محافظ الطائف يقدم التعازي لرئيس نادي عكاظ    1.3 مليون خريطة مصححة..الحماد: المنظومة العقارية السعودية يحتذى بها عالميا    رؤية 2030.. عالمية    مخطط المملكة العربية السعودية لنجاح الفعاليات العالمية    قهوة بنكهة الطبيعة    تحديث ضوابط الإعفاء الجمركي للبضائع المعادة    إصدار 1350 سجلا تجاريا يوميا    نقل مواطن تعرض لوعكة في طرابزون    كشافة المملكة يستكشفون الفضاء بزيارة "ناسا الأمريكية"    مراهقة تصادف توأمها على «تيك توك»    أداة ب «يوتيوب» تزيل الموسيقى المحمية    المملكة تنفذ عملية إسقاط جوي لمساعدات غذائية على غزة بالتعاون مع الأردن    الفريق السعودي "Team Falcons" يحقق لقب أولى بطولات كأس العالم للرياضات الإلكترونية    في الهلال.. (ركود) أو (ركادة)؟!    المنتخب السعودي يحقق بطولة الديار العربية    اتحاد القدم يعلن رحيل سعد الشهري عن تدريب المنتخب الأولمبي    كانتي لا يعرف الهزيمة مع (الديوك)    دي بروين يوافق على الانتقال ل" الاتحاد"    نيفيش: رونالدو وبيبي يستحقان نهاية أفضل    ضبط (16565) مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    حرس الحدود بمنطقة مكة المكرمة ينقذ 5 مواطنين تعطل قاربهم في عرض البحر    "بصمات" بجامعة الملك فيصل يحتضن 120 موهوبًا    براعم التراث    في اليوم الأول.. ثلاث أمسيات تثري فعاليات ملتقى الشعر الخليجي 2024    ضيوف الرحمن يعيشون روحانية المسجد النبوي    تطوير حبات أرز بنكهة اللحم    المجلس الصحي يطلق تحذيرًا جديدًا.. مختصون ل(البلاد): المشروبات «المحلاة» خطر على الإطفال    يورو 2024.. بركلات الترجيح إنجلترا إلى نصف النهائي على حساب سويسرا    جمعية الدلم والشراكة المجتمعية    ملتقى «المونودراما والديودراما» يختم فعالياته في «فنون الدمام»    رئيس الكشافة الإسلامية الأميركية: جهود المملكة عظيمة لخدمة الحجاج    حج 2024 يُسر وطمأنينة    مسعود بزشكيان يفوز بالانتخابات الرئاسية الإيرانية    بايدن يصر: أنا المؤهل للرئاسة وسأهزم ترمب    وكيل محافظة وادي الدواسر يُكرّم كشافة الحج    السند يطلع على منجزات "الأمر بالمعروف" في موسم الحج    فيصل بن مشعل يبارك لجمعية الإسكان «أفضل أداء خيري»    محافظ الطائف يقدم التعازي لرئيس نادي عكاظ    المتاحف الخاصة بالشمالية توثق تاريخ المنطقة    38 حديقة ومتنزها بعرعر تستقبل الأهالي    مسنو جازان يكافحون الأمية بالإرادة والتعلم    ضبط شخصين بالمدينة لترويجهما 75 ألف قرص إمفيتامين    سنتخذ القرارات الصعبة سريعاً.. رئيس الوزراء البريطاني: الأولوية للدفاع والأمن    كم مرحلة تمر على صناعة كسوة الكعبة المشرفة؟    "محو الأمية".. التعليم مدى الحياة    دراسة تؤكّد ارتباط التدخين بالخرف    جمعية أمراض الكبد تعيّن الشقراني رئيساً لقسم الأطفال    قصيدة للشاعرة هيا الكثيري «نفح»    حريق جبلي يغلق عقبة الباحة    تنظم حفل تكريم للأيتام بمشاركة واسعة من المجتمع المحلي    أكثر من 15 ألف مستفيد من برامج "هداية" بالخبر في يونيو    اصدقاء البيئة والجمعية السعودية للإعاقة السمعية توقعان إتفاقية تعاون مشتركة    النائب العامّ يبحث تعزيز التعاون القانوني مع الصين    «الأحوال المدنية»: أمرٌ سامٍ بمنح الجنسية السعودية ل«محمد العنزي»    أمر ملكي: للوزير رفع طلب تحديد من يحلّ محلّه من نوابه.. والاتفاق معه على الصلاحيات    أمير القصيم يبارك حصول جميعة الإسكان الأهلية بالقصيم على جائزة الأمير محمد بن فهد    محافظ بيش يتابع تحسين المشهد الحضري لطريق الملك عبدالعزيز    محافظ بيش يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية الفرعية بالمحافظة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش للكتابة - النزعة الماضوية
نشر في الحياة يوم 07 - 09 - 2005

لا تزال هذه النزعة من أهم المكونات التي ينبني عليها الفكر الاتِّباعي والثقافة الاتباعية، ومن أهم الخصائص التي يتأسس بها خطاب التعصب ويعتمد عليها، وهي جزء لا يتجزأ من خطاب الإرهاب المتوعد في أصوله الفكرية وممارسات خطابه التي تميل إلى العنف والتدمير، خصوصاً بما تنطوي عليه من استئصال المختلف وإقصاء المغاير. وإذا كانت الثقافة العربية السائدة هي ثقافة اتِّباع وتقليد بالدرجة الأولى، في مدى هيمنتها وغلبتها على أشكال الوعي الجمعي، فإن النزعة الماضوية لا تفارق مركزها الدافعي في هذه الثقافة، وتتحول إلى عنصر تكويني مهيمن، له حضوره الكلي، وتأثيره الشمولي الذي ينسرب في كل الأشكال والأنماط الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية.
وابتداء، فإن النزعة الماضوية هي الخاصية الأساسية للوعي الذي ينغلق على ماضيه، ويحيله - جزئياً، أو كلياً - إلى إطار مرجعي أوحد للحكم أو القيمة في السلوك والأفعال، وذلك على نحو تبدو معه تحركات هذا الوعي وأفعاله دائرة في مدار من الجاذبية التي لا تفارق مركزاً بعينه في الماضي. ولا مدار لمدركات الوعي خارج هذه الجاذبية التي تشد أفعاله وتحركاته وأحكامه إلى المركز الثابت، المهيمن، الذي يمكن أن تتغير تجلياته أو آثاره أو حتى قوة أو ضعف جذبه، ولكنه يظل - في علاقته بما يتحرك في مداره - أشبه بحجر المغناطيس الذي يجذب إليه كل ما يقبل التمغنط، أو يجانس العنصر الجاذب في ثباته وهيمنته. ولذلك، فإن الوعي الذي ينتج النزعة الماضية، أو تنتجه، هو وعي يتحرك في دائرة من التقليد التي يرتد فيها كل لاحق إلى سابق، يكون له بمثابة الأصل المقاس عليه في كل الأحوال، والمرجع المشار إليه في كل الأوقات، وذلك بصفته - أي الأصل - نقطة العودة المتكررة في عملية من المحاكاة التي لا يكتمل معنى التقليد إلا بها، خصوصاً في المدى الذي يغدو به ما مضى نقطة العود المتكررة التي تجعل من كل لاحق صورة مرآوية لأصل سابق، واستنساخاً له في إجماله أو تفصيله، وبما يقرن قيمة الصور اللاحقة دوماً بمدى تشابهها أو اختلافها عن الأصل الذي تغدو أوضاع التطابق أو عدم التطابق معه درجات في سلم القيمة المثبتة إيجاباً، أو المنفية سلباً، القيمة التي ترد الفرع على أصله، واللاحق على سابقه، والصورة على مصدرها، فتثبت الإيجاب الكامل في الحكم بالمشابهة التي تدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد، وتثبت السلب بدرجاته في الحكم بالاختلاف الذي يباعد بين الطرفين بأكثر من حال.
ولا يقتصر"التقليد"على المعنى الزمني للتعاقب الذي يتبع فيه كل لاحق سابق عليه في الزمان، وإنما يجاوزه إلى معنى الرتبة والمكانة الذي يغدو به كل سابق أفضل من كل لاحق بالضرورة، أو يغدو به كل لاحق محاولة تتحدد قيمتها بمدى القرب أو البعد عن السابق الذي يظل الأمكن في الحكم بالقيمة والكمال والجاذبية. وبقدر ما يسقط معنى السبق في الوجود والرتبة ظلاله على علاقة اللاحق بالسابق، في مدى القيمة المثبتة أو المنفية، فإن هذا الإسقاط ينتقل بسبق الوجود من علاقة التعاقب إلى علاقة التتابع، ويراوح بينهما، وذلك في مدى الحركة التي تشبه حركة خط الدائرة الذي يبدأ من نقطة بعينها ليعود إليها، ولكن بعد أن يكررها في حركة اتجاهه الذي يحن أبداً إلى مبتداه الأسبق في الوجود والرتبة.
وپ"التقليد"- من هذا المنظور - علامة على وعي ينطوي على حال معرفي خاص به. أقصد إلى حال من معرفة الإجابات المحسومة ابتداء، المدركة سلفاً، المتكررة أبداً، تماماً كالأسئلة التي تنتج منها الإجابات نفسها، والإجابات التي يتكرر فحواها بلا تغيير جذري، فهي معرفة نهايات مغلقة، ما ظلت عوداً على بدء ثابت، وحيدة الاتجاه، أشبه وجودياً أنطولوجياً بالمظهر الذي تحدث عنه أفلاطون في رمزية الكهف التي تقود - أو ترجع - مظاهرها البادية للأعين إلى جواهرها المتعالية التي لا تراها الأعين، لكن التي هي الأصل وراء الصور الظلال التي تراها الأعين أو تدركها الحواس.
ولا يخالف معنى التقليد دلالة المحاكاة السلبية في هذا الحال المعرفي الذي لا يخلو من أبعاد ميتافيزيقية، إلى جانب أبعاده الأنطولوجية، والذي يجعل العلاقة بين اللاحق والسابق أشبه بعلاقة المرآة بما تعكسه من غير أن يكون لها دور فاعل حقيقي في صنعه أو تكوينه أو تشكيله، فاللاحق يتقبّل ما يتنزل عليه، أو ينعكس على مرآة وعيه، ليعيد إنتاجه في عملية المحاكاة التي هي تقليد لا يفارق دلالته السلبية. وكما يحدث على سطح المرآة، يأخذ اللاحق عن السابق ما لا يغير جوهره، وإن أحدث تغييراً في مظهره أو مظاهره، وينقله إلى الآخرين الذين يقومون بالفعل نفسه في تكرار لا نهائي، أشبه بتكرار الصور في المرايا المتوازية، حيث تعيد كل مرآة الصور المنعكسة على نظائرها الموازية إلى ما لا نهاية.
ولا يفارق معنى"النقل"الدلالة التي تصل بين التقليد والمحاكاة، في مدى الترادف الذي يجعل من كل"نقل"يؤديه اللاحق توسطاً بلا فاعلية، في عملية استقبال تتحول إلى عملية إرسال، فالناقل اللاحق كالمقلِّد والمحاكي، يقوم بأداء عملية لا فعل له فيها على سبيل الحقيقة، أو في مدى الجواهر التي لا تتغير، حتى وإن تغيرت مظاهرها بالتكاثر أو التعاقب أو التتابع الدائري الذي لا يتناهى، ما ظل التوسط السلبي ملازماً لأفعال الفاعلين: المحاكين، المقلدين، النقلة الذين يؤدون أدوار الفاعل والمنفعل والمفعول به في المدار المغلق للنزعة الماضوية.
والثقافة الماضوية ثقافة تقليدية، نقلية، من هذا المنظور الذي لا معنى معه لتعاقب الزمن في الحركة الدائرية التي تحيل التعاقب إلى تتابع أبدي، وذلك في مدى الدلالة التي يتوقف بها وفيها الزمن خارج المدار المغلق للتكرار، نافية إمكان التراكم الذي يتحول إلى تغير كيفي، مناقضة صراع الأضداد الذي تتقدم به الحركة إلى الأمام، دوماً، عبر الزمن الذي يظل ساحة مفتوحة الإمكانات لصراع العناصر وتفاعلها. ولا تفارق هذه الدلالة إلغاء حضور دوال التقدم، أو التطور، أو الصعود في مدارج أحدهما أو كليهما. وأياً كان اتجاه الحركة الدائرة التي تعود إلى مبتدأها الذي تكرره، في كل نقطة من امتدادها العائد إليه، من منظور النزعة الماضوية، فإننا نتحدث عن وضع من الارتداد الأبدي الذي لا يصعد بالزمن، أو في الزمن، ولا يتقدم به أو فيه، بل يعود به وفيه القهقرى، أو يهبط به إلى وضع أدنى متكرر، خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا أن كل أقدم سابق في الوجود والرتبة بالقياس إلى كل ما هو أحدث.
ولا أعرف على وجه اليقين هل الخط المنحدر الذي تقع عليه دلالة"الأحدث"ينعكس على معناه، فيصمه بالسلب في هذا السياق أم لا؟! لكن المؤكد أن دال"الأحدث"- خصوصاً في اقترانه بدلالة"الحداثة"- يعود إلى معنى لغوي شائه، ودلالة اجتماعية وثقافية ودينية سلبية مرفوضة، فالحداثة التي ينتسب إليها الأحدث في الوجود والرتبة لا تفارق المعنى المنفّر لاقتراف الفعل الكريه الذي يستفز الجماعة، وينتهك أعرافها، فيستحق النبذ والرفض، ويثير الخوف منه، أو - على الأقل - الريبة فيه، وذلك بما يستلزم الهجوم عليه، والسعي إلى استئصاله، إقراراً للقاعدة الاجتماعية، وحفاظاً على الأنساق الثابتة ثقافياً واجتماعياً ودينياً.
وفي لسان العرب أن"الحدث"هو الأمر المنكر الذي ليس معتاداً ولا معروفاً، وهو قرين البدعة التي تقترن بالضلالة الدينية بكل أحوالها، ومن ثم بالنار، فالبدعة هي الفعل الذي لم يكن فابتدع، كالمحدث الذي لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنّة ولا إجماع، والغالب أن البدعة كالمحدث تصادم السلف بالمخالفة، ومن ثم تخالف الشريعة التي لا بد من إيقاع الاتحاد بينها والسلف، تقديساً لمبدأ الاتباع الذي يقول ممثلهم ابن قتيبة - في القرن الثالث للهجرة -:"قف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا". وقد كان جمهور السلف يكرهون المخالفة بوجه عام، في ما يقول ممثلو النزعة الماضوية في تأويلاتهم الدينية، وينفرون من كل مبتدع، وإن كان جائزاً، حفاظاً على الأصل الذي هو الاتِّباع، فيما يجزم ابن تيمية في كتابه"تلبيس إبليس".
ولا تفارق عبارة"الحفاظ على الأصل"دلالة الإجماع في كلام ابن تيمية، وفي المنحى الغالب على النزعة الماضوية بلوازمها الثلاثة، الاتِّباع والتقليد والنقل، حيث معنى المحاكاة والتكرار يترجع في دلالات كل لازم من الثلاثة. وإذا كانت النزعة الماضوية تنبني على أساس مكين من مبدأ العودة إلى أصل أقدم، ثابت، سابق في الوجود والرتبة، فإن هذا الأساس يفرض في حضوره الدلالي الغالب ما يصل الإجماع بالتراتب. والثاني قرين السبق في الوجود والرتبة، بما يجعل الأقدم في المكانة الأعلى بالقياس إلى كل أحدث، وذلك في كل أمر أو فعل أو مجال، تنسرب إليه اللوازم الدلالية لهيمنة الزمن المتعاقب الذي ترد أواخره على أوائله. وهو وضع يعني تفضيل الأكبر سناً على الإطلاق في الأعراف الاجتماعية والعمليات الثقافية، بالقياس إلى الأصغر سناً الذي هو الأدنى علماً وعقلاً ومكانة. ويعني تفضيل الأكبر سناً إقامة اتحاد تخييلي بينه والحكمة التي لا بد من أن يهتدي بها الأصغر سناً من الشبان الذين لا يصلون - مهما فعلوا أو اجتهدوا - إلى حكمة الأكبر سناً، وهي الحكمة المقترنة بمكانة"العَوْد". وهو المسنّ من الإبل، وسيّد القوم الذي لا يخلو حضوره وتبجيله من معنى"البطريركية"التي حللها باقتدار هشام شرابي في كتابه المعروف.
أما الإجماع فهو مقرون بحركة العود الأبدي إلى نقطة أقدم في الزمن، وذلك بما ينفي احتمالات الجدة، ويؤكد الدلالة المترجعة من التكرار والثبات. وقبل ذلك، الاتِّباع الذي لا بد من أن يشمل جميع الفاعلين والمنفعلين، داخل المدار المغلق للنزعة الماضوية. أقصد إلى المدار الذي ينفي عنه كل من يخرج عليه، ولا يقبل في داخله إلا كل من مضى في مساره المحتوم، أي كل من وقف، ويقف، حيث وقف القوم، السابقون في الزمن، أو الوجود والرتبة، وقال، أو يقول، بما قالوا، وامتنع ماضياً، ويمتنع حاضراً ومستقبلاً، عن كل ما امتنعوا أو كفّوا عنه.
والنتيجة المنطقية لذلك هي النفور من الجديد، والتغير، وذلك بكل ما يقترنان به من عمليات تحديث أو تطوير أو تغيير أو حتى إصلاح، فالأصل هو الوضع الثابت المجمع عليه، خصوصاً في اقترانه بأنساق ثبتت فجمدت، وأعراف استقرت فتكلَّست، وعادات اتُّبِعَتْ إلى أن تحجرت. وكل تجديد أو تغيير أو تحديث هو تهديد للأنساق القائمة والعادات المتقادمة والأعراف المتحجرة، ولا سبيل لإبقاء هذه الأنساق والعادات والأعراف على ما هي عليه إلا بإقصاء كل ما يخالفها، أو يختلف عنها، واستئصال كل ما يخرج عليها، ويهدد حضورها الجامد واستمرارها الساكن. والعنف الذي يُقَاوَمُ به الجديد هو العنف نفسه الذي تُقَاوَمُ به أية محاولة للتغيير، وهو عنف يهدف إلى الإبقاء على ما هو قائم واستئصال كل ما ينطوي على تهديد للقائم الثابت المتكرر الذي لا يمكن رفضه، أو وضعه موضع المساءلة، أو انتهاكه بالتغيير في مدى تقاليده الراسخة.
وبالطبع، ينسرب تقديس الماضي إلى التراث الذي يغدو ماضياً مقدساً بدوره، وذلك بالمعنى الذي يفرض به التراث حضوره المهيمن في كل المجالات التي لا ترى استمراراً موجباً لحضورها إلا ببعثه أو إحيائه، خصوصاً في لحظات ازدهاره التي هي لحظات متأولة في آخر الأمر. أعني أنها لحظات تستجيب عملية تخيلها إلى الدوافع المحركة لها والمتحركة بها في وعي المجموعة الاجتماعية التي تقع في شراك تقديس الماضي. والخلط بين المقدس وغير المقدس أو التبادل بين الديني والدنيوي، احتمال قائم في هذا النوع من الاستجابة، يسقط مكانة الطرف الأول على الثاني الذي يغدو إياه بعملية تأويل أو تخييل. وهي عملية تنقل صفات القداسة من الديني إلى الدنيوي، ومن الديني إلى التراثي، وذلك بالمعنى الذي تتبادل به الأطراف الموضع والمكانة، ويسمح بأن ينوب طرف عن طرف، أو يحل محله، كأنه إياه. والنتيجة هي تقلص الوعي النقدي، وانسحابه، تاركاً فراغه لوعي سلبي، إذعاني، سواء في النظر إلى التراث، أو التعامل معه، أو العود إليه والقياس عليه، بوصفه الأكمل الأسبق في الوجود والرتبة. والنتيجة هي فرض قبول التراث وتقديسه في كل أزمنته، ومن ثم التسوية بين كل لحظاته وحالاته، أو - على الأقل - جعل كل حال أصلاً لما يماثلها بالقياس عليها فيما هو حاضر أو آت.
وعندما يغدو التراث التجسيد العملي للماضي الذي يعيره قداسته، في مدى المماثلة التي تتبادل بها الأمكنة والصفات، ينفرد التراث بالقيمة التي تفرض نفسها على كاهل الحاضر، وتثقل عليه، وذلك بمعنى يجعل من كل حركة مستقبلية حركة ماضوية. فمستقبل الأمة التي يسيطر عليها تقديس الماضي وراءها وليس أمامها. وهو عود على بدء مفترض، أو مُتخيَّل، يظل في حال من التأويل المستمر، ليضفي صفة الشرعية على"بدع الهداية"المقاسة عليه، وينفي هذه الصفة عن"بدع الضلالة"المخالفة له.
وعندما يغدو ذلك وضعاً فكرياً مهيمناً على الوعي الجمعي لأمة من الأمم، خصوصاً التي تتهوس بتراثها وتقديسها لماضيها، يختفي التفكير المستقبلي المغاير لفكر الحاضر أو الماضي، ويتقلص حضوره تحت وطأة طوارد قمعية عدة، مباشرة وغير مباشرة. والنتيجة هي ما نراه حولنا، على امتداد أوطاننا العربية السعيدة، من معارض كتب، تتراكم وتتكدس وتتصدر فيها كتب التراث، وتفرض حضورها المهيمن بنسب مئوية طاغية، نسب هي، في ذاتها، دلالة على تقلص كتب المستقبل، أو التفكير في مستقبل مغاير، ودلالة على توجه الوعي الثقافي الجمعي المجاوز للفرد، تحت وطأة هذه النزعة إلى تقليص كتب المستقبل، وإزاحتها من الصدارة، وتهميشها أو التعتيم عليها أو إقصائها، وذلك بما يحفظ على الغالبية التي تنطوي على هذا الوعي صفاء النظرة التي لا ترى إلا بأعين تراثية، وخلال عدسات ماضٍ يسقط نفسه على حركة الحاضر والمستقبل، فلا يبقى غيره وجوداً واحداً، مهيمناً، وحضوراً أبدياً مطلقاً.
ولا يخلو هذا البعد الأخير من دلالة التعصب التي هي عنصر تكويني متأصل في النزعة الماضوية، فالماضي السابق في الوجود والرتبة يغدو أكمل من غيره وأفضل. ولذلك يقترن تراثه بأفعل التفضيل الذي يرفع من مكانة تراث الماضي الذي تنسرب إليه العصبية التي تجعل منه أفضل - على الإطلاق - من كل تراث مغاير، ورَدِّ دلالة التفضيل على الأمة التي لا بد من أن تكون أفضل من غيرها، مثل تراثها الذي هو أفضل من كل تراث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.