لماذا يطلق شارون أثناء حضوره اجتماع الجمعية العمومية في نيويورك تصريحه الصحافي المدويّ بأنه سيعمل على إعاقة إجراء الانتخابات الفلسطينية في الضفة إن شاركت فيها حركة حماس؟ هل يقصد بذلك تصعيد الضغط على السلطة الفلسطينية والاستمرار في حملة إحراجها، أم يعتقد بأنه يساعدها؟ هل يهدف إلى إضعاف حركة حماس أم تقوية نفوذها بين الفلسطينيين؟ أم هل هو معنيّ باستمرار إرباك المشهد الفلسطيني برُمتّه، داخلياً وعلى الصعيد الخارجي؟ على الأغلب يفوق هدف شارون هذه القضايا الجزئية ويتخطاها من خلال هذا التصريح إلى استمراره الدفع باتجاه تثبيت دعائم"مخططه الكامل"لتسوية القضية الفلسطينية، خصوصاً أنه يستفيد حالياً من"رياح"التأييد الدافئة التي تهّب عليه إقليمياً ودولياً جراء إعادة الانتشار الإسرائيلي من قطاع غزة. ويبدو أن لشارون الآن مأربين أساسيين. الأول يتلخص بتكريس فصل الضفة عن القطاع من أجل فرض حل"الدولة الفلسطينية المركّبة"على الفلسطينيين والعالم. فشارون يعارض مشاركة حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية في الضفة، لكنّه لا يمانع بمشاركتها في قطاع غزة، باعتبار أن للقطاع الآن - من وجهة نظره - مكانة"قانونية"مُختلفة عن الضفة. ما يدّل على ذلك أن شارون لا يعارض مشاركة حماس في الانتخابات الفلسطينية على أسس"مبدئية"، كاعتبارها ما يُطلق عليه تعبير"منظمة إرهابية"، وذلك كونه لا يضغط باتجاه إخراجها من المسرح السياسي الفلسطيني بالكامل، وإنما يريد الآن فقط حصر وجودها السياسي في قطاع غزة. وبالتالي فإن الانتخابات الفلسطينية تتحول بالنسبة الى شارون من انتخابات عامة وشاملة إلى انتخابات مُجزأة إلى جزئين: واقع الضفة شيء وقطاع غزة شيء آخر. ما الذي يرمي اليه شارون من وراء ذلك؟ بالعودة قليلاً في التحليل يمكن القول إن شارون استنتج متأخراً ما توصل إليه بيريز، ومن ثم رابين، قبل ذلك بسنوات، ومفاده أن أهم خطر يواجه مستقبل الدولة العبرية هو العامل الديموغرافي الناجم عن استمرار عدم تحديد المكانة القانونية لمنطقة الضفة والقطاع ومواطنيها الفلسطينيين المتكاثرين بغزارة الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي المديد لا هي مضمومة ولا هي مفصولة. وتولدت لديه قناعة ترسخت مع الوقت بأنه لا يمكن الاحتفاظ بكل الأرض المحتلة إلا مع كل سكانها، لعدم إمكان تنفيذ ترحيلهم عنها عبر ما يسمى إسرائيلياً ب"الترانسفير". وأصبح الحل المُمكن لشارون يتمثل بالانتقائية: الاحتفاظ ما أمكن بأكبر مساحة من الأرض الفلسطينية وضمها لإسرائيل، والتخلص من البقايا المكتظة بالفلسطينيين. ومن هنا جاءت خطته ل"الإنسحاب أحادي الجانب"من القطاع. فإعادة الانتشار من القطاع تعني لشارون التخلص من التبعية القانونية عن 1.4 مليون فلسطيني من خلال إخلاء 1 في المئة من مساحة فلسطينالإجمالية. وبما أن إسرائيل بمُجملها مهتمة بالاحتفاظ بأقصى مساحة من الضفة فإن إقامة الجدار القاسم لها والمُحيط ب"القدس الكبرى"يحشر الوجود الفلسطيني في الضفة في كانتونات مقلصة ومنفصلة عن بعضها. ولأن حل القضية الفلسطينية والتوصل إلى تسوية سياسية للصراع أصبح يتطلب من وجهة النظر الدولية حتى برأي بوش إقامة دولة فلسطينية، فإن اهتمام شارون الذي اضطر لمسايرة ذلك أصبح منصّباً من الناحية العملية على تحديد معالم هذه الدولة المرتقبة، جغرافياً وقانونياً. يريد شارون، وبيريز إلى جانبه، إقامة دولة فلسطينية مُركّبة تتشكل من قسمين: قطاع غزة الذي سيكون في نهاية المطاف تحت السيادة الفلسطينية مع ضوابط رقابية إسرائيلية على المعابر المختلفة، والكانتونات الفلسطينية في الضفة التي ستصبح تحت سيطرة، وليس سيادة، الجزء السيادي من الدولة الفلسطينية المتمثل بالقطاع. وسيُنظر إسرائيلياً في حينه الى كيفية ربط القسمين بما يحقق تثبيت واستمرار هذا التمّايز القانوني بين هاتين المنطقتين الجغرافيتين، والذي سيُنقذ إسرائيل من حتمّية التحول إلى دولة ثنائية القومية وخسارة الأغلبية اليهودية فيها. من هذا المنطلق يريد شارون أن يكرّس الآن فصل الضفة عن القطاع في الذهنية الدولية، والتعامل مع الضفة بطريقة مختلفة نوعياً عن تعامله مع القطاع. وبالتالي، يأتي تصريحه حول حركة حماس في هذا السياق: لا ضير من مشاركتها في الانتخابات في القطاع، ولكن لا يريد مشاركتها في الانتخابات نفسنها في الضفة. تباين ذكي يخفي خطراً قادماً يجب التنبه له. أما الهدف الثاني لشارون، والذي ينبُع من الأول ويستهدف تثبيت التمايز بين الضفة والقطاع بهدف إثبات وتثبيت الضرورة الإسرائيلية للاحتفاظ بغالبية الضفة وعدم التنازل عن السيادة عن الكانتونات الفلسطينية التي ستصبح مستقبلاً جزءاً من الدولة الفلسطينية، فهو استمرار تخريب الإمكانية الفلسطينية بتطوير القدرة الذاتية المُقنعة للعالم بضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً عن الضفة والقدسالشرقية. من هنا يجب أن يُقرأ تصريح شارون بخصوص عدم مشاركة"حماس"في الانتخابات في الضفة في هذا السياق، فغرضه إثارة البلبلة في الصفوف الفلسطينية داخلياً وإحراج السُلطة مع"حماس"داخلياً ومع المجتمع الدولي خارجياً. والأهم من ذلك هو الاستمرار بمحاولة إفشال أية إمكانية لترتيب الأوضاع الفلسطينية الداخلية. كما هو معلوم، فإن الأوضاع الفلسطينية الداخلية تعاني من تراكم قصور في مجالات عدّة، ومن سلبيات لا حصر لها. ويعاني الوضع الفلسطيني العام حالياً من تفشي حالة فساد إداري وتسيّب مالي وانفلات أمني وصلت معه البلاد لأن تُصبح مثاراً للقلق والحسرة الفلسطينية والتندر الخارجي. وبعد إعادة الانتشار من القطاع استطاع شارون أن يبُثّ في الأوساط الدولية أن الفلسطينيين يواجهون الآن الامتحان الأهم في حياتهم، وأن يُشيع بصورة أولية أنهم يفشلون في الأداء بحيث لا يمكن التعويل عليهم في الحفاظ على استقرار المنطقة. والاستنتاج الأولي هو أن إسرائيل لا تستطيع في المستقبل أن تسلّم أمنها للفلسطينيين في الضفة، وبالتالي فإنها بحاجة للاحتفاظ بأكبر مساحة منها تحت سيادتها، ضماناً لأمنها واستقرارها، بل ووجودها المصيري أيضاً. ليس خافياً على أحد من الفلسطينيين أن سبب المُعاناة الفلسطينية الداخلية هو ليس الفساد الإداري والتسيب المالي والانفلات الأمني، فهذه هي النتائج وليس الأسباب، وإنما السبب يكمن بالأساس في أزمة النظام السياسي الفلسطيني الذي نشأ بعد اتفاق أوسلو. هذا النظام السياسي جاء استحواذياً يقوم على وجود"حزب حاكم"مستأثر بالسُلطة ومقصياً لغيره. بالتالي لم يكُن هناك أية إمكانية حقيقية لوجود آليات مساءلة ومُحاسبة فعلية وفاعلة، إذ لم يوجد في الواقع فصل للسلطات، وتحكّمت السُلطة التنفيذية بالتشريعية، وسيطر رأس الهرم التنفيذي على الكُل الفلسطيني، ونشأت مراكز قوى استأثرت بما استطاعت جراّء مدى قُربِها من الرئيس. من المؤكد أن مدخل إصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني ليس إدارياً أو مالياً أو أمنياً، وكل المُحاولات التي ابتدأت من هذه العناوين فشلت حتى الآن وستفشل مستقبلاً، وذلك لأن المدخل للإصلاح هو سياسي، يتمثل بإنهاء الأزمة التي يُعاني منها النظام السياسي الفلسطيني. وهذا الإنهاء يتطلب فتح باب المُشاركة السياسية الحقيقية والفعالة في الحياة السياسية الفلسطينية، وذلك لن يتم إلا بإجراء انتخابات عامة حُرّة ونزيهة تُشكل البوابة الرئيسية لتحقيق هذه المشاركة. إن تم ذلك وأصبح هناك مجلس تشريعي يتشكل من كتل برلمانية تبدأ بالمساءلة والمُحاسبة الجادة، فإن الوضع الإداري والمالي والأمني الفلسطيني سيبدأ بالتحول الإيجابي. بالتأكيد لا يُريد شارون تحقيق هذه الإمكانية للفلسطينيين، بل يُريد إعاقتها، وتصريحه حول عدم مشاركة حماس في الانتخابات يأتي لتخريب إجرائها، وإن لم تُجرى الانتخابات فإن الوضع الفلسطيني لن ينصلح، بل بالتأكيد سيسوء، وهذا يصُبّ في مصلحة شارون ومُخططه لفرض أُسس التسوية السياسية. على الفلسطينيين التنبه إلى أهداف شارون، وعليهم إفشالها. لذلك فإن اجراء الانتخابات في موعِدها في كانون الثاني يناير المقبل يتسم بأهمية قُصوى. المُهم أن يفهم الفلسطينيون المغزى وأن لا تَحول مُماحكاتهم الداخلية دون رؤية المصلحة الوطنية العامة. * عميد كلية الحقوق والإدارة العامة في جامعة بيرزيت.