نظام الحزب المسيطر هو النظام الحزبي القائم في مصر منذ عام 1976، وهو واحد من أشكال النظم الحزبية الأربعة المعروفة عالمياً، والتي تشمل إلى جانب هذا النظام،"نظام الحزب الواحد"، و"نظام الحزبين"، و"نظام تعدد الأحزاب". وقد كانت لمصر تجربة مع بعض من تلك النظم. اذ عرفت نظام تعدد الأحزاب بين 1923 و1952، والتي وجد خلالها على الساحة السياسية المصرية عدد كبير من الأحزاب، كان أبرزها حزب الوفد. ومع أن بقية الأحزاب لم تستطع أن تضاهي الوفد في جماهيريته، إلا أنها شاكسته ونازلته وتمكنت من أن يكون لها وجود مؤثر في مجلسي الشيوخ والنواب، ما ساعدها في تشكيل معارضةً قوية، استطاعت أحياناً أن تحل محل الوفد في تشكيل الحكومة. ثم جاءت الثورة لتأخذ مصر إلى نظام حزبي آخر. اذ رفعت الثورة شعار تطهير الحياة السياسية، وترجمته عملياً على الفور حينما أعلنت حل الأحزاب بدعوى أنها المسؤولة عن حالة الفساد التي عاشتها مصر قبل الثورة. إلا أن رجال الثورة اكتشفوا بعد عام من حل الأحزاب أنه لن يمكنهم الانتقال من شرعية الثورة إلى شرعية الدولة إلا بإيجاد تنظيم جديد يمكنهم من خلاله ضبط إيقاع الحياة السياسية وتنظيم تفاعلاتها. ومن هنا ولدت فكرة التنظيم الواحد الذي بدأ ب"هيئة التحرير"ف"الاتحاد القومي"ثم"الاتحاد الاشتراكي العربي". ولما يزيد على عقدين تبنت مصر نظام الحزب الواحد إلى أن قرر الرئيس الراحل أنور السادات عام 1975 تشكيل منابر داخل التنظيم السياسي الوحيد، ما لبثت أن تحولت عام 1976 إلى ثلاثة أحزاب سياسية كانت هي النواة التي قامت عليها تجربة مصر الحزبية الجديدة إلى اليوم، والتي تزخر بما يزيد على 20 حزباً سياسياً يقف من بينها حزب واحد فقط في المقدمة، وتأتي بعده بمسافة واسعة بقية الأحزاب لاهثةً ومقطوعة النفس، الأمر الذي يبرر لماذا يعد النظام الحزبي المصري من نماذج أنظمة الحزب المسيطر. وإذا كانت مصر جربت نظام تعدد الأحزاب قبل الثورة، ثم نظام الحزب الواحد معها، ثم نظام الحزب المسيطر، إن جاز القول من بعدها، فإنها لم تجرب إلى اليوم نظام الحزبين. فهل من آفاق مفتوحة في هذا الاتجاه؟ إلى الآن لا تبدو أي بارقة واضحة في هذا الاتجاه. اذ اعتاد الحزب الوطني الديمقراطي منذ تأسيسه عام 1978 على أن يكون الأول دائماً، إذ لم يخفق ولو لمرة واحدة في نيل غالبية كبيرة من مقاعد مجلس الشعب. وفي المرات التي تدنت فيها حظوظ مرشحيه كان الحزب يوظف حجمه الضخم وموارده السياسية المعتبرة من القوة فيستميل إلى صفوفه المرشحين المستقلين الفائزين، ما حافظ له على هيمنة شبه مطلقة على البرلمان. أما بقية الأحزاب، فنشأت ضعيفة، لا تتمتع بقاعدة شعبية تستند عليها، بل نشأ بعض من هذه الأحزاب بتشجيع أو إيعاز من الدولة ، كما انشغل بعضها الآخر بصراعات داخلية معقدة أبعدتها عن المنافسة مع الحزب الوطني. ونتيجة لضعفها تحولت تلك الأحزاب على أحسن الفروض إلى ما يُسمى"الأحزاب الثالثة"، وتلك تسمية آتية من التجربة الأميركية. اذ يوجد في الولاياتالمتحدة إلى جانب الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري، عدد من الأحزاب الصغيرة التي لا تمكنها مواردها القليلة من المنافسة مع الحزبين الكبيرين، الأمر الذي يحملها على قصر نشاطها على التعريف بنفسها لدى المواطنين والمساهمة في تثقيفهم سياسياً وإعلامياً لتتحول إلى ما يشبه المنتديات العامة ولتفقد وظيفتها الرئيسة كأحزاب سياسية وهي السعي من أجل الوصول إلى الحكم. وليس أوضح على أن كل الأحزاب المصرية ما عدا الحزب الوطني هي من فئة الأحزاب الثالثة من الصحف التي تصدرها. فقد باتت شهرة تلك الصحف أوسع من شهرة الأحزاب التي تصدرها، ما جعل الوجود الإعلامي لتلك الأحزاب يزيد بمراحل على وجودها السياسي. هذه الصورة على الجانبين، الحزب الوطني وكل الأحزاب المصرية الأخرى، لا ترجح سوى استمرار نظام الحزب المسيطر في مصر لفترة طويلة مقبلة. ومع هذا يبقى على الجماعة السياسية المصرية أن تستمر في البحث عن أفضل نظام حزبي يستطيع أن يتوج الحراك السياسي الجاري في مصر بنقلة نوعية نحو الديمقراطية، وتفتح التطورات السياسية الإيجابية التي تعيشها مصر في الفترة الراهنة الباب للتساؤل حول إمكان الأخذ بنظام الحزبين. فعلى رغم حال التخمة والازدحام التي عليها الساحة السياسية المصرية والانتخابات التشريعية الجديدة على الأبواب، إلا أن ملامح ثنائية جديدة برزت ولو على استحياء هي التي شجعت على طرح التساؤل حول ملاءمة نظام الحزبين لظروف مصر السياسية الراهنة. فقد شرع الحزب الوطني في تطوير نفسه هيكلياً وبرامجياً وأبدى مزيداً من الحرص على اختيار مرشحيه، وانتقاء من يعتقد أن في مقدورهم هزيمة مرشحي المعارضة من الجولة الأولى. وتسبب هذا الحرص الزائد أحياناً في إثارة حساسيات لدى بعض المرشحين، خصوصاً من استبعد منهم فقرر أن يخوض التجربة مستقلاً. وإذا كانت الروايات تحكي أن الخلافات داخل الحزب الوطني بين الحرس القديم والكوادر الجديدة هي التي أزكت الصراع على تسمية المرشحين، إلا أن الحزب بجيليه القديم والجديد حرص على أن يبدو جبهةً موحدة في وجه المعارضة، وهو ما أكدته مراراً تلك الصورة التي تكرر نشرها على صفحات الجرائد والتي جمعت الوجوه القديمة والجديدة معاً، ما يعني أن الحزب المسيطر منذ سنوات بات يدرك أن المعارضة المصرية، في ظل الظروف المحلية والإقليمية الراهنة، وإن ظلت أضعف منه، إلا أنها باتت أقوى مما كانت عليه قبل خمس سنوات. ففي عام 2000 أدرك الحزب الحاكم أنه قد يتحول مع مرور الوقت ضحية لنجاحاته. فبعد الارتكان إلى منطق الفوز المضمون والنجاح المنقطع النظير، جاءت نتائج الانتخابات التشريعية في ذلك العام مفاجئة اذ عجزت أسماء لامعة في صفوف الحزب الحاكم عن الوصول إلى البرلمان، أو وصلت إليه ولكن بشق الأنفس وبجودة أهل الجود من الأجهزة المشرفة على الانتخابات، الأمر الذي نحى بالحزب أن يأخذ انتخابات 2005 بمزيد من الجدية، فاستيقظ ولو بقدر على اتهامات المعارضة له بالجمود، وراح يزكي عند اختيار مرشحيه فئات الشباب والنساء والأقليات، ما وصل بنسبة الوجوه الجديدة بين مرشحيه إلى 35 في المئة. وقررت مجموعة من الأحزاب وقوى المعارضة تشكيل جبهة وطنية للتغيير لخوض الانتخابات التشريعية أمام الحزب الوطني، ليدخل خليط من ألوان الطيف السياسي للمعارضة في ائتلاف انتخابي شمل أحزاباً مثل الوفد والتجمع والناصري علاوةًٍ على قوى المعارضة الجديدة مثل حركة"كفاية"والتحالف الوطني من أجل الإصلاح والتجمع الوطني من أجل التحول الديموقراطي. وربما بسبب نشأة تلك الجبهة، بدا للمرء ولو للحظة من الخيال البعيد أن مصر في إمكانها أن تتحول في يوم ما من نظام الحزب المسيطر إلى نظام الحزبين. فهناك بالفعل حزب كبير لا ينقصه إلا ظهور حزب كبير آخر قادر على معادلته في القوة ومنافسته في النتائج، لا سيما أن الحزب الوطني الديمقراطي لن يغنيه الاستمرار في إظهار قوته الانتخابية أمام أحزاب ضعيفة بل سيفيده أكثر، لو أراد، أن يتنافس مع أكفاء له. فالعبرة في عيون الناخبين ليست في مزاحمة القوي للضعيف، وإنما في أن يثبت القوي نفسه أمام قوي آخر. ومن المعروف أن نظام الحزبين ينشأ بسبب فشل الأحزاب الصغيرة في تحقيق نتائج طيبة على الخريطة الانتخابية، الأمر الذي يحملها إما على التلاشي والاختفاء، أو تركيز جهودها في عدد محدود من الدوائر الانتخابية شبه المضمونة، أو السعي إلى الاندماج مع أحزاب صغيرة أخرى لتشكيل حزب جديد أكبر يستطيع المنافسة وحصد الأصوات. وفي مصر لا يتمتع إلا الحزب الوطني الديمقراطي بالقدرة على خوض 222 معركة انتخابية في مجموع الدوائر التي يتكون منها القطر المصري. أما أحزاب المعارضة، وفي أفضل حالاتها، فلا يتمكن أي منها منفرداً من المنافسة في حفنة قليلة من الدوائر قد لا تتجاوز أحياناً عدد أصابع اليدين، ما يجعل من التحامها معاً في كيان أكبر أسلوباً جديداً لمنافسة الحزب الوطني في المستقبل. إلا أن الواقعية تحمل المرء على التحفظ على نصيب فكرة نظام الحزبين من النجاح على الأقل في المستقبل المنظور. فالحزب الوطني الديمقراطي، وبالغريزة السياسية لأي حزب، لن يستقبل بالترحاب والتهليل ظهور حزب كبير منافس له. أما المعارضة، فإن تجاربها في الائتلاف لا تحمل كثيراً من البشرى. فالأحزاب الصغيرة في مصر تملك مواقف فكرية يصعب التوفيق بينها، بل ويثير بناء التحالفات بينها قدراً كبيراً من التوجس والشك. وليس أدل على ذلك من موقف"الاخوان المسلمين أخيراً، اذ تعاملوا بقدر من الدهاء والاستعلاء مع الجبهة الوطنية للتغيير التي ستخوض الانتخابات المقبلة. فقد انضموا إليها لتكون أحد الأغطية التي يمرون تحت سترها إلى قلب العملية الانتخابية، ولكنهم اشترطوا أن لا تنزع الجبهة عنهم ثيابهم بحجة أن رداءهم من قماشة مختلفة. أما في المستقبل البعيد، فلمَ لا يكون نظام الحزبين مطروحاً كبديل للنظام الحزبي القائم حالياً في مصر. فتبنى هذا النظام سيفضي إلى اختفاء أحزاب صغيرة يكاد وجودها لا يفرق حالياً من عدمه، وسيفسح المجال أمام ظهور تنظيم سياسي فعال يستطيع أن يقف أمام الحزب الوطني وأن يقف الحزب الوطني في وجهه. أليست قوتان متكافئتان أفضل دائماً من قوة واحدة؟ كاتب مصري.