مثلما أخطأت مراكز استطلاعات الرأي في تقدير نسب التأييد لقوائم"فتح"و"حماس"خلال الانتخابات البلدية الفلسطينية، كذلك أخطأت هذه المرة أيضاً في تقدير نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية هذا الأسبوع. في دورة الانتخابات البلدية، أظهر"مركز دراسات البحوث"في رام الله و"مركز التنمية التابع لجامعة بيرزيت"تفوقاً واضحاً لمصلحة"فتح"بحيث نالت نسبة تجاوزت الخمسين في المئة، في حين أُعطيت"حماس"نسبة لا تزيد على الثلاثين في المئة. ثم جاءت النتائج لتبيّن حقيقة الوضع، وإنما بشكل معكوس تماماً، وتثبت أن توقعات الصحف الإسرائيلية كانت أقرب الى الواقع. فإلى جانب نتائج التفوق التي حصلت عليها"حماس"، أعرب ايهود أولمرت عن تخوفه من أن يؤدي تراجع"فتح"الى فقدان سيطرتها على الأوضاع الأمنية، الأمر الذي يفرض على الحكومة الإسرائيلية اتخاذ قرارات منفردة. وهذا معناه العودة الى تطبيق نظرية شارون الذي أوكل الى الجيش مهمة فرض الأمن في المناطق الفلسطينية بعدما عجز الرئيس محمود عباس عن الوفاء بتعهداته. وكان من الطبيعي أن يطرح هذا التحول الملحوظ في مزاج الرأي العام الفلسطيني، العديد من الأسئلة المحيرة المتعلقة بالآثار السياسية التي ستحدثها هذه الانتخابات. ولقد حاول الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، بصفته المشرف على أكبر فريق من المراقبين الدوليين، استكشاف العوامل التي قادت الى حصول"حماس"على غالبية عدد الفائزين في المجلس التشريعي المؤلف من 132 عضواً. ويبدو أن الأيام القليلة التي أمضاها في الضفة الغربية لم تكن كافية للاحاطة بكامل التفاصيل السابقة، خصوصاً أن هذا التحول حصل عبر مراحل متقطعة طوال الفترة الممتدة من تاريخ انتخابات سنة 1996 حتى انتخابات هذا الأسبوع. والمؤكد أن المحاولات اليائسة التي أجراها الرئيس محمود عباس أبو مازن بهدف تأجيل موعد الانتخابات لم تخدم مرشحي حركة"فتح"لدى الغالبية الشعبية المحايدة. ذلك أنها اكتشفت في بعض الخطوات المريبة فداحة العجز السياسي الذي يعانيه الحزب الحاكم بعد اخفاقات متواصلة استمرت اثنتي عشرة سنة. ورأى المراقبون الأجانب أن الاقبال على اختيار ممثلي"حماس"لم يكن بدافع التأييد فقط، وإنما بدافع الانتقام من قيادات استغلت مناصب السلطة لتعمم الفساد داخل المؤسسات الرسمية. كما استغلت الدعم الشعبي سابقاً لتترجمه الى استئثار بالفوز بعيداً عن أي تنسيق أو مشاركة مع الشرائح الأخرى من المجتمع. وهكذا انتشرت الفوضى داخل مناطق الحكم الذاتي بطريقة غير مسبوقة تمثلت في الرغبة الجامحة لاتخاذ قرارات أحادية من دون اشراك أطراف أخرى. وعلى هذه الظاهرة يعلق رئيس المكتب السياسي ل"حماس"خالد مشعل بأن"حركة المقاومة الإسلامية"تنتقل الى مرحلة جديدة من دون حرج بهدف المشاركة في تعزيز الديموقراطية والابتعاد عن التفرد بالقرارات الخاصة بالمقاومة. وهو يرى أن السنوات العشر الماضية أفرزت نتائج سلبية بسبب استشراء الفساد وتراجع النهج الديموقراطي، وتعميم الفوضى وتجاوز الاصلاحات الحقيقية والابتعاد عن هموم المواطن الفلسطيني. على هذا القصور في تحقيق الاصلاحات المطلوبة ترد قيادة"فتح"بالقول إن المساعدات المالية التي تحصل عليها"حماس"من إيران ومن مصادر أخرى، هي التي توفر لها فرص القيام بخدمات اجتماعية أعانتها على زيادة شعبيتها. وتدعي هذه القيادة أن"حماس"أرسلت سنة 1992 وفداً الى طهران برئاسة موسى أبو مرزوق وعضوية إبراهيم غوشة بغرض تنسيق المواقف السياسية والحصول على مساعدات تؤمن مقاومة المشروع الصهيوني. ولقد قاد هذا التنسيق المتواصل - كما تزعم"فتح"- الى التشاور بشأن تبادل المعلومات وتدريب عناصر تابعة ل"حركة المقاومة الإسلامية"في إيران ولبنان. ويقول وزير المال المستقيل سلام فياض قائمة الطريق الثالث، إن الدول المانحة رفضت طلب السلطة الفلسطينية للحصول على مساعدات عاجلة لدعم موازنة سنة 2006. وتشير التقديرات الى أن العجز في الموازنة لهذه السنة يزيد على بليون دولار، بسبب التمويل المطلوب لصندوق الرعاية الاجتماعية ومخصصات البطالة وأسر الشهداء. يجمع القياديون داخل"فتح"على القول إن وفاة ياسر عرفات أربكت المنظمة وجردتها من قوة الانضباط التي كان يمثلها"الختيار"، الأمر الذي أدى الى تشرذم صفوفها. ولقد ساهم الرئيس محمود عباس بزيادة البلبلة عندما همش القادة الشباب في"فتح"، أولئك الذين يمثلون جيل التحدي، وقدم عليهم العائدين من تونس، أي الذين استمدوا سلطتهم من قربهم البيروقراطي من عرفات. وهذا ما أدى الى ظهور انشقاقات داخلية حالت دون توحيد القوائم الانتخابية. ومثل هذا الوضع المقلق قاد الى عقد تحالفات سرية بين عدد من شبان"فتح"وقيادة"حماس". وليس أدل على ظاهرة التشرذم"الفتحي"من الأمر الذي أصدره أبو مازن يحذر فيه رؤساء الأجهزة الأمنية من الدخول في قوائم المرشحين. ولكن الاعتراضات التي صدرت عن جبريل رجوب مستشار الرئاسة للأمن الوطني، ومحمد دحلان وزير الدولة السابق لشؤون الأمن، فرضت عليه التراجع عن قراره واصدار سلسلة استثناءات. وبسبب هذه الانقسامات اضطر البعض الى خوض الانتخابات بطريقة مستقلة وليس ضمن إطار قائمة التنظيم الرسمية. وهذا ما دفع بوزير المالية السابق سلام فياض الى تشكيل قائمة"الطريق الثالث". كذلك فعل الدكتور مصطفى البرغوثي الذي تحالف مع الجبهة الشعبية. والاثنان يمثلان التيار العلماني في فلسطين مثل أحمد سعدات الجبهة الشعبية وجميل مجدلاوي الجبهة الشعبية وحنان عشراوي. الصحف الاسرائيلية بدت متخوفة جداً من ردود فعل الأحزاب اليهودية الدينية بسبب الانتصار الساحق الذي حققته"حماس"، ومن انعكاس آثاره السياسية على حكومة ايهود أولمرت. وتساءلت جريدة"هآرتس"في افتتاحيتها عن الأسباب العميقة التي أخرجت هذا التيار الديني من القمقم، وما إذا كان إحجام شارون عن قبول محمود عباس شريكاً مفاوضاً ساعد على فوز منافسيه المطالبين بإزالة اسرائيل؟! كما تساءلت ايضاً عما إذا كان قرار شارون بالانسحاب من غزة قد أعطى الانطباع بأن الصواريخ والعمليات الانتحارية والانتفاضة الثانية كلها ساهمت في اخراج القوات الاسرائيلية من القطاع المحتل منذ 1967. ويذكر تقرير منظمة"بتسليم"لحقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية، ان قوات الاحتلال قتلت 3.376 فلسطينياً منذ اندلاع انتفاضة الأقصى 28-10-2000. اضافة الى عوامل القتل الجماعي، فإن السلطة الفلسطينية تتحمل مسؤولية كبيرة لكونها وقعت على شروط اتفاق أوسلو، ولكنها عجزت عن منع شارون من ضم مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية بهدف انشاء جدار الفصل 681 كلم. وأكد أحد مرشحي"حماس"في نشرته الانتخابية ان سلطات الاحتلال تقيم 27 حاجزاً عسكرياً ثابتاً في أعماق الضفة و26 حاجزاً على الحدود الفاصلة بين اسرائيل والضفة و16 حاجزاً متحركاً يجري تثبيتها في أوقات مختلفة. وبعد أن وصف المرشح الضفة بالسجن الكبير، ذكر ان اسرائيل تحتجز في معسكراتها 750 أسيراً إدارياً لم تقدمهم الى المحاكمة ولم توجه اليهم اتهامات. عندما انتقل ياسر عرفات من تونس الى الضفة الغربية أجرى محادثات سرية مع قادة"حماس"اعترف خلالها بأنه كان عضواً في جماعة"الاخوان المسلمين"، وانه ليس بعيداً عن نهج الشيخ أحمد ياسين. ثم عرض عليهم في الانتخابات المشاركة بحصة لا تزيد على الخمسة في المئة. وحصل الاختلاف لأن"حماس"قدرت شعبيتها بنسبة تزيد على الأربعين في المئة. وعندما رفضت"حماس"المشاركة في انتخابات 1996 لم يخف أبو عمار أمام الوزراء ترحيبه بهذه الخطوة. ولكن انتخابات البلدية أعطت الفرصة ل"حماس"كي تظهر قوتها الشعبية فإذا بها تحصل على 65 في المئة مكتسحة المدن الكبرى مثل نابلس وجنين وقلقيلية والبيرة وبيت حانون ودير البلح ورفح. أثناء الحملة الانتخابية لهذه الدورة بدأ مرشحو"حماس"يتحدثون عن احتمال مشاركتهم في الحكومة كمراقبين أو كوزراء دولة من دون حقائب أو كوزراء تربية وتعليم وشؤون اجتماعية بحيث لا يضطرون الى اقامة اتصال مع اسرائيل. ولكن الفوز الساحق الذي حققوه بنسبة برلمانية طاغية حررتهم من تشكيل حكومة ائتلافية مع"فتح". خصوصاً أن قادة"فتح"أعربوا فور اعلان النتائج، عن نيتهم في تكوين حزب المعارضة والاعتذار عن المشاركة في الحكومة. وكان صائب عريقات أول من أعلن هذا الموقف عقب تقديم استقالة حكومة أحمد قريع. وبرر عريقات هذا القرار الجماعي بأن"فتح"ستبادر الى مراجعة الأخطاء التي ارتكبتها، اضافة الى اجراء تنظيم شامل لكوادرها التي تعبت من النضال والسلطة مدة تزيد على الأربعين سنة. من أجل تطبيق شعار"التغيير والاصلاح"تبدو قيادة"حماس"وكأنها مضطرة بعد اليوم لأن تتصرف بمنطق الدولة لا بمنطق الثورة. خصوصاً ان تشكيل الحكومة سيجعلها مسؤولة عن تأمين أجور موظفي الدولة وعن توفير المال للخدمات الاجتماعية والطبية. كما يجعلها مسؤولة عن تأمين ميزانية السلطة وتغطية عجز وصل آخر السنة الى البليون دولار. كل هذا سيتم في ظل مقاطعة اميركية - أوروبية سوف تظل تضغط بشأن الاعتراف باسرائيل، مع التهديد بوقف مصادر الدول المانحة. وفي أول تعليق له على الانقلاب الشعبي في الضفة وغزة، قال ايهود أولمرت ان حكومته في حل من كل التزاماتها السابقة، وان شعارات"حماس"تعفيها من التفاوض والتسوية الاقليمية والحلول المتعلقة بمستقبل القدس واللاجئين. رئيس المكتب السياسي ل"حماس"خالد مشعل قال ل"الحياة"في مقابلة أجريت معه خلال زيارته الأخيرة لطهران:"ان ثوابتنا واضحة تعبر عنها ثلاث لاءات... لا اعتراف بشرعية الكيان الصهيوني على أرضنا، لا تنازل عن أي جزء من حقنا، لا تراجع عن خيار المقاومة باعتباره الطريق الاستراتيجي لتحرير فلسطين واستعادة الحقوق". ويرى مشعل ان أوسلو سقطت كمرجعية يحتكم اليها لأن اسرائيل دمرتها، ولذلك فهو يرى"حماس"تدخل الى القضية بعد بلورة موقف مشترك وبرنامج سياسي توافق عليه كل شرائح المجتمع. الدول العربية المنفتحة على اسرائيل - وفي طليعتها مصر والأردن - حذرت واشنطن من ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية وعسكرية مخافة أن يتحول المجتمع الفلسطيني الى مجتمع شبيه بالجزائر بعد انكار نتائج انتخابات 1989، أي مجتمع ساخط يدافع عن حقوقه بالقتل الجماعي. وترى القاهرة وعمان أن فوز حركة المقاومة الاسلامية في غزة يمهد للتنسيق مع"الاخوان المسلمين"الذين حصلوا على 34 مقعداً في البرلمان المصري. خصوصاً أن جذور"حماس"في فلسطين ولدت من رحم الاخوان المصريين بقيادة حسن البنا وحسن الهضيبي. في حين رحبت ايران بفوز حركة طالما ساندتها وساعدتها مادياً ومعنوياً وعسكرياً، ثم التقت معها في نهاية الأمر على حل مشترك أعلنه الرئيس أحمدي نجاد بضرورة الغاء دولة اليهود. بقي السؤال المتعلق بأداء جمهورية"حماس"، وما اذا كان بمقدورها تقليد"حزب الله"، أي المحافظة على نهج الكفاح المسلح والدخول في لعبة الحكم عبر البرلمان والحكومة. ومعنى هذا انها مضطرة للقيام بدور الثورة والدولة في وقت واحد، علماً أنها تمثل سلطة لا أرض عندها ولا دولة ولا شرعية سوى شرعية الناخبين! * كاتب وصحافي لبناني.