رضوان نصّار اسم عربي بامتياز، لكنّ صاحبه برازيلي من أصل لبناني ولد في العام 1935 في ضواحي ساو باولو بعد خمس عشرة سنة من وصول والده المهاجر الجنوبي الى البرازيل. ليس المهم ان يكون رضوان نصّار في السبعين من عمره الآن، ولا أن ينتمي الى الجيل الثاني وربما الثالث من المهاجرين اللبنانيين الذين فقدوا أو يكادون يفقدون ذاكرتهم الاولى، فهذا الكاتب يمثل حالة خاصة في الحركة الادبية البرازيلية الحديثة، وقد أحدث كتابه الأول، وهو عبارة عن رواية عنوانها"أثر عتيق"أو"بيت الذاكرة"بحسب الترجمة الفرنسية ثورة في المعترك الروائي البرازيلي عام 1975 حين صدوره وحصد من خلاله شهرة كبيرة وجوائز عدة. ولم تمضِ سنوات قليلة حتى اصدر روايته الثانية"كأس من غضب"1978 فارتقت به الى القمة، كما يجمع النقاد البرازيليون الذين احتفوا به أيّما احتفاء. وبعد هذه الرواية أعلن رضوان نصار انه سيتوقف عن الكتابة وفي يقينه ان الشغف الأدبي يجب ان يكون نضراً دوماً"وأن صوتاً خلواً من الحماسة لا يسمعه أحد". لم يُضر رضوان نصار ان يكون كاتباً مقلاً ومقلاً جداً. فهو لا يكتب إلا عندما يريد ان يقول أمراً ما، غير مألوف. ولم تهمه الشهرة ولا المجد الأدبي، هو الذي عاش - وما زال -حياة مزارع في وسط الطبيعة، وقد أنشأ مزرعة حقيقية وعمل في حقل تربية الدواجن. حتى شهادة الحقوق تخاذل عن نيلها في مطلع الستينات وهو أصلاً لم يعرف الحياة الدراسية العادية. في الثامنة من عمره حلّت به"أزمة"صوفية ظل يكابدها طوال سنتين، ولم تسعفه صحته الواهية في الذهاب الى المدرسة. في الخامسة عشرة أكب على قراءة النصوص الدينية كالعهد القديم والعهد الجديد والقرآن. وقد لمس بعض النقاد أثر هذا الشغف الديني في نصوصه ولا سيما نصه الروائي الاول"أثر عتيق". لا شيء لافتاً جداً في حياة رضوان نصار ولا حدث ولا ضوضاء... روائي مبدع ولكن مقلّ، ومزارع بعيد عن صخب العالم. ولا يمكن تبرير هذا الإقلال في الكتابة لدى روائي لقي النجاح بسهولة وكان له موقعه للفور في الساحة الأدبية البرازيلية، تبعاً لما تتميز به لغته وأسلوبه السردي من نحت وهندسة وبناء حاذق، ونظراً الى ما ينعم به عالمه الروائي وشخصياته من نزعة حداثية مشرعة على"الواقعية القصوى"وعلى"المينيماليسم"والعبث والسخرية والمأساة والشخصانية... على ان واقعيته القصوى هيبرياليسم تقوم على الميل"الايجازي"او"الاضماري"الذي يفيد الكاتب منه كثيراً وپ"ينوّع"عليه. وعلاوة على شغفه بالنصوص الدينية لا يخفي رضوان نصار تأثره ببعض الكتاب البرازيليين مثل ماتشادو دي أسيس وغراسيليانو راموس وخورخي دي ليما وبعض الكتاب العالميين مثل توماس مان وأندريه جيد وألبير كامو... وإن لم يُنقل أي نصّ لرضوان نصار الى العربية حتى الآن فإن ترجماته الى الفرنسية او الانكليزية تظل هي نقطة اللقاء به والتعرّف الى أدبه. وبعد صدور روايتيه السابقتين بالفرنسية عن دار"غاليمار"باريس صدرت له حديثاً مجموعة قصص عن الدار نفسها تحت عنوان:"دروب"ترجمة هنري راييار في سلسلة"من العالم أجمع". وحاول المترجم ان يعتمد لغة تشبه لغة نصار شبه المنحوتة وذات العصب المشدود والغريبة بعض الشيء. القصة الأولى في المجموعة"الفتاة الصغيرة على الطريق"تحتل نصف المجموعة تقريباً وكان نصار كتبها في مطلع الستينات ولم ينشرها حتى العام 1994 في البرازيل. ثم ضمّها مع بعض قصص قديمة بدورها في مجموعة"دروب"التي كانت صدرت في العام 1997 في البرازيل ايضاً. إلا أن"رقاد"قصة"الفتاة..."في الدرج نحو ثلاثين سنة لم ينعكس سلباً عليها، فهي تبدو كأنها كتبت للحين من جراء جدتها وحداثتها وواقعيتها"القصوى". ولعلها امتداد حيّ للروايتين السابقتين. وإذا برز في رواية"اثر عتيق"صراع داخلي حاد بين الابن الراوي ووالده، فإن القصة الطويلة"الفتاة الصغيرة على الطريق"ترتكز على الصراع بين الأب والأم والذي تظل الفتاة الصغيرة غير مبالية به، لا سيما بعد"النزهة"التي قامت بها على"الطريق"مكتشفة مرّة جديدة العالم نفسه الذي لا يتغير. أما رواية"كأس من غضب"فيحتدم الصراع فيها بين الراوي وزوجته وينتهي به الى ان يعيد النظر في نفسه والعالم. الفتاة الصغيرة التي خرجت من البيت ليست هي مَن يروي هنا بل الراوي هو الذي يسرد"نزهتها"ليجعلها مثل سائر شخصياته التي من ميزتها أنها ترى دوماً افضل مما تفهم وإن كانت في أحيان لا ترى جيداً. هكذا ستتحوّل عينا الفتاة مرآة للشارع والاحياء والاماكن التي تجوبها عبثاً أي من دون غاية او هدف. اما المكان فهو قرية او مدينة ريفية حيث يحسن للفتاة ان تلعق"المانغا"في تجوالها وان تنظر الى"قضيب"الحصان الذي يبول، وقد دعاها الى رؤيته فتيان ثلاثة بلا أحذية ولا قمصان كانوا ينقلون أكياس الأرزّ من الدكان الى العربة. انها اشبه بالشاهدة الصغيرة او"المشاهدة"التي ترى بعينيها وتنصت بأذنيها وهي تسير على الطريق مكتشفة عالماً لا علاقة لها به لأنه عالم الآخرين. عيناها إذاً هما وسيلتها شبه الوحيدة للتعرّف ولو من بعيد الى هذا المكان بل الى هذه الاماكن. عندما تمر امام صالون الحلاقة تنظر الى الداخل لتبصر ما يحصل هناك، وفي احدى زوايا الشارع تبصر أولاداً يضربون كلباً وكلبة ملتصقين بعضاً ببعض، وعندما تمر امام دكان المثلجات تنظر بحسرة إلى البراد وتشتهي ان تأكل منه، ولكن لا مال معها، حينذاك تنصت الى احد الزبائن يقول:"الشعب البرازيلي متعب، متعب، متعب...". وعندما تواصل السير ترى سكيراً مرتمياً في الساقية، ترى شاباً على دراجة... تبصر سيدة ثرية تدعى انفراسيا فتمشي خلفها... وفي طريقها تتوقف امام مدرسة"دونا اودكسياً"فتنظر الى التلامذة عبر الزجاج والى المعلمة العجوز المشلولة جالسة على الكنبة قرب اللوح الاسود... التلامذة الذي من عمرها امامهم كتب مفتوحة وعندما تقلب المعلمة صفحة يقلبون صفحة. الجميع يحملون مراوح مثل المعلمة ويحركونها بأيديهم بحثاً عن نسمة ولو ضئيلة. وعندما تقترب من النافذة تسمع المعلمة توبّخ احدى التلميذات لانها"ضرطت"وتضربها بالمسطرة. ليست القصة هذه قصة قصيرة او طويلة، بل هي ذات طموح روائي واضح، بجوّها وتفاصيلها وايقاعها السردي ومشهديتها... فالفتاة التي"تخوض"هذه النزهة ستواجه احداثاً قليلة وستبدو رحلتها هذه اشبه بالعودة الى النقطة التي انطلقت منها هاربة: البيت او الحياة العائلة والعادة السرية التي يبدو انها مدمنة عليها ولا سيما في اللحظة الاشد ايلاماً، عندما ينقض والدها على أمها مشبعاً اياهاً ضرباً مبرحاً. ولكن قبل ان تصل الفتاة الى البيت تدخل سراً أحد الدكاكين فتنكب على التهام السمك المجففف وقطع السكر، لكن صاحب المحل"اميركيو"سيقبض عليها ويصرخ بها: اخرجي، من دون ان يضربها. واذ كانت ترتجف تقول له:"قالت لي أمي ان اقول لك انك دمرت حياتها"، فيصرخ في وجهها مرة اخرى:"اخرجي من هنا ايتها الكلبة الصغيرة القذرة". وعندما تصل الى البيت لاهثة تجد أمها امام ماكينة الخياطة فتصرخ بدورها في وجهها غاضبة لتأخرها. تتقيأ الفتاة وسط صراخ أخوتها الصغار كل ما أكلت في ذلك النهار: الفاصولياء، المانغا، السمك المجفف، السكر... تفرغ معدتها وتبكي. وعندما تخبر أمها عن دكان"اميريكو"تجن وترمي الكرسي وتصرخ بصوت عال:"لقد اهانني مرة اخرى، مرة اخرى، هذا القذر...". عندما يسمع الاب"زيكا"هذا الصراخ يدخل الغرفة صارخاً بامرأته:"يا كلبة"وينهال عليها ضرباً. تأتي الجارة وتحاول ان تهدئه قائلة له:"ارحم زوجتك"، فلا يبالي ويسأل زوجته:"من الذي أهانك؟". ويواصل ضربه اياها بشدة وجنون. وعندما تيأس الجارة تنتحي احدى الزوايا حاملة مسبحتها وتصلي. حين يغادر الاب تخرج الفتاة من مخبأها بعدما غرقت في لذتها المستوحدة. قد تختصر الرحلة التي قامت بها الفتاة والتي انتهت في البيت"العائلي"البائس جداً حياة بكاملها بل مجتمعاً بكامله، مجتمعاً متعدد الوجود والمعالم، متناقضاً وغريباً وقاسياً وطريقاً. انه الشارع البرازيلي في الاربعينات او الخمسينات والذي يشبه البيت او هو البيت الذي يشبه الشارع بفطريته وقسوته. وقد تذكر هذه الرواية القصيرة او القصة الطويلة بما سمي في فرنسا مع نشوء حركة"الرواية الجديدة"ب"مدرسة النظرة"حيث تكون"العين"هي البطل الحقيقي، على رغم انحياز هذه القصة او الرواية الى"الواقعية القصوى"التي تلقي على الواقع ضوءاً ساطعاً يحيله واقعاً اسطورياً. القصص الاخرى في المجموعة قصيرة وبعضها قصير جداً. قصة"قبل الفجر"مثلاً هي عبارة عن نص يسرده الراوي الذي ليس سوى كاتب، يجلس الى طاولته منذ الفجر، محاولاً ان يكتب. تنسل زوجته الى غرفته بهدوء، قميص نومها ينمّ عن جسد يحترق شهوة. يظل الكاتب صامتاً، عيناه مسمّرتان في الورق الابيض امامه. تقترب الزوجة من الطاولة وتكتب على احدى الاوراق:"انني في حاجة الى الحب". لا يجيب. تكتب ايضاً:"أجب". لا يجيب ولا يحرّك يداً مع علمه انها تتألم وتحترق رغبة، و"تتسول الحب". ثم يخطر له ان يكتب:"ليس لدي من حنان لامنحه". تقترب منه، ومن الوراء تغرز اصابعها في شعره. يسحب يدها. ثم بهدوء تغادر غرفته وكأنها امرأة مسرنمة أو"مروبصة". لا تعبّر هذه القصة عن حال الانقطاع بين رجل وامرأته فحسب بل عن موت الرغبة لدى كاتب وجد في الكتابة فعل حب وحيد أو نشوة تنقذه من رتابة الحياة"الزوجية". "البطن الضامر"قصة طريفة جداً يكتبها الراوي كرسالة يخاطب فيها امرأة تدعى"باولا"، ويقسّمها من دون أي مبرر هل تحتاج الكتابة الى مبرر؟ الى خمسة عشر مقطعاً. وخلاصة الرسالة انه يعتذر منها لقراره قطع العلاقة بينهما. رجل في الاربعين يخاطب امرأة كان يحبّها، يشكرها على كل ما بذلت من اجله. يقول لها ايضاً انه ليس ضد موقفها النسوي ولا ضد موقفها من الطلاق والاجهاض. ويصارحها:"اصبحت في الاربعين. الحق معك، لست محافظاً، انني ببساطة رجل ظلامي، ولكن دعي هذا الظلامي بسلام...". ويعلمها انه وضّب كل اغراضها ووضعها لدى البواب قائلاً:"افهميني جيداً باولا، انني متعب، متعب جداً...". ولا يخفيها انه بات على اتفاق مع العالم:"مقابل ضجيجه امنحه صمتي". اما قصة"حوالى الثالثة بعد الظهر"فهي نص"مفتوح"وعلى قدر من الغموض ولا يتخطى الصفحتين ويستهله الكاتب معرّفاً بجوّه قائلاً:"في هذه الغرفة المزدحمة بالطاولات وآلات الطباعة والاوراق، حيث يتقاسم محررون المعنى الحقيقي للعالم...". ولا يبوح النص بحدث ما او وقيعة لأنه مغرق في ضبابيته. والنص هذا يختلف عن سائر القصص ولا سيما القصة الاخيرة في المجموعة وعنوانها"الرجل العجوز"وهي ترتكز على"هواجس"او فانتسمات رجل عجوز تؤنبه زوجته العجوز بدورها باستمرار وتصر عليه ان يغتسل. وهذان العجوزان يؤجران غرفتين في دارتهما الواسعة لطالب شاب ومعلمة. والعلاقة بين الجميع شبه منقطعة، وكل واحد منهم يعيش عزلته على طريقته."لم تحترميني ابداً"يردد العجوز على مسمع زوجته التي لا تبالي به كثيراً ولا بمخاوفه وهواجسه. ويصرّ هو على ترداد جملة امامها:"ستحصل اشياء ما". وعندما تسأله ما هي هذه الاشياء، يجيبها بالجملة نفسها. يقف العجوز امام الستارة، يحدّق في الشارع يرى سيارة ويتوجس خيفة. وعندما يجلس الى المائدة يقول للآخرين انه يسمع وقع خطى. ولن ينتهي به امره الا جالساً وحيداً ينظر الى السماء وسط جو من الصمت الممزوج بالانتظار. رضوان نصار الذي لم يكتشفه وطنه الاول لبنان ولا العالم العربي كاتب من طراز خاص، على رغم اقلاله في الكتابة. وقد استطاع من خلال اعماله القليلة جداً ان يبدع عالماً طريفاً وفريداً ملؤه الالتباس والغموض والقلق والرغبة. وعبر هذا العالم احتل حيزاً كبيراً في المشهد الادبي البرازيلي الحديث. ترى متى نقرأ رضوان نصار بالعربية؟.