الروائي السوري خليل صويلح بعد عمله الروائي البارع (جنة البرابرة – دار العين 2014) يعود الكاتب السوري خليل صويلح برواية جديدة هي (اختبار الندم). الرواية التي ستصدر قريبا عن دار "نوفل - انطوان هاشيت"، تتخذ من دمشق الآن عالما روائيا وواقعيا لها. فالمؤلف لا يزال في المدينة التي من فرط واقعية النص، سنجدها وقد استبدلت رائحة الياسمين بالبارود وصوت موسيقى التخت الشرقي وضحكات الأصدقاء بدوي القذائف والقنابل المتفجرة. من هنا يمكن التماس أهمية رواية (اختبار الندم) ومن قبلها (جنة البرابرة) في أنها تنهض من بين ركام الحرب لتشكل صرخة حياة رغم كل ما يتضمنه النص من خسارات وصلت حد الندم. في رواية خليل السابقة (جنة البرابرة) أجرى الكاتب السوري تناصا مع التاريخ الدمشقي، من خلال اقتباس مخطوطة البديري "الحلّاق الذي دوّن القلاقل والاضطرابات التي عمت دمشق في القرن الثامن عشر الميلادي، ليرينا كيف يعيد التاريخ نفسه مع اختلاف الدرجة وشدة الفاجعة. أما في (اختبار الندم) فدمشقالمدينة المنهكة، مكان للفحص السردي بعد خمس سنوات من الحرب الطاحنة، ذلك ضمن حبكة روائية متشظية كالواقع المتشظي والممزق نفسه. وكأن الراوي يتحول إلى بديري آخر، ولكن دون الاهتمام بتفاصيل الأخبار المتلاحقة، بل بالغوص في عوالم شخوص هامشية ممزقة تقتات من خبز الموت لكنها تصر على التشبث بالحياة في صورتها الأقل رحمة. هكذا سنتعرف على الراوي (مشرف ومدرب ورشة سيناريو) يعيش عزلته إلا من بعض الشخوص القليلين الذين يظهرون ويغيبون، بعد أن تركه رفاقه إما إلى الهجرة أو الموت. إنه إذاً راوٍ يحاول ترميم مشروع رواية عشق من خلال البحث اللاواعي عن شخصية امرأة إما من الذاكرة أو الحاضر أو ما تهبه الصدفة، من أسمهان مشعل لنارنج إلى هنادي عاصي وحتى جمانة سلوم. في الرواية أيضا، سنلتقط خيط الرغبة السري عند الراوي منذ رواية خليل صويلح الأولى (وراق الحب) إلى روايته السابعة (اختبار الندم)، إلا أن الرغبة هنا ستظهر بإلحاح عند الراوي وكأنه دافع مضاد للفناء أو الاستسلام للحرب ومناخاته القاتلة. سنكتشف في الرواية عددا من الشخصيات، أولها اسمهان مشعل، الشاعرة المطلقة التي تعيش في واحدة من قرى الجنوب الآمنة، تفتش بين الأزهار والطبيعة عن مفردات ناعمة لنصها الذي يقع في تصادم مع الراوي، صاحب الفهم المغاير للشعر، فالشعر بالنسبة لبطل الرواية تقشير للبلاغة الزائفة عن الحياة. أكثر النقاشات تدور بين الاثنين في نوافذ الدردشة على الفيسبوك، كنوع من التمهيد للقاء مؤجل وقليل الحدوث، في وسط هذه العلاقة تظهر شخصية نارنج الفتاة الدمشقية والناشطة السياسية التي اغتصبت مرتين، الأولى باسم الحب من حبيبها "الثائر" المزيف الذي وشى بها لرجال الأمن، ثم هرب إلى أوربا، كمعارض والاغتصاب الثاني من رجل الأمن الذي لم يكتف باغتصابها بل شوّهها بقطع أذنها. وهنا يظهر المؤلف منحازا للإنسان وليس لأي طرف، مستمدا بهذا العمر الأطول لنصه الروائي خلافا لتلك الأعمال المنفعلة التي لن تصمد أطول من نهاية الحرب. سرد الكاتب السوري في أماكن عديدة سيتحول لاعتصار كابوسي لذات ممزقة ومنهكة من الحرب التي تفترض بالنص المتخيل أن يدخل في الواقع إلى أبعد حد، ليسقط الستار الزجاجي بين المؤلف والراوي، كما نرى خليل صويلح وهو يتحدث عن تلقيه خبر مرض المخرج السينمائي السوري رياض شيا (توفي خلال كتابة الرواية في يونيو الماضي)وأيضا سيظهر وجع تلقي خبر ذبح الشاعر السوري بشير العاني مع نجله في دير الزور من قبل داعش. هذه القصص الواقعية والمتخيلة من الواقع تظهر في كسرات من شظايا الجحيم السوري الذي يتحداه خليل صويلح بالاستمرار في الكتابة وبأسلوبه السردي الخاص من حيث التكثيف والخروج عن المعجم السردي السائد. ليهبنا وثيقة روائية أخرى تنجو من الموت، كما نجت روايته البديعة (جنة البرابرة). (مقطع من الرواية) 48 صبيحة يوم تصوير آخر، إثر فشل المحاولة الأولى: كان سمير عمّار ورفاقه في الورشة مشغولين في نقاش مع الاسكافي حول ضرورة تثبيت لافتة من الكرتون المقوّى في واجهة الدكان تحمل عبارة "لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء" بتوقيع الشاعر محمد الماغوط، كمشهد افتتاحي لشريط" بلاد نصف نعل"، وكاد النقاش ينتهي إلى شجار، فقد خشي الاسكافي من أذى أمنيّ سيلحق به جرّاء خشونة العبارة ومقاصدها الغامضة بالنسبة إليه، لكنه سيوافق على مضضٍ، بعد أن اخرج سمير من حقيبته موافقة أمنيّة مزوّرة تحمل أختاماً رسميّة. كان على كاميرا نارنج أن تنزلق بليونة من الأعلى إلى الأسفل، بلقطة مقرّبة على محتوى العبارة، ثم إلى مطرقة الاسكافي وهي ترتفع وتنخفض بإيقاع متواتر، لحركة يده وهي تلتقط المسامير من فمه، وتثبيتها فوق رقعة الحذاء المقلوب، مروراً بكومة من الأحذية البالية، والجلود، والمسامير، والخردة، وعلب الأصباغ، وصورة بالأبيض والأسود للإسكافي ببزّة عسكرية إلى جانب دبّابة كذكرى من حربٍ قديمة، الصورة مثبّتة بمسمارٍ صدئ على زاوية الإطار الخشبي للباب، بالإضافة إلى راديو ترانسستور، كان يبث بالمصادفة أغنية مبهجة لليلى مراد. إثر إحدى موجات النزوح، خُصص هذا القصر كي يكون مدرسة ثانوية موقتة لأبناء مدينة القنيطرة المدمّرة منذ حرب حزيران 67، فبقيت الشعارات الوطنية، ووعود التحرير على الجدران، وفي الممرّات، يغطيها الغبار وآثار حريق، فكانت فرصة لأن تلتهم العدسة ما تبقّى من هذه الكتابات بشوطٍ واحد، على أن يتمَّ تقطيعها مونتاجياً أثناء التركيب النهائي للشريط. بمجرد أن غادرنا موقع التصوير، باغتتني نارنج بسؤالها عن انتحار نايا مروان، وهل حصلت على معلومات جديدة عن الحادثة؟ أجبتها بالنفي، وبأن أحمد ناظم أخبرني أنه فقد كل ملفاته المخزّنة على كمبيوتره المحمول نتيجة فايروس اخترق الجهاز. كان قد بقي لدي أمل ضئيل في اكتشاف معلومات مجهولة ترمّم الصورة الممزّقة لنايا، بأن يستجيب من يعرفها عن قرب للنداء الذي وضعته على صفحتي في الفيس بوك بقصد تزويدي بأية معلومات عنها، أو نصوص لها. بعد يومين أجابني أحدهم بأنها كانت قد نشرت قصة في مجلة "شرفات" المحتجبة اليوم، بعنوان"طقوس روحانيّة"، لكنه خلال البحث على الانترنت، اكتشفَ أن موقع المجلة لم يعد موجوداً، وأن لا أرشيف ورقياً للمجلة بعد احتجابها عن الصدور، عشية اندلاع الحراك في البلاد. صديق افتراضي آخر، لا أعرفه شخصياً، أبلغني بأن كل ما يعلمه عنها أنها كتبت رواية عنوانها" الملاذ"، سبق أن حاولت نشرها في إحدى دور النشر الصغيرة، لكنها لم تصدر فعلياً لأسباب لا يعرفها. جولة مضنية على ما تبقّى من دور النشر الخاصة التي ما تزال تعمل بصعوبة، بعد أن أطاحت الجماعات التكفيرية المطابع في ضواحي العاصمة، وأحرقت مستودعات الكتب، انتهت بي أخيراً، إلى ناشرٍ عجوز يمتلك داراً صغيرة في قبوٍ معتم، علمت بأن نايا زارته مرّة، وخرجت غاضبة. قال، وهو يحشو غليونه بالتبغ: * الملاذ؟ لا أذكر مخطوطاً بهذا العنوان، ولا أعرف أحداً باسم نايا مروان، عمَّ تتحدث الرواية؟ * أظنّ بأنها رواية كابوسيّة. أجاب، وهو ينفث دخان غليونه باستعلاء: * لا أعلم لماذا لا يلجأ كتّاب اليوم إلى كتابة روايات من طراز "ذهب مع الريح"، أو "الأجنحة المتكسّرة"، أو"الوسادة الخالية"، أو..؟! عند هذا الحدّ، نهضتُ معتذراً، لكنه أومأ بيده أن أنتظر قليلاً. أخرج من بين كدسة كتب إلى يمينه كتاباً، نفض الغبار عنه، ثم قال بغطرسة واضحة إنه من تأليفه. شكرته وأنا أتناول الكتاب منه، ثم خرجتُ مسرعاً. ألقيت نظرة عجلى على عنوان الكتاب" أطياف العشق". كانت رائحة الرطوبة تملأ المكان. صعدت الدرج المظلم، كما لو كنتُ أعمى، وقد شعرت بالاختناق، إثر هبوب رائحة زنخ أسماك ميتة، سترافقني إلى الشارع. تمهّلت أمام بائع كتب ومجلات مستعملة، كان يفرشها على رصيف مجاور للمتحف الوطني، على أمل أن أجد أعداداً من مجلة"شرفات". سألني البائع إن كنت أبحث عن عنوانٍ محدّد؟ فهزّزت رأسي بالنفي، ثم دسست"أطياف العشق" بين الكتب المعروضة، من دون أن ينتبه البائع. انحدرت باتجاه شارع البريد، وانتبهت لأول مرّة إلى لوحة معدنية تنتهي بسهم، مكتوب عليها" متحف الطوابع البريدية ". لم أكن يوماً، من هواة جمع الطوابع، لكنني قرّرت أن أتبع حركة السهم، بسبب الضجر وحده، وبعض الفضول في معرفة محتويات هذا المتحف. صعدت الدرج الرخامي الأبيض إلى الطبقة الأولى من مبنى البريد نحو قاعة متوسطة الحجم. لم أجد أحداً في المكان، وقفت أتأمل مجموعات الطوابع التذكاريّة القديمة من وراء الزجاج، قبل أن تدخل بعد دقائق امرأة أربعينية بدينة، من بابٍ جانبي، وتأخذ مكانها وراء الكونتوار. كانت بعض الطوابع المعروضة في الواجهة، تنتمي إلى فترة الانتداب الفرنسي مدموغة بعبارة"الجمهورية السورية"، وأخرى تخلّد شخصيات وطنية من مرحلة الاستقلال، وأعياداً رسمية، وأماكن أثريّة، وقلاعاً قديمة، ومنظراً لقطاف القطن. قرّرت أن أقتني طابعاً واحداً يحمل رسماً لرائد المسرح السوري أبي خليل القباني بقصد إهدائه لنارنج كذكرى تخصّ مشروع فيلمها عن الحارس. حين اقتربت من الكوة الزجاجية التي تجلس خلفها الموظفة البدينة كي أسدّد لها ثمن الطابع، شممتُ رائحة عطرها، فيما كانت كحلتها سائلة حول عينيها، بالإضافة إلى أخطاء صريحة في ترتيب إغلاق أزرار قميصها. غادرتُ القاعة، بيقينٍ تام، إن وراء الباب الجانبي الذي خرجتْ منه الموظفة، يوجد مستودع مهمل، يختبئ داخله رجل ما، قد يكون أميناً للمستودع.