على رغم جلاء الصورة للخروج من ازمة تشكيل الحكومة الألمانية نتيجة المشاورات الأولية التي أجريت بين الأحزاب الممثلة في البرلمان الاتحادي في الأيام الأخيرة، والتي أظهرت أن"التحالف الكبير"بين الحزب الاشتراكي الديموقراطي وحزب الاتحاد المسيحي هو البديل الوحيد، فإن أحداً لا يتوقع نهاية سريعة للازمة. ولا تزال العقدة الأساسية تتمثل في هوية المستشار المقبل، في ظل تشبث كل من المستشار الحالي غيرهارد شرودر ومنافسته المسيحية الديموقراطية انغيلا مركل بأحقية كل منهما في المنصب. يذكر أن نتائج الانتخابات النيابية لم تحسم في صورة واضحة من فاز ومن خسر. وفيما يعتبر الاتحاد المسيحي انه نال أكثرية ولو ضئيلة من الأصوات، يرد الحزب الاشتراكي الديموقراطي بأنه حصل على أكبر عدد من الأصوات باعتبار أن الاتحاد المسيحي مكوّن من حزبين. سيناريو مكرّر ولا ينفي الاتحاد هذا الأمر، لكنه يتمسك بتقليد يجعل منصب المستشار من حق الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان، واعتمد الأمر بعد كل انتخابات نيابية، ما يفنده الاشتراكيون من خلال التذكير بأن مثل هذا الإشكال حصل مرتين أواخر الستينات والسبعينات من القرن العشرين. ومن الناحية العددية، فإن البرلمان المقبل يتكون في واقع الأمر من أكثرية يسارية واضحة، إذ يبلغ عدد نواب الحزب الاشتراكي وحزب اليسار وحزب الخضر 327 نائباً 222 و54 و51 نائباً على التوالي، في مقابل 286 نائباً لحزبي الاتحاد المسيحي 225 والحزب الليبرالي 61، أي أن أكثرية الناخبين المطلقة رفضت بجلاء البرنامج الإصلاحي الراديكالي للمسيحيين والليبراليين لمصلحة الحفاظ على الدولة الاجتماعية. ولكن المشكلة تكمن في أن الخلافات السياسية والايديولوجية الكبيرة بين الاشتراكيين والخضر من جهة، واليساريين الجذريين الرافضين لأي إصلاح من جهة أخرى، عميقة جداً وغير قابلة للتسوية في المرحلة الحالية. ويضاف إلى ذلك العلاقة المتأزمة جداً، بل المقطوعة منذ 1999 بين شرودر ورئيس حزبه السابق اوسكار لافونتين الذي استقال من الحزب ومن الحكومة اثر خلاف مدوٍ بينهما على من يقرر النهج السياسي للبلاد. وبعد اعتزال لافونتين العمل السياسي والحزبي بضع سنوات عاد اخيراً على رأس مجموعة من الاشتراكيين الذين استقالوا من الحزب، احتجاجاً على سياسة شرودر الإصلاحية لتشكيل تجمع يساري مع الحزب الاشتراكي الديموقراطي الشيوعي الإصلاحي في شرق البلاد تحت اسم"حزب اليسار"، فضمن بذلك عودته إلى البرلمان الاتحادي من بابه العريض كرئيس لكتلة الحزب النيابية إلى جانب زعيم الاشتراكية الديموقراطية غريغور غيزي. عودة اليسار وسرت في اليومين الماضيين إشاعة فحواها أن عدداً من نواب حزب اليسار يفكر في العودة إلى الحزب الاشتراكي لتأمين الغالبية النيابية له ودعم أحقيته في تشكيل الحكومة، بهدف منع مركل من الوصول إلى الحكم. لكن قيادة حزب اليسار نفت ذلك من دون صدور نفي مماثل عن الحزب الاشتراكي. وكرر لافونتين وغيزي رفض تقديم أي دعم لشرودر الذي كان أكد قبل الانتخابات وبعدها انه لن يتعاون مع حزب اليسار في أي ظرف. مع ذلك يأمل عقلاء الحزبين بحصول تعاون، في مرحلة ما بعد شرودر. في انتظار البرلمان وترى مصادر مطلعة أن أزمة تشكيل الحكومة ستبقى على حالها إلى حين عقد البرلمان الاتحادي الجديد جلسته التأسيسية منتصف الشهر المقبل، لانتخاب رئيس له ونوابه وأعضاء هيئاته. وترجح أن ينتقل الصراع بين الأحزاب فيه إلى محور آخر، وهو الهوية السياسية للرئيس. وفيما يعتقد أن الحزب الاشتراكي سيعيد ترشيح رئيس البرلمان الحالي فولفغانغ تيرزه الذي ربما يحظى بأصوات غير قليلة من نواب حزب اليسار، لم يتطرق المسيحيون والليبراليون علناً بعد الى هذا الموضوع. وسيتحدد بعد ذلك موعد كي ينتخب اعضاء البرلمان بالاقتراع السري المستشار أو المستشارة المقبلة للبلاد. وفي حال لم يحصل أحد المرشحين على الأكثرية المطلقة 307 أصوات سيدعو رئيس الدولة هورست كولر إلى اقتراع ثان بعد أسبوعين. وفي حال الفشل مرة أخرى، تجري دورة اقتراع ثالثة يفوز فيها كل من يحصل على الغالبية. من هنا، فإن أصوات نواب حزب اليسار ستكون الحاسمة لانتخاب رئيس للبرلمان واختيار المستشار المقبل. وربما لهذا السبب يمكن فهم مطالبة مركل في مقابلة نشرتها صحيفة"فيلت أم زونتاغ"أمس بأن يعترف الحزب الاشتراكي الديموقراطي بحقها في تشكيل الحكومة المقبلة قبل بدء المفاوضات في شأن برنامج الحكومة الائتلافية. وجدد الطرفان أمس رفضهما اقتراح البعض تخلي شرودر ومركل عن منصب المستشارية أو التناوب على الحكم لمدة سنتين لكل منهما.