يُروى أن أحد طلاب كليات الطب المعروفة بتميزها، منذ ما لا يقل عن مئة سنة، قدم شكوى إلى عميد تلك الكلية، عن تكرار غالبية أسئلة الامتحانات على مر السنوات، حتى عرفها جميع طلبة الكلية. فأجابه العميد إجابة تستحق التمعن وهي: الأسئلة لا تتغير بالقدر نفسه الذي تتغير به الأجوبة! وهذا هو ما حدث، وبالطبع بدرجة اقل، بالنسبة إلى ثوابت علم الاقتصاد. أي أن الأجوبة تتغير بنسبة أعلى من النسبة التي تتغير بها الأسئلة في الاقتصاديات الحديثة. وقد كتب بروفيسور الاقتصاد في جامعة شيكاغو، الذي كان من أهم من فازوا بجائزة نوبل، جورج ستيغلر، بحوثاً علمية في مجالي الاحتكار والمنافسة، أكثر وربما أهم من أي اقتصادي آخر في القرن الماضي. وقال في آخر حياته إنه اتضح له أن مضار الاحتكار قد تناقصت، بسبب التقدم التقني وارتفاع تكاليف المعلومات، إذا استثنينا الاحتكار الذي تحميه الحكومات من المنافسة الخارجية الدولية. وسنضرب أمثلة لزيادة المنافسة التي ألحقت أضراراً ملموسة بالجميع. ولنبدأ بصناعة الطيران المدني الأميركية. فبعيد تولي الرئيس كارتر الرئاسة الأميركية، ُفتحت أبواب المنافسة لكل من أراد تقديم الخدمة بالطريقة التي يراها، والأسعار التي يفضلها. فماذا حدث؟ في البدء انخفضت الأسعار المعلنة. وتدريجاً، ساءت الخدمة، إلى أن بلغت مستوى غير مسبوق من السوء. فازدحمت المطارات، وأفلست شركات كبرى، لها تجربة طويلة في الصيانة والتدريب، وبقية مكونات خدمة أفضل. غير أن الأسعار الحقيقية ارتفعت، إذا أخذنا في الاعتبار ازدحام المطارات، وضيق المقاعد، وتدني مستوى الخدمة عموماً، حتى كاد يتفق كل متابع متمعن، على أن الأسعار الحقيقية التي يدفعها المسافر منذ أن يغادر منزله أو مكتبه، إلى أن يعود، أكثر بكثير مما كانت عليه قبل استحداث التنظيمات التي فتحت باب المنافسة للجميع، ليس بالنسبة إلى المسافر فحسب، وإنما بالنسبة إلى المجتمع بأكمله. فقد الكثيرون مصدر قوتهم اليومي، وانخفضت أجور من استطاع البقاء. وامتدت في ما بعد حمى المنافسة إلى أوروبا، فحدث فيها ما حدث في أميركا. ولم يبق اليوم أكثر من ثلاث إلى خمس شركات في العالم، تقدم خدمة لا يقل مستواها كثيراً عما كانت عليه في الستينات كلها في آسيا تقريباً. وقد يكون من أسباب تلك الإشكاليات المعروفة الآن للجميع، تعقيدات خدمات الطيران بالنسبة إلى غالبية المسافرين الذين لا يدفعون، بالطبع، تفاصيل وتكاليف رفع مستواها. ومثال آخر، تقديم الخدمة الطبية بكل أنواعها. فهل يستطيع غالبية المرضى أكثر من معرفة الأسعار"المعلنة"؟ مع انهم قد يعرفون مستوى الخدمة الفندقية التي يقدمها المستشفى أو مكتب الطبيب، ولكنهم لا يستطيعون تقويم مستوى الأطباء، ولا معرفة ضرورة بعض الإجراءات المكلفة، ولا كيفية تقويم مستوى نوعية أخرى من الخدمات التي لا يستطيع تقويم مستواها غير الاختصاصيين. أي أن المنافسة، بحد ذاتها، لا تضمن انخفاض الأسعار الحقيقية التي يدفعها عامة المستهلكين، عندما تتطلب معرفة نوعيتها ومستواها، دفع تكاليف المعلومات تكاليف الإلمام بها ومتابعتها التي لا يعرفها إلا المتخصصون. ومثال آخر، ففي بلد ضخم جداً كالصين، لا يقدم خدمة ما يسميه السعوديون" الهاتف الجوال"أو"الموبايل"إلا ثلاث شركات. وفي المقابل، في بلد كهونغ كونغ، تقدم الخدمة ست شركات. فلاحظ المتابعون ارتفاع مستوى الخدمة في الصين، وتدنيها في هونغ كونغ. كما ارتفعت نسبة إسهام قطاع الاتصالات في زيادة الدخل الوطني الذي تفيد زيادته الجميع في الصين، وانخفضت نسبة إسهام زيادته في هونغ كونغ. والمنافسة الكاملة، أو القريبة منها، أي ضخامة عدد البائعين والمشترين، التي كانت وما زالت، تُدرَسْ في فصول نظرية"الأثمان"، لها أسباب، تعود بالدرجة الأولى إلى تسهيل توظيف الرياضيات في التنظير العلمي، وإلى محاولة تيسير الفهم للمبتدئين. وتسامى تقدم تقنيات توليد الكهرباء، حتى كاد ينهي الاحتكار الذي كانت تتمتع به شركات التوليد قبل سنوات قليلة، على الأقل، في غالبية بلدان أوروبا وأميركا الشمالية. واتضح اليوم أن من أهم أسباب تناقص أهمية المنافسة، بحد ذاتها، في رفع الكفاءة الاقتصادية، تسارع التقدم التقني، المصحوب بزيادة تعقيدات معرفة الأسس التي بموجبها قد يستطيع المستهلك المفاضلة بين معظم السلع والخدمات التي يشتريها، على خلاف ما كانت عليه سهولة المفاضلة، قبل بضعة عقود. وملخص الموضوع: تؤدي المنافسة، في معناها الاقتصادي، إلى رفع مستوى الإنتاج، وتقليل الأسعار، عندما تكون معرفة المستهلك عن نوعية الخدمة أو السلعة التي يشتريها، مقاربة، كما كان في الماضي، لمستوى معرفة بائعها لكثير من تفاصيلها. والمستهلك لا محالة، يدفع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، الثمن"الحقيقي"للسلع والخدمات، التي بطبيعة الأمور، ليس بمقدور غالبية المستهلكين المفاضلة بينها، حتى وإن بدا لغالبيتهم أنهم لا يعرفون إلا السعر النقدي المباشر. أكاديمي سعودي.