذاتي على شكل نافورة علبة ضوئيّة، وعلى خلفيّة الحشود نفسها، يبدو عارياً على شكل امرأة طباعة بالحبر على لوح مجسّم، يقف الزائر على مصطبة صغيرة وينظر من عيني ربيع فيرى لقطة مقرّبة لعينين تحدقان... تلك العين السحريّة ينتهي عليها الفيديو الذي يحيل الى عمل سابق له بعنوان"بالروح بالدم"2002. والفيديو هو العمل المحوري للتجهيز، يعطيه ديناميته ومعناه وترابط اجزائه. نسمع صوت ربيع يحاول البحث عن نفسه بين عشرات آلاف السائرين في جنازة زعيم وطني. يعلّق على الصور الوثائقيّة للجنازة، يقرّب ويؤخّر العدسة لكننا لا نرى سوى أشكال واهية."أنا مختلف عن الحشود... لكنني مثل الآخرين.... زخم واحد يجمعنا. فأي السائرين في الجنازة أنا؟ وحده الذي في النعش يختلف عن الآخرين". إنّها لعبة المواجهة بين الذات والجماعة، لعبة قياس المسافة تجاه الحدث، وفي الوقت نفسه لعبة الانخراط في الحدث الجارف. أي نظرة نقديّة تكون ممكنة لحظة انفلات البركان الجماعي الهادر؟.... لقد ذهب ربيع مروّة للقاء الحشود مرّة أخرى... مرّة أخيرة! .