بعدما أجرت حلقة الأمس مقارنة مع تجربتي نزع النازية في ألمانيا ومحاكمة الماضي النمسوي، هنا التتمة الأخيرة: كانت سياسة اجتثاث البعث، وكما اعترف لاحقاً مسؤولون أميركان، من الأسباب المنتجة للتطرف والارهاب، بدل ان ينشأ عنها أي توحّد وطني، خصوصاً وقد ترافقت مع حل الجيش وانهيار مصدر معيشة مئات آلاف العراقيين راجع مايكل أر غورسون في"نيويورك تايمز"، 20/10/2004. وجاء ضرب الخدمات الاجتماعية مؤلماً بعدما كانت سنوات الحصار التي تلت حرب تحرير الكويت قد عززت الدور الاقتصادي للدولة، وهو أصلاً كبير. ذاك ان من صاروا بعثيين، لهذا السبب او ذاك، هم الذين تسلموا شؤون التعليم والصحة والأشغال العامة وغير ذلك من قطاعات حيوية لا توجد الكفاءات المطلوبة خارج البعث لضمان تسييرها. فقد شعر السنّة الخائفون، بعد سقوط حكم سني وبعد التلويح الشيعي المتزايد بالفارق العددي، بأن الاجتثاث هو اسم حركي لإحداث تحول أكبر في السلطة والمجتمع. فهو ترافق مع اتساع دور الأحزاب الممثلة لسائر الطوائف والاثنيات الأخرى، فيما لم يبق للسنّة غير قوى وأوعية تنظيمية هامشية وقديمة ك"الحزب الاسلامي"المتفرّع عن حركة الاخوان المسلمين. وهو ما يفسر الحجم المتعاظم الذي بات يحتله المشايخ الراديكاليون السنّة في"تجمع العلماء المسلمين"، والذي يُعدّ بالنسبة الى المجموعات الارهابية في المثلث السني مثل"شين فين"قياساً ب"الجيش الجمهوري الايرلندي". لا بل يمكن أن يُعزى الى اجتثاث البعث بعض المسؤولية في انفجار الارهاب الذي توهّم القائمون به ملء بعض الفراغ، ولو سلبياً، في التمثيل السني. وأغلب الظن أن اعتبارات كهذه، مصحوبة بحل الجيش، دفعت عدداً من الضباط المسرّحين للانضمام الى العصابات الارهابية ونقل خبراتها التقنية اليها. ويمكن القول، في الحدود هذه، ان النتيجة الرهيبة التي ترتبت على الاجتثاث كانت تسريع وراثة"القاعدة"والتنظيمات المرتبطة بها، أو التي تشبهها، للبعث الذي فقد سلطته. وحتى في المناطق الشيعية نفسها، عمل الاجتثاث وحل الجيش على تضخيم ظاهرة الشيخ الشيعي مقتدى الصدر، الراديكالي والمشكوك برجاحته الذهنية. ذاك ان حركته كانت قد اتسعت، كما نقل عدد من التقارير الصحافية، لتضوي فيها بعثيين وجنوداً لجأوا اليها واحتموا بها خوفاً من الثأر و/أو بحثاً عن لقمة العيش. بيد ان الانصاف يقتضي التمييز، لأسباب عدة، بين التبعيث الذي اتبعه صدام وبين اجتثاث البعث. فالتبعيث كان قراراً مركزياً لا يُسمح بمناقشته، ناهيك عن معارضته. أما الاجتثاث فكان عرضة لانتقادات شتى من قبل بعض قوى النظام العراقي الجديد كما من الأميركان أنفسهم. ثم ان نزع البعث كما حصل، لم يستطع ان يشكل سياقاً ذا ديمومة، ولو نسبية، بل بدا شديد الارتباط بتقلبات السياسة الأميركية وتناقضاتها واكتشافاتها للواقع العراقي المتناقض هو أيضاً. لهذا اختلفت المنهجية البعثية الصارمة في التبعيث عن اعتباطية اجتثاث البعث وهشاشته. ودائماً عمل عدم وجود خطة أميركية لما بعد الحرب، ونزاعات وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، على إرباك السياسات المتبعة في العراق، بما فيها الاجتثاث. هكذا ظل الأميركان عرضة للمفاجأة الدائمة بالأوضاع المستجدة فيما كان هذا الوضع يجبرهم على الإستماع الى أصوات براغماتية ومغايرة عن تقلبات السياسة الأميركية راجع خصوصاً أتش دي أس غرينواي، بوسطن غلوب، 6/7/2004. وبالتدريج، وفي موازاة النتائج الكارثية للسياسة المعتمدة، بدأت تظهر الى العلن لغة جديدة حيال الاجتثاث. ففي شباط فراير 2004 انعقد مؤتمر"أعيان بغداد"، فدعا الى وقفه والبدء بالمصالحة الوطنية، فيما لاحظ أحد حاضريه أن"كلمة اجتثاث البعث قاسية ونحن نريد أن نهذّب هذه الكلمة قدر الإمكان"الحياة، 24/2/2004. وتحت وطأة الخوف من التلويح الشيعي بسلاح العدد، بادر الأكراد، وغالبيتهم الساحقة من السنة، الى رفع صوتهم ضد الاجتثاث، سيما وأنهم باتوا متيقّنين من أن المثلث السني لم يعد يشكل خطراً جدياً عليهم. هكذا انعقد مؤتمر للمصالحة الوطنية في مدينة أربيل في آذار مارس 2004 بدعوة مسعود بارزاني، رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني، فطالب بإلغاء قرار الاجتثاث، وكانت توصيته الثانية"توجيه دعوة الى مجلس الحكم لاصدار قرار يلغي قراره السابق وذلك بسبب زوال الأسباب التي استدعت الاجتثاث، وتجسيداً لمبدأ العفو عند المقدرة، وبغية إشاعة روح التسامح والسلام، على أن تُستثنى من القرار القيادات العليا للبعث وأولئك الذين ارتكبوا الجرائم بحق الشعب العراقي"الصحف، 28/3/2004. وكان السياسيون الأكراد قد بدأوا، قبل أشهر على ذلك، يؤكدون على أن محاكمة المرحلة السابقة يجب أن تقتصر على قيادات النظام من الصف الأول، على أن تكون قائمة المطلوبين ال55 هي الأساس، وليست قائمة ال200 مطلوب الموسعة الحياة، 28/12/2003. أما بعد تسليم العراقيين السلطة فاستمرت القيادات الكردية على خطها هذا، وأعلن رئيس اللجنة العليا المكلفة الإعداد للمؤتمر الوطني، فؤاد معصوم، السماح للبعثيين بالترشح الى المؤتمر الحياة، 5/7/2004. ومن ناحية أخرى، ميّز وزير الصحة يومذاك الدكتور خضير فاضل عباس بين"اجتثاث البعث"و"اجتثاث البعثيين"، معتبراً أنه"للأسف وقعت بعض قرارات اللجنة في الأخطاء نفسها التي وقعت فيها المكاتب الحزبية في زمن صدام حسين، فزُوّرت بعض القوائم لتشمل أسماء أشخاص على أنهم أعضاء رفيعون في الحزب، مما أدى الى ظلم كثيرين ممن لم تكن لديهم علاقة بالقرارات الحزبية. وللأسف لم تتمعن اللجان في هذه القوائم. لذلك طالب عدد من الوزراء بوضع حد لهذه اللجنة"الحياة، 11/5/2004. وفي النهاية أمكن أن تنحاز الى اللغة الجديدة هذه أصوات شيعية مؤثّرة كالدكتور ابراهيم الجعفري زعيم"حزب الدعوة الاسلامي"الذي سُمي نائباً لرئيس الجمهورية قبل ان يصبح رئيساً للحكومة، فأشار الى ان"عموم البعثيين لم يرتكبوا جرائم"، وان التعامل مع البعثيين الآن"خطوة عاقلة"، محذراً من"التسيّب". وهو لئن لم يمتلك أرقاماً محددة للحزبيين الذين طُردوا من وظائفهم، إذ"ما زال التحقيق جارياً"، أقرّ بأن"طردهم من المؤسسات لمجرد الشبهة أدى الى شللها"الحياة، 13/8/2004. وبدوره، شرع الكلام الأميركي في الموضوع، لا سيما مداخلات العسكريين، ينحو نحواً أكثر تدقيقاً، خصوصاً أن جنرالين أميركيين حذّرا بشدة من هذه السياسة. ويضيف الصحافي الذي نقل تحذيرهما أن"ملاحظاتهما تعكس غضباً واستياءً متعاظمين بين كثيرين من كبار القادة الأميركيين"إريك شميت، هيرالد تريبيون، 21/4/2004. حتى مثال الألوسي، المدير العام للجنة اجتثاث البعث، أعلن، في مطالع نيسان 2004، عن وجود مشمولين جدد بالاستثناء من الاجتثاث لأن من أهداف الحكم الجديد"خلق جو طبيعي في دوائر الدولة بعيداً عن اي مناخ من التوتر يؤدي الى تعطيل مسيرة الإعمار"صحيفة الصباح العراقية، 5/4/2004. وبلغة أخرى، تعاظم عدد القائلين ضمناً بالتمييز بين مشروع ايديولوجي يحاسب الجماعات، أكانت مسؤوليتها حقيقيةً أم متوهّمة، ويفتح الباب لأعمال الانتقام، وبين مشروع قانوني يقوم على المحاسبة الفردية لأصحاب الارتكابات على أمل أن يساهم ذلك في تعزيز الوحدة الوطنية العراقية، أو على الأقل أن يحول دون المزيد من تصديعها. فحينما قررت الولاياتالمتحدة، مُضطرةً، إشراك الأممالمتحدة في جهودها العراقية، كان اجتثاث البعث أحد الأمور التي أعرب مستشار الأمين العام للأمم المتحدة، الأخضر الابراهيمي، عن استيائه منها. فقد رأى، في مؤتمر صحافي عقده في بغداد، أن"من الصعب فهم تسريح آلاف من المدرّسين وأساتذة الجامعات والعاملين في القطاع الطبي والمهندسين والمحترفين الآخرين ممن نحن بحاجة ملحة اليهم الآن". كما أضاف بنبرة اتهامية مُحرجة:"السجناء معتقلون في معظم الأحيان من دون محاكمة أو اتهامات، ويجب توجيه اتهامات اليهم أو الإفراج عنهم، ومن حق أُسرهم ومحاميهم لقاؤهم"الحياة، 16/4/2004. وبعد أيام على زيارة الابراهيمي، وتحت وطأة المراجعة البادئة للسياسات السابقة، وفي ظل تكاثر عدد الضحايا الأميركيين، كما العراقيين، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، اعتمدت سلطة بول بريمر تغييراً مهماً: فمن جهة جعلت تمارس بعض التساهل الملحوظ في خصوص الاجتثاث وتسرّع حركة إعادة الموظفين المفصولين الى أعمالهم، لا سيما منهم المعلمين، مثلما أعادت الاعتبار الى قوات الجيش العراقي المحلول معلنةً عن تشكيل"فوج الفلوجة"بقيادة اللواء جاسم محمد صالح لكي يتولى، بدل الأميركان، دخول المدينة السنية العاصية وفرض الأمن فيها الصحف، 2/5/2004. وكان من الطبيعي ان تستمر أصوات كصحيفة"دايلي تلغراف"، اليمينية البريطانية، في تمسكها بنهج الاجتثاث، فكتبت في افتتاحيتها، فيما كانت الأعمال الارهابية في ذروتها، أن الأعمال تلك تحمل بصمات"المهنة البعثية"، وبصورة خاصة دمغة الحرس الجمهوري. وأضافت الصحيفة المعروفة بتعاطفها مع خط"المحافظين الجدد"الأميركان، معلّقةً على الاتفاق في الفلوجة ومحرضةً عليه:"إن مهمة كسب السنّة العرب الى النظام الجديد لم تجد ما يسهّلها في شروط الاتفاق الذي تم التوصل اليه مع المتمردين في نيسان، ما وفّر لهم مخرجاً هيّناً وسلّم الأمن الى ضباط عسكريين بعثيين هم غالباً ما يكونون متواطئين مع الارهابيين"ذي دايلي تلغراف، 25/6/2004. والشيء نفسه يصح في الجلبي الذي تمسك، رغم كل شيء، بروايته للأحداث معتبراً ان"إعطاء الوظائف لبعثيين سابقين هو مثل السماح للنازيين بدخول الحكومة الألمانية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية"إريك بوسنر، هيرالد تريبيون، 29/4/2004. وواضح ان الجلبي يفتقر الى معرفة دقيقة بما حصل في ألمانيا بعد الحرب، وبأن محاكمات نورمبرغ قد اعتبرها الألمان بأكثريتهم الساحقة تعبيراً عن عدالة المنتصرين الثأرية. ولهذا تم تقليص لائحة الحلفاء التي ضمت في البداية 4900 إسم من المتهمين بالارتكابات الى مجرد 854 إسماً. لكن الجلبي، كذلك، لم يكن على بيّنة مما فعله الأميركان أنفسهم في بلد كاليابان تحت ضغط الاعتبارات البراغماتية، أو ما اعتبروه، عن حق أو خطأ، مراعاة للسكان. فالجنرال ماكآرثر إنما راهن على توسيع الفجوة بين امبراطور اليابان وأصحاب النزعة العسكرية عبر تقديم الامبراطور بوصفه ضحية لهم. ومع أن القرائن كلها تقول إن هيروهيتو من كان وراء الحماسة للحرب والانخراط فيها، في آسيا أولاً ثم في الحرب العالمية الثانية، وُجّه اللوم الى الجنرالات السيئين وحدهم. فهم، بحسب الرواية التي اعتُمدت، لم يكتفوا بتضليل الشعب الياباني المحب للسلام بل ضللوا الامبراطور المسالم أيضاً. هكذا جُعل هيروهيتو رمزاً للبراءة اليابانية لأنه في حال محاكمته على جرائم الحرب يغدو الانهيار المصير المحتّم للبُنية الحكومية كلها فيما تصير الانتفاضة العامة أشبه بقدر لا رد له. وعلى ما يروي جون دبليو دوير في كتابه"معانقة الهزيمة: اليابان على أثر الحرب العالمية الثانية"، ذهبت الادارة العسكرية الاميركية في اليابان أبعد من ذلك: فهي لم تكتف بحماية الامبراطور من المحاكمة كمجرم حرب، بل منعت استدعاءه كشاهد، وطالبت محكمةَ جرائم الحرب في طوكيو بضرورة التأكد من ان الشهود ومحامي الدفاع لا يزجّون باسمه أبداً. فحينما خالف هذا المبدأَ أحدُ المتهمين، وهو الجنرال توجو، معلناً ان ما من ياباني كان يمكنه مخالفة إرادة الامبراطور، طُلب منه ان يغير شهادته. فهيروهيتو، بعد كل حساب، هو"الجنتلمان الأول في اليابان"بحسب اللقب الذي أطلقه عليه ماكآرثر. وبالعودة الى العراق فإن الصوت المختلف والمعارض منذ البداية للاجتثاث كان حركة"الوفاق الوطني العراقي"التي يتزعمها رئيس الحكومة السابق إياد علاوي، وتضم بعض المعتدلين من السنة والشيعة. فعلاوي بعثي سابق وبراغماتي فر من بغداد الى لندن أواسط السبعينات حيث شكّل مجموعة معارضة تعاونت مع السي اي آي، كما ضمت حركته كثيرين من البعثيين التائبين. وقد رأى علاوي الذي ربطه بالجلبي تنافس حاد عززته علاقات الأخير بالبنتاغون، أن قرار الاجتثاث لا يفرّق بين مجرمي البعث وقيادييه، وان هذا ما دفع كثيرين منهم الى المشاركة في أعمال مسلحة ضد قوات التحالف. وعلى نحو متكرر وصفت حركة"الوفاق"القرار بالعقيم ورأت أنه يُفشل"كل المشاريع المطروحة لتفعيل ثقافة التسامح". فالقضية ليست اجتثاث البعث بقدر ما هي اجتثاث الإرث الارهابي للنظام السابق، وهو ما لا يتحقق، في رأيها، الا بتقديم المجرمين الى المحاكم المختصة. ولم ينف قياديو"الوفاق"استعداد حركتهم لاستقبال تائبين بعثيين آخرين على أن يتم التعامل معهم بوصفهم حالات فردية الحياة، 12/1/2004. ومع تشكيل"مجلس الحكم"بات علاوي ومعه السياسي السني عدنان الباجه جي يتزعمان الدعوة الى مصالحة وطنية شاملة تضم البعثيين الذين لم يرتكبوا أعمالا تُصنّف على انها"إجرامية"، فيما كان يمثل التيارَ الثاني الجلبي والسياسي الشيعي الآخر موفق الربيعي، مع أن الأخير أبدى لاحقاً"مواقف تعكس تراجعاً عن معارضته لنهج المصالحة"الحياة، 20/1/2004. وقد كتب علاوي بهذا المعنى مقالاً في"واشنطن بوست"ترجمته صحف عربية عدة، اعتبر فيه أن"السياسة الأميركية في نزع البعثية تعيق استعادة الحياة السياسية والاقتصادية في العراق"، وأن في وسع النهج هذا أن يخلق ثقافة من"الاتهامات الزائفة والتزلمية". وهو يقول واصفاً الاجتثاث:"بين ليلة وضحاها رأينا معظم البيروقراطية المدنية تُحلّ والكثيرين من الموظفين النزيهين يُرسلون على غير وجه حق الى بيوتهم مُفقَرين". وأضاف:"بضربة واحدة أرسلنا، كذلك، 40 ألف جندي عراقي، أغلبهم وطنيون، وفي سياق العملية هذه أوجدنا فراغاً أتاح ازدهار المتمردين والارهابيين والمجرمين"واشنطن بوست، 28/12/2003. لكن موقف رئيس الحكومة السابق لم يكن سهلاً في ظل تنامي الأعمال الإرهابية وتورّط البعثيين فيها الذي ضاعفته، كما سبقت الإشارة، عمليات الاجتثاث. وهو ما جعل سياسته، داخل مجلس الحكم، تتراوح بين المطالبة بالعصا والمطالبة بالجزرة. وقد أشارت تقارير صحافية الى ان وضعاً كهذا أضعف موقعه قياساً بموقع منافسه الجلبي في ما خص الاجتثاث راجع مثلاً الحياة، 20/1/2004. وخلال مراسم تسلم السلطة من الاحتلال، أواسط 2004، عكس علاوي هذا الموقع الملتبس في خطاب القسم الذي ألقاه. فقد هدد البعثيين الذين لم يتورطوا في ارتكابات صدام لكنهم لا يتعاونون مع السلطة ضد الارهابيين. وفي اليوم التالي ذُكر أن الخطاب أثار"ارتياحاً واسعاً لدى الأحزاب التي أيدت حملة اجتثاث البعث"، وأن سبب موقفه هذا أنه"صُدم بالتقارير التي وصلت اليه وتفيد ان البعثيين الذين سُمح لهم بالعودة الى الوظائف تحولوا الى"عيون"ضده وضد الوضع الجديد في البلد". ونُسب الى"مصدر"في"حركة الوفاق الوطني"ان"شبكات بعثية شُكلت لجمع المعلومات الأمنية لحساب أجهزة النظام السابق، ومنها الى الجماعات الارهابية". وبحسب"المصدر"نفسه أن"كثيرين من البعثيين تلقوا اتصالات من أزلام النظام السابق، وكُلّفوا مهمات أمنية بحتة لمتابعة أهداف حيوية تشمل تحركات أعضاء مجلس الحكم المنحل وزعامات الأحزاب الرئيسية وتحركات الحكومة الحالية"الحياة، 29و30/6/2004. مع هذا، وفي ما يشبه الانقلاب على سياسة الاجتثاث، أعلن علاوي عن عفو يشمل من قاتلوا الجنود الاميركيين، لا بل رأى ان وجهة نظر حكومته، الجديدة حينذاك، هي ان"المعارضة للاحتلال الأميركي يمكن أن تكون مبررة"ذي غارديان، 5/7/2004. وذُكر ان العفو العام يشمل حتى الذين ساعدوا في أعمال القتل من دون ان يشمل الذين مارسوا بأنفسهم القتل هيرالد تريبيون، 5/8/2004. وكانت"نيويورك تايمز"قد نشرت، قبل ذلك، تقديرات حول لقاءات جرت بين علاوي وبين"أعضاء بعثيين سابقين يعملون في المقاومة وقادة عشائريين لإقناعهم بأن مصالحهم ليست نفس مصالح المقاتلين الأجانب. وهو لم ينفِ ذلك، مُقرّاً بالتفاوض"مع غير المجرمين"والتشدد مع الزرقاوي ومن يماشونه أو يشبهونه نيويورك تايمز، 11/7/2004. وكان يتبدّى أن هذه ستكون السياسة الرسمية التي سيعتمدها العراق مع تسلم العراقيين السلطة، أو على الأقل جزءاً منها. ورغم ان انتفاضة مقتدى الصدر عادت لتتجدد في النجف، جاء اتهام القضاء العراقي للجلبي بتزوير عملات وتفتيش مكاتبه واحتجاز كومبيوتراته ليدل، ولو بطريقة سخيفة، الى ان الوجهة الجديدة لا تراجع عنها الصحف خلال 8-10/8/2004. وأهم ما في الوجهة هذه، في نظر علاوي، أنها مفيدة ونفعية لجهة تقويض النشاطات المسلحة. وفي النهاية تراجعت بغدادوواشنطن عن سياسة اجتثاث البعث من دون ضجيج كبير. كذلك أصدر علاوي في أيلول قرارا بحل لجنة الاجتثاث واستبدالها بنظام قضائي أكثر ليناً، مطالباً وزراءه بعدم التعاطي معها ومعقّداً دخول أفرادها الى"المنطقة الخضراء"، وبعد ذاك طالب اعضاءها بمغادرة مكاتبهم الرسمية راجع إدوارد وونغ وإريك إيكهولم، نيويورك تايمز، 13/10/2004. وفي الغضون هذه لم يتراجع الطرف العراقي الاكثر جذرية. ففي مقابلة أجرتها معه مجلة"الباييس"الاسبانية قال الجلبي وكانت انهارت علاقته بواشنطن واتهمه بعض كبار الرسميين الاميركان بتسريب معلومات الى ايران تسببت بمقتل اميركيين:"إن الشيء الأول الذي ينبغي القيام به هو التخلي عن هذه الخطة التي تهدف الى إعادة دمج البعثيين"، أما"المقاومة"فأصر على ان البعثيين وحدهم هم الذين يوجّهونها، نافياً كل كلام عن السكان المحليين أو الأصوليين أو الإرهابيين القادمين من الخارج وكالة الصحافة الفرنسية، 31/7/2004. لكنْ بعد يوم واحد فقط على نشر مقابلة الجلبي، كتب أحد نواب وزير الدفاع في عهد رونالد ريغان، إف. جاي. بنغ ويست، التالي:"إن الانتفاضة تتشكّل من القبائل السنية في شمال بغداد وغربها"وال ستريت جورنال، 2/7/2004. وبالطبع ولّد التراجع عن اجتثاث البعث غضباً متواصلاً في البيئة الشيعية انظر مثلا مقال زهير شنتاف على www.nahrain.com/d/news/04/04/28/nhr428g.html ومقال وداد فاخر في صحيفة إيلاف الاليكترونية في 24/9/ 2004. وعناوين بعض هذه المقالات شديدة الدلالة: فشنتاف، مثلاً، عنون مقاله ب"إلغاء اجتثاث البعث والبدء باجتثاث الشيعة". ومن ناحية أخرى نشرت صحيفة"القدس العربي"اللندنية عدداً من المقالات التي كتبها سنّة تهاجم الاجتثاث بلغة تدافع عن البعث. وقد وصل الأمر بجواد المالكي، نائب رئيس حزب الدعوة الاسلامي، أن اعتبر أن سلوك علاوي في تفكيك الاجتثاث يقع"خارج القانون"وأن"للجنة كل الحق في إزاحة كل أثر للبعثيين"وونغ وإيكهولم، نيويورك تايمز، 13/10/2004. لكن المعركة كانت قد انتهت عملياً. وجاء تفسّخ وتقاتُل القائمين على الاجتثاث ليكمّل هذه النهاية غير السعيدة لجسمٍ وُلد مصاباً بإعاقات عدة. وجاء الفصل الأخير مع نهايات صيف 2004 حين سافر المدير العام للجنة مثال الألوسي الى اسرائيل لحضور مؤتمر في هرتسليا لمكافحة الارهاب، فطرده الجلبي من حزب المؤتمر ثم أذاع هو نفسه بيانا باستقالته أنظر إيلاف، 26/9/2004. وأغلب الظن أن مسايرة الجلبي للأجواء الشيعية بوصفها عربته الجديدة الى السلطة هي التي حملته على اتخاذ هذه الخطوة، هو المعروف تقليدياً بعلاقاته الوثيقة مع الاسرائيليين، لا سيما منهم الليكوديين. وفي محل الألوسي حل علي فيصل اللامي الذي هو، في الوقت نفسه، عضو في حزب الله الشيعي الراديكالي. مع هذا فالمسألة لا تقتصر على"مؤامرة"أراد الجلبي تنفيذها، ولا على"حكمة"حاول علاوي إبداءها. فبعد انقضاء أشهر على حكومة الأخير، وفي تقييم إجمالي للحساب، بدا ان تنظيف الوحل المتراكم صار يتطلب مساحيق غير عادية. فقد تحدثت"نيويورك تايمز"مثلاً عن ان"البعثيين السابقين الذين أعيد قبولهم في المناصب الحكومية، من غير احتياطات كافية، ربما كانوا يساعدون الانتفاضة من الداخل". وذكرت انه في أيلول اعتقل الجيش الاميركي اللواء طالب عبد غائب اللهيبي الذي كان سُمّي قائداً لثلاث فرق في الحرس الوطني العراقي في منطقة ديالى العاصية، بتهمة علاقاته مع المتمردين. كما ذكرت انه قبل ذلك، وفي آب أغسطس، اعتقلت قوات المارينز قائد شرطة محافظة الأنبار وباشرت التحقيق معه حول ما يُشتبه بعلاقة تجمعه بالتمرد. وكان المذكور، ويدعى جعدان محمد علوان،"بعثياً رفيعاً إبان سنوات حكم صدام". أما"فوج الفلوجة"فتبخّر على نار الضغط الذي مارسه المتمردون، وفي غضون فصل الصيف انتهى أمره بينما انضم كثيرون من أعضائه الى المقاتلين السنّة وونغ وإيكهولم.... وكانت وقائع كهذه شاهداً على ان مشكلة العراق غدت أصعب من ان يحلها التراجع عن اجتثاث البعث، بعدما عجز اجتثاث البعث عن حلها. فالسؤال في النهاية ليس موت الاجتثاث بل ولادة العراق. ويُخشى أن يكون الملح نفسه قد فسد بحيث غدا التمليح مستحيلاً. * كاتب ومعلّق لبناني.