تشهد مصر درجة عالية من الحيوية السياسية والجدل المحتدم منذ إعلان الرئيس مبارك في 25 ايار مايو الماضي عن مبادرته بتعديل المادة 76 من الدستور المتعلقة بطريقة اختيار رئيس الجمهورية، وبما يحقق اختيار رئيس الجمهورية بشكل مباشر وبين أكثر من مرشح. وعلى رغم أن هذه المبادرة مثلت مفاجأة للعديد من القوى السياسية في مصر، وتعددت التفسيرات حول توقيت هذه المبادرة ودوافعها، إلا أن المراقب الدقيق لتطور الرؤية السياسية للحزب الوطني الحاكم في مصر قد لا يشعر بدرجة المفاجأة نفسها. اذ أشارت وثائق الحزب التي طرحت في مؤتمره السنوي في أيلول سبتمبر الماضي إلى أن رؤية الحزب للإصلاح الشامل لا تضع الإطار الدستوري القائم خارج نطاق المراجعة ولا تصادر حق الاجتهاد بشأنه. كما توافق الحزب الوطني مع خمسة عشر من أحزاب المعارضة المشاركة في الحوار مع الأحزاب، على"أن المتغيرات المجتمعية والسياسية تؤكد على أهمية القيام بمراجعة الدستور لتعديل بعض مواده بما يواكب التطوير والتغيير الذى يشهده المجتمع"، كما جاء في البيان الصادر عن الحوار بين الأحزاب بتاريخ 15 شباط فبراير 2005، ومثّل ذلك تطوراً مهماً في رؤية الحزب للإصلاح السياسي مفاده أن الدستور ليس كتاباً مقدساً لا يجوز المساس به، وإنما هو وثيقة سياسية قابلة للتغيير والتطوير وبما يواكب التغيير والتطوير الذى يشهده المجتمع. وجاءت مبادرة الرئيس مبارك بتعديل المادة 76 في إطار هذه الرؤية، اذ أدركت القيادة السياسية حجم المتغيرات التي شهدها المجتمع المصرى، وكذلك التغيرات التي شهدها العالم ومنطقة الشرق الأوسط. ومن ثم شعرت بمسؤوليتها في طرح رؤيتها للتعامل مع هذه المتغيرات، وأثار البعض التساؤل حول لماذا المادة 76؟ وماذا عن باقي مواد الدستور التى تحتاج أيضاً للتعديل؟ والإجابة هي أن هناك شبه إجماع وطني على تعديل المادة 76 والانتقال من نظام الاستفتاء إلى نظام اختيار رئيس الجمهورية بشكل مباشر ومن بين أكثر من مرشح، وربما لا توجد درجة الإجماع نفسها على العديد من المواد التى يطالب البعض بمراجعتها، خصوصاً تلك المتعلقة بشكل النظام الاقتصادي، والعلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية، ودور الدين وغيرها من القضايا الجدلية، وهو ما يتطلب وقتاً أطول للحوار حولها من أجل الوصول إلى توافق وطني قبل تعديلها. وعلى رغم ذلك فإن الحزب الوطني أعلن أن تعديل المادة 76 ليس نهاية الطريق، وأن الحزب سيطرح رؤيته في شأن الإصلاح الدستوري في برنامجه الانتخابي في أيلول سبتمبر المقبل، وهو ما يفتح الباب للمزيد من التعديلات الدستورية في المستقبل. ووجه بعض قوى المعارضة في مصر انتقادات للنص المطروح لتعديل المادة 76 من قبيل أنه أفرغ مبادرة الرئيس مبارك من مضمونها، وأنه لا يمثل خروجاً كبيراً على نظام الاستفتاء في اختيار رئيس الجمهورية، وأنه يضع شروطاً تعجيزية للترشيح، بالإضافة الى انتقادات تتعلق بتشكيل اللجنة المشرفة على الانتخابات الرئاسية، وإجراء الاقتراع في يوم واحد. والواقع أن هذه الانتقادات هي بمجملها في غير محلها، فالتعديل المقترح يمثل تحولاً كبيراً عن نظام الاستفتاء في اختيار الرئيس، اذ تطلب نظام الاستفتاء قيام ثلث أعضاء مجلس الشعب أي حوالى 33 في المئة 152 عضواً باقتراح الترشيح، وموافقة ثلثي الأعضاء حوالى 66 في المئة 303 أعضاء لطرح اسم المرشح للاستفتاء الشعبي. في حين أن التعديل المقترح يتيح لكل الأحزاب القائمة - حوالى 15 حزباً على الأقل - بأن تقدم مرشحين لانتخابات الرئاسة من دون قيد أو شرط في انتخابات 2005، وتتيح للمرشح المستقل الحصول على تأييد نسبة لا تزيد عن 6.5 في المئة من إجمالي الأعضاء المنتخبين لمجلسي الشعب والشورى والمجالس الشعبية المحلية على مستوى المحافظات. ويرى البعض أن هذا يمثل تفرقة وعدم مساواة بين المرشح الحزبي والمرشح المستقل. إلا أن رؤية الحزب الوطنى تقوم على أهمية التمييز الايجابي لمصلحة الأحزاب في شروط التقدم بمرشحين لانتخابات الرئاسة، فالأحزاب هي الأداة الأساسية للمشاركة، وتمثيل المصالح والتعبير عنها في أي نظام سياسي. وإن رؤية الحزب الوطني لمستقبل العملية السياسية في مصر تستند الى أهمية دعم الحياة الحزبية في مصر سواء من طريق التدخل الدستوري، كما يتضح من نص المادة 76، أو التدخل التشريعي، كما سيتضح في تعديل قانون الأحزاب وقانون الانتخابات والتي سينظر فيها البرلمان قبل انتهاء دورته الحالية والتي تستهدف جميعها دعم الأحزاب وتنشيط الحزبية في مصر، وكذلك الاتفاق على إطار جديد للممارسات الحزبية، كما يتضح من ميثاق شرف الأحزاب الذي طرحه الحزب الوطني في الحوار مع الأحزاب. أما بالنسبة الى شرط حصول الحزب على 5 في المئة من مقاعد مجلسي الشعب والشورى لتقديم مرشح لانتخابات الرئاسة، فإن هذا الشرط لا ينطبق على الانتخابات المقبلة في أيلول سبتمبر 2005، اذ سيكون للأحزاب حق التقدم بمرشح من دون قيد أو شرط. بل ينطبق هذا الشرط على الانتخابات التالية لها والمقررة للعام 2011. والواقع أن هذا الشرط أيضاً لا يمثل تعجيزاً للأحزاب فقد سبق لبعض الأحزاب أن حصل على أكثر من هذه النسبة في انتخابات سابقة لمجلس الشعب. كما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن هذا الشرط سيطبق في أجواء مختلفة ومبادرات جديدة للإصلاح السياسي، منها تعديل قانون الانتخابات والتفكير في نظام انتخابي جديد يتيح مساحة أكبر لتمثيل الأحزاب في البرلمان. كما أنه ليس من المتصور أن يتاح للأحزاب أن تقدم مرشحيها في انتخابات 2005، ثم لا تكون هناك أي فرصة إلا لمرشح حزب الغالبية للترشيح بعد ست سنوات. فهذا ضد المنطق، وضد حركة التطور والتغيير التي سيشهدها المجتمع في السنوات المقبلة. ومن ثم فإن الحكم على هذا الشرط المستقبلي وفقاً لمعايير الماضي وممارساته يفتقر إلى الصواب وحسن التقدير. أما بالنسبة الى اللجنة التي ستشرف على انتخابات الرئاسة، فإن المادة 76 تنص على أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية رئاستها بالإضافة إلى عضوية أربعة من القيادات القضائية بحكم مناصبها، وخمسة من الشخصيات العامة المشهود لها بالحياد يختارها مجلسا الشعب والشورى. وستتولى اللجنة الإشراف على كل جوانب العملية الانتخابية بدءاً من فتح باب الترشيح حتى إعلان النتائج. ويمثل هذا نقلة نوعية في ما يتعلق بممارسة هذه الاختصاصات والتي تقوم بها السلطة التنفيذية في ظل نظام الاستفتاء. وطالب البعض بأن تكون عضوية هذه اللجنة قضائية بالكامل، إلا أن ذلك يتنافى مع معظم الخبرات الدولية في هذا المجال والتي تحرص على أن يكون تشكيل مثل هذه اللجان جامعاً ما بين الخبرات القانونية والخبرات الأخرى، اذ إن دور اللجنة لا يقتصر فقط على الفصل في المنازعات القانونية بين المرشحين بل يتجاوز ذلك إلى تنظيم جوانب أخرى تتعلق بالعملية الانتخابية من تمويل ودعاية وغيرها من المسائل، وهي مهمات تتطلب تنوعاً في الخبرات. وقد أخذ معظم الدول الديموقراطية بتنوع الخبرات هذا في اللجان المشرفة على الانتخابات كما في المملكة المتحدة وفرنسا والهند والولاياتالمتحدة وغيرها من الدول. أما بالنسبة الى قيام مجلسي الشعب والشورى باختيار الشخصيات العامة فإن ذلك سيتم في ظل رقابة الرأي العام وبما يضمن اختيار أعضاء مشهود لهم بالحياد. وبالنسبة الى اجراء الاقتراع في يوم واحد، فقد استقرت كل دول العالم على انتخاب رئيس الجمهورية في يوم واحد، لأن إجراء الانتخابات لهذا المنصب المهم على مراحل قد يؤدي إلى حال من البلبلة والاضطراب. كما أن التعرف الى نتائج التصويت في أحد المراحل سيؤثر بالتأكيد على إرادة الناخب في المراحل التالية، لذا نجد في بعض الدول الممتدة المساحة عبر مناطق زمنية مختلفة كما في الولاياتالمتحدة يحظّر أي إعلان للنتائج حتى عن طريق استطلاعات الرأي في المناطق التى تغلق فيها مراكز الاقتراع مبكراً لاختلاف التوقيت كما يحدث في الساحل الشرقي، مقارنة بالساحل الغربي. ويرتبط بتعديل المادة 76 إصدار قانون جديد يضع التفاصيل المتعلقة بانتخابات الرئاسة خصوصاً ما يختص بالتمويل والدعاية الانتخابية. وطرح الحزب الوطني عدداً من الأفكار في هذا الصدد تستهدف ترسيخ قواعد العدالة وتكافؤ الفرص بين مرشحي الرئاسة خصوصاً في استخدام وسائل الإعلام المسموعة والمرئية المملوكة للدولة، وبحيث يتاح لجميع المرشحين مساحة متساوية لاستخدام هذه الوسائل في أغراض الدعاية الانتخابية. وهكذا يمكن القول إن تعديل المادة 76 من الدستور المصرى يدشن مرحلة جديدة في تطور الحياة السياسية في مصر. وبدأت تظهر آثارها على المجتمع المصري في مساحة حرية التعبير غير المسبوقة التي تشهدها مصر، وهي بالتأكيد ستزداد خلال حملة الانتخابات الرئاسية، مرحلة ستشهد المزيد من الإصلاحات الدستورية، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية وتفعيل دور الأحزاب، مرحلة سيسير فيها الإصلاح السياسي متزامناً مع الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. لقد انطلق قطار المستقبل في مصر ولن تستطيع قوى الماضي شدّه الى الوراء. * أستاذ جامعي وعضو أمانة السياسات في الحزب الوطني الديموقراطي في مصر.