قبل عقدين، في قريتنا الواقعة على أطراف مدينة كفر الدوار الصناعية في شمال مصر، وصل قريب لي إلى الصف السادس الابتدائي، رسب لسنتين دراسيتين ليتبين بعدها أنه غير قادر على الكتابة. ظننتُ ان المشكلة فردية حتى عام 96 حين أخذني عملي كباحث ميداني إلى بعض قرى محافظة المنوفية لتقويم جهود محو الامية التي ما زالت مشكلةً قومية مصرية. فرد فعل الأهالي على مشروعنا كان مزيجاً السخرية والمرارة: ما شأنكم وأمية الكبار, والصغار لا يتلقون من التعليم الا أقله؟ هناك أخبرتُ أن قانوناً يجبرُ المدرسةَ على نقل الطالب ناجحاً أو راسباً للصف الاعلى ان امضى في أي صف أكثر من عامين. في الثمانينات وصل قريبي الى الصف السادس وهو يكاد لا يخطُ حرفاً، وعام 1996 كانت فترة التعليم الالزامي قد مُددت إلى الصف الثالث الاعدادي التاسع وكثير من الطلبة في جهل ابن عمي. ليس هناك ما يشيرُ إلى تحسن الوضع. قبل أيام علمتُ من قريتنا أن معظم طلبة الصف الثالث الاعدادي التاسع الالزامي في مدرسةٍ قريبة رسبوا. ترى أنلومُ الطلبة المنقولين الى صفوفٍ أعلى على جهلهم أم المدرس الذي لا يكاد يجد قوته أم أهالي التلاميذ الذين يصارعون بطالة متزايدة وفقراً يزدادُ توحشاً؟ كفر الدوار تختصرُ مآسي الملايين في مصر كما تمثلُ عقوداً من التاريخ. في الثمانينات نفسها التي رسب فيها قريبي كنت أسمعُ أبناء عمومتي يناقشون وظائفهم بمصانع الغزل والنسيج الضخمة المملوكة للدولة. اذكر جيداً حديثهم عما تحققه هذه المصانع من خسائر في معرض حديثهم عما يتقاضون من"أرباح"و"حوافز"و"مكافآت."من أين أتت الأرباح في المصانع التي كانت تخسر؟ اللهُ وحده يعلم. لكنهم كانوا دوما على يقينٍ من أمان ارزاقهم. لم يروا في موقفهم إثماً: مَن الملومُ على خلقِ وظيفةٍ لا داعي لها، وظيفةٌ هي كلفة بلا مردود، من وفرّها أم من قبلها وأسس حياته على أمانها المزعوم؟ كذلك لنا أن نسأل من المسؤولُ عن تلامذة يقضون تسع سنوات أو يزيد في التعليم ثم لا يستطيعون الا الرسوب؟. في التسعينات هب التغييرُ من أكثر من جهة. في أواخر هذا العقد انقلبت شركات القطاع العام في كفر الدوار من التوظيف الى تسريح ما لديها من عمال. اعتٌمدت سياسة استبدال المعاش كمحفزٍ للتقاعدِ المبكر، وهذه قضت باستلام العامل لمكافأة نهاية خدمة مقابل التقاعد المبكر، لكنها كذلك قضت بأن يتقاضى العاملُ راتباً تقاعدياً أقل كثيراً مما كان سيتقاضاه ان بقي حتى سن التقاعد. الآلاف قبلوا بالفكرة لكن القليل منهم استثمر أو حتى ادخر ما تقاضى من مكافأة. لم يوفر أحداً إرشاداً أو توجيهاً لأولئك المتقاعدين الذين قلما ادخروا مالاً ناهيك عن استثماره. أكثرهم أنفق ما تلقى على بناءٍ أو زواج أبناء ويعيش الآن على حافة الجوع. أما ابناؤهم فالوظيفةُ لكثيرٍ منهم سرابٌ بعيد، مثلهم في ذلك مثل الملايين من الشباب المصريين. في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم انتهج نظامٌ أتى للحكمٍ على أسنة الرماح عن طريق انقلاب يوليو العسكري"اشتراكيةً"تحركها السياسة قبل الواقعية الاقتصادية، واليوم تنتهجُ الدولة التي ورثت الشرعية الانقلابية ان جاز مثل هذا التعبير نفسها سياسات اقتصادية لا تعطي الكلفة الاجتماعية المرعبة للعودة الى اقتصاد السوق حقها. يدفعُ من لا حول له ولا قوة ثمن أخطاء دولة تبقى فوق المساءلة. هل يسُتغرب ذلك طالما بقي مصدر الشرعية انقلاب عسكري؟ و يبقى الأصل في كل انتخابات ذات شأن الطعن في شرعيتها لا قبولها؟ مبدأُ الخصخصة وتحرير الاقتصاد لا فرار منه، ولكن ان كان لملايين من عمال القطاع العام وزن حقيقي أو تمثيل كامل الشرعية ذو صوت مسموع هل كان مآلهم هو ما نرى؟. منطق غياب مسؤولية الدولة أمام مواطنيها نفسه رأيته يطحن الناس في أرزاقهم من الارض التي يزرعون. في عقد التسعينات ألغت الدولة قانون ايجار الاراضي الزراعية الموروث من عهد"الاشتراكية"، والذي كان جائراً بكل ما للكلمة من معنى، اذ كان اخراج المستأجر من الارض أقرب إلى المستحيل ولم تكن لقيمة الايجار المنخفضة علاقة بمردود الارض. هنا في المرة الأولى سحقت الدولة المالك وحقوقه وفي المرة الثانية ألقت بالمستأجر إلى عرض الطريق فجارت على ما عرّفته على أنه من حقوقه لعقود، تماماً مثلما جارت قبل ذلك على حقوق من يملك الارض، النهجُ هو ذاته وغياب المساءلة هو نفسه. إضافةً إلى مُستوى التعليم الهزيل والبطالة والفقر المتزايد تعاني قرىً كثيرة محيطةُ بكفر الدوار، منها قريتنا، من غياب شبكات الصرف الصحي. ربما لم يكن هذا ليمثل مشكلة لولا ارتفاع منسوب المياه الجوفية. غير مستغرب هنا أن ترى مياه صرف صحي تطفح في الطرقات، وصرف صحي مكشوف يصب في قنوات الري والصرف الزراعيين المكشوفة عادةً. بدأ الوضعُ في التحسن في بعض المناطق، لكن ما زال الطريق طويلاً علماً بأن ما وصفته في محيط كفر الدوار رأيته في قرىٍ أخرى في الدلتا وهو غيرُ غريبٍ عن عشوائيات تحيطُ بالقاهرة كلها يسكنها الفقراء طبعاً. ليس في أي مما قلته أسرارُ، و لا هو مما تنفردُ به كفر الدوار عن غيرها من أقاليم البلاد. تقديرات الفقر والبطالة الرسمية تفوقُ العشرة والعشرين في المئة على التوالي وتصل في تقديرات غير حكومية إلى أعلى من ذلك بكثير. كذلك نعرف جميعاً أن كثيراً من خريجينا لا يستطيعون خط خطابٍ من دون أخطاءٍ إملائية، ناهيك عن النحو والصرف، لكن المأساة لا تتوقف ها هنا. كلُ ذلك الفقر والجهل يعضدُ ثقافةً سياسية ودينية تختلطُ فيها القومية المسطحة بالغوغائية وضيق الأفق. وضيق الأفق والجهل ذاتهما، واللذان لا ينفصلان عن تعليم ينتج أشباه أميين، ناهيك عن تعليم أدبٍ الحوار أو تخريج مثقفين، لا يمكنُ فصلهما عن طبيعة موجة المد الديني المتصاعد. منذ عقد أو يزيد أخذ عدد الملتحين هنا في التزايد ومعهم تقسيمات حادة بين الحلال والحرام. المضحكُ المبكي أن كثيراً من هؤلاء لا تستقيمُ لهم جملةُ بالفصحى لكنهم على استعدادٍ للخوض في تفسير القرآن والافتاء في الحلال والحرام والقاء الدروسِ والعظات وهم بمبادئ الفقه وأصوله وتباين مذاهبه اما على جهلٍ مطبق أو علمٍ محدود. وكثيرٌ من هؤلاء لا يقيمون وزناً لسلطةِ الأزهر فهو متهمٌ عندهم بأنه تحت وصاية الدولة. عند غيرنا الدولة هي الشرعية نفسها، عندنا نحن الذين لا نكاد نفرق بين الدولة ومؤسساتها والحكومةِ كهيئةٍ تنفيذية والنظام السياسي المتمكن من السلطة، يجلب الارتباط بالدولة التشكيك بل وربما فقدان الشرعية. غير مستغرب ومخيف في آن أن هؤلاء الملتحين يتحولون تدريجاً إلى مصدرِ شرعيةٍ دينية جديدة تقومُ على علم محدود يفتحُ الباب من حيث التعريف لاحكام مطلقة تتحدث بلغة الحلال والحرام مثلما يتحدث آخرُ بلغة القومية مبرراً سفك دماء الشيعة والأكراد في العراق لأنهم يرغبون في"تقسيم البلد."في كلتا الحالتين تسود ثقافة عقود من غياب التعددية ومحدودية الحريات السياسية ومن ثم غياب القدرة على الحوار والتواصل مع آراء الآخرين أو حتى مآسيهم. ما بين من يخرج من المدرسة أمياً أو شبه أمي وثقافة المطلقات التي وصفنا خطٌ مستقيم لم نذكر إلا بعضه، وليس ما يشير بعد إلى أن هذا الخطُ في صدد الانكسار أو التراجع بل إنه يبدوا متصاعداً نامياً إلى ما لا نهاية، أو ربما ساقطاً في هاوية سحيقة جديدة، علماً بأننا لم نذكر إلا غيضاً من فيض.