صدر أخيراً تقرير"لجنة التحقيق المستقلة"، التي شكلها مجلس الأمن برئاسة بول فولكر للتحقيق في أداء برنامج النفط مقابل الغذاء في العراق وللتأكد من شبهات الفساد التي شابت نشاطاته. والمعروف أن هذا البرنامج استحدث في عام 1995 بقرار من مجلس الأمن، وبالاتفاق مع الحكومة العراقية آنذاك، بموجب مذكرة التفاهم التي أبرمت بينها وبين الأممالمتحدة. وكان الهدف من البرنامج الجمع بين استمرار العقوبات والحصار الدولي على العراق، بسبب غزوه للكويت وإعاقة تشبثه للحصول على أسلحة الدمار الشامل، وبين السعي لتخفيف المعاناة عن السكان، من خلال برنامج واسع للإغاثة الإنسانية يوفر سلع الغذاء والدواء بتمويل من مبيعات النفط العراقي باشراف الأممالمتحدة. إلا أن مسيرة هذا البرنامج، الذي امتد نشاطه حتى عام 2003، قد انطوت على مفارقات وفضائح يندر وجود مثيل لها في التعاملات الدولية وتشكل نقطة سوداء في تاريخ الأممالمتحدة. إن تقرير"فولكر"الذي يقع في أكثر من 800 صفحة، هو وثيقة تاريخية، بالغة الأهمية من نواحٍ سياسية واقتصادية وإنسانية. فهو يوفر وقائع وشواهد وأحكام جديرة بأن تراجع وتدرس من جانب العراق، حكومة وشعباً، للتعرف إلى حجم وألوان الفساد والهدر والاستباحة التي لحقت بالثروة العراقية الهائلة، وللوقوف على أساليب الغش والتلاعب والرشا المالية والسياسية التي زخرت بها تطبيقات هذا البرنامج. فالبرنامج، الذي استمر لسبع سنوات تقريباً، سجل رقماً مذهلاً من حيث مستوى معاملاته البالغة نحو مئة بليون دولار. وهي تشمل 64 بليوناً لمبيعات النفط و39 بليوناً لشراء المواد الغذائية والدوائية. كان النظام السابق يقوم بتهريب النفط، من خلال شبكة واسعة، تضم أطرافاً عراقية وإقليمية وأجنبية، وكان يجني مبالغ طائلة تقدر بنحو 11 بليون دولار، ولا تدخل خزينة الدولة ولا تذكر الأممالمتحدة شيئاً عنها، وهي المكلفة بالاشراف على مبيعات النفط العراقي. ولعل الكثير يعلم بأن آلاف العربات والشاحنات كانت تتحرك وتنقل المواد المهربة عبر الحدود ذهاباً وإياباً من غير رقابة وتفتيش. لجأت القيادة العراقية آنذاك، الى استحداث مصدر آخر غير شرعي، للاستحواذ على الأموال، من خلال فرض رسوم إضافية على سعر النفط Surcharges الذي تتم عقود المبيعات بشأنه، من خلال الأممالمتحدة إدارة البرنامج وتقدر حصيلة ما جناه الجانب العراقي بحدود 1.8 بليون دولار. يكشف تقرير فولكر حالات فساد كثيرة على جميع المستويات وفي أقطار عدة تشمل شخصيات سياسية وتجارية ومقاولين وسواهم. إلا أن المثير في الأمر، هو انتشار الفساد إلى قمة البرنامج وإدارته، الأمر الذي يعكس غياب معايير النزاهة والمهنية والتقاليد المؤسسية في تنفيذ أوسع وأعقد برنامج انساني للأمم المتحدة في التاريخ الحديث، بل هو من أكبر البرامج التي عرفها التاريخ بمقياس حجم الأموال التي جرى التعامل بها، وبمقياس الظروف السياسية والإنسانية التي اكتنفته. ومع أن تقرير فولكر يؤكد نجاح البرنامج بصورة جزئية، إلا أن هناك حقائق صارخة أخرى، تجدر الإشارة إليها. وهي أن مستويات التغذية والرعاية الصحية لملايين العراقيين التي تلقوها لا تتعدى الحدود الدنيا. وهي مفارقة مؤلمة، لحالة شعب مقهور، بين ما يقاسيه من ويلات وأساليب تعامل غير إنسانية، وبين ما يجرى من ممارسات لنهب ثروته وأمواله والادعاء بالرسالة الإنسانية لهذا البرنامج وتداعياته المنكرة. ولعل السر في هذه المفارقات والفضائح يكمن في السماح للقيادة السابقة آنذاك باختيار مشتري النفط وبائعي السلع الغذائية والدوائية، مما وفر لها سلطة واسعة لمنح الامتيازات والرشا وتسخير مزايا البرنامج لأغراض سياسية تخدم توجهات وخطط الحكم آنذاك. وقد شملت دائرة المنتفعين والمستهدفين مسؤولين كباراً ونشطاء سياسيين وموظفين دوليين كما أفاد التقرير. وهكذا تضافرت الأطماع والنيات الشريرة لفئات واسعة لإلحاق الكوارث بالعراقيين من خلال طريقين: نهب ثروتهم المالية من ناحية، ومحاصرتهم في أتون الفاقة والحرمان بمقاييس مريعة لسنين طويلة من ناحية أخرى. لقد تضمن التقرير نقداً شديداً لغياب الرقابة، من جانب كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة، وفريقه المشرف على برنامج النفط مقابل الغذاء. وهو أمر مطلوب ومشروع. إلا أن الأهم بالنسبة الى الشعب العراقي، هو معرفة وملاحقة الأموال التي هربت ببلايين عدة. ألا يجدر بالحكومة وقادة البلد أن يتوقفوا عند معطيات هذا التقرير الخطير واستنتاجاته، ويضعوا خطة عمل مناسبة لبلوغ ذلك الهدف واستخلاص النتائج الضرورية لملاحقة آثار ودلالات هذه المسألة؟ إن محنة الشعب العراقي، التي طالت كثيراً، وتداخلت فيها دوافع كثيرة، من الأطماع السياسية والاقتصادية، لا يمكن لها أن تنتهي ما لم يصر إلى إنهاء تدويل المسألة العراقية، وتمكين العراقيين من التعبير عن مصالحهم وقضاياهم والدفاع عنها بموقف ثابت وحازم ومدروس، مما يستوجب بناء آليات مناسبة ومدعومة شرعياً وشعبياً للنهوض بهذه المهمات الرفيعة. * رئيس المركز العراقي للتنمية والحوار الدولي ووزير التخطيط سابقاً.