كتب بروفيسور الاقتصاد في جامعة شيكاغو الذي كان من أهم من فازوا بجائزة نوبل، جورج ستيغلر، بحوثاً علمية في مجال الاحتكار والمنافسة، أكثر وربما أهم من أي اقتصادي آخر في القرن الماضي. وقال في آخر حياته انه اتضح له أن مضار الاحتكار قد تناقصت، بسبب التقدم التقني وارتفاع تكاليف المعلومات، إذا استثنينا الاحتكار الذي تحميه الحكومات من المنافسة الداخلية أو الدولية. وسنضرب أمثلة على زيادة المنافسة، التي ألحقت أضراراً ملموسة بالجميع. ولنبدأ بصناعة الطيران المدني الأميركية. فبعيد تولي الرئيس كارتر الرئاسة الأميركية، فُتحت أبواب المنافسة، لكل من أراد تقديم الخدمة بالطريقة التي يراها، والأسعار التي يفضلها. فماذا حدث؟ في البدء انخفضت الأسعار المعلنة. وتدريجاً، ساءت الخدمة، إلى أن بلغت مستوى غير مسبوق من السوء. فازدحمت المطارات، وأفلست شركات كبرى، لها تجربة طويلة في الصيانة والتدريب، وبقيت مكونات خدمة أفضل. غير أن الأسعار الحقيقية ارتفعت، إذا أخذنا في الاعتبار ازدحام المطارات، وضيق المقاعد، وتدني مستوى الخدمة العامة، حتى كاد يتفق كل متابع متمعن، أن الأسعار الحقيقية التي يدفعها المسافر منذ أن يغادر منزله أو مكتبه، إلى أن يعود، أكثر بكثير مما كانت عليه قبل استحداث التنظيمات التي فتحت باب المنافسة للجميع حتى صارت التكاليف الحقيقية الكلية للمسافرين أجمع، وفي العالم قاطبة، أكثر بكثير مما كانت عليه في أواخر الستينات والسبعينات من القرن الماضي. صحيح أن الأسعار «الاسمية» أو ثمن بطاقة الحصول على مقعد، انخفضت كثيراً كما كان يبدو ظاهرياً للمسافر. لكن نوعية الخدمة التي تقدمها شركات الطيران للمسافرين من بوابة السفر إلى بوابة الوصول، وما بينهما في الطائرة سواءً كانت على الأرض أم في السماء، ساءت تدريجاً حتى وصلت درجة السوء إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه. وتدريجاً فقد مئات الآلاف مصدر قوتهم اليومي، وانخفضت أجور من استطاع البقاء. وامتدت في ما بعد حمى المنافسة إلى أوروبا، فحدث فيها ما حدث في أميركا. ولم يبقَ اليوم أكثر من بضعة شركات طيران في العالم كافة، التي تقدم خدمة جيدة أو لا يقل مستواها كثيراً عما كانت عليه في الستينات. أي أن المنافسة، بحد ذاتها، لا تضمن انخفاض الأسعار الحقيقية، التي يدفعها عامة المستهلكين عندما يتطلب الأمر معرفة شبه مهنية لنوعية السلعة أو الخدمة ومستواها، وما يترتب على ذلك من دفع تكاليف المعلومات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (تكاليف الإلمام بها ومتابعتها)، التي لا يعرفها ولا يستطيع متابعة آخر تطوراتها إلا المتخصصون. ومثال آخر، ففي بلد ضخم جداً كالصين، لا يقدم خدمة ما يسميه السعوديون «الهاتف الجوال» أو الموبايل إلا ثلاث شركات. وفي المقابل، في مدينة كهونغ كونغ التي يسري فيها نظام تجاري آخر، موروث من بريطانيا، تقدم الخدمة ست شركات. فلاحظ المتابعون ارتفاع مستوى الخدمة في الصين، وتدنيها في هونغ كونغ. كما ارتفعت نسبة إسهام قطاع الاتصالات في زيادة الدخل الوطني- الذي تفيد زيادته الجميع- في الصين، وانخفضت نسبة إسهام زيادته في هونغ كونغ. والمنافسة الكاملة، أو القريب منها، أي ضخامة عدد البائعين والمشترين، التي كانت وما زالت، تُدرّسْ في فصول نظرية «الأثمان»، لها أسباب، تعود بالدرجة الأولى إلى تسهيل توظيف الرياضيات في التنظير العلمي، وإلى محاولة تيسير الفهم للمبتدئين. وتعود أيضاً إلى طبيعة أهم ما كان يباع ويشترى في القرن الثامن والتاسع عشر كالمحصولات الغذائية، غير المصنعة والمعلبة، ولا المضاف إليها من وسائل الحفظ والتلوين التي لها الكثير من الأضرار، والقليل من المنافع، كما صار يحدث غالباً الآن. فغاب تساوي المعلومة بين البائع والمشتري، أياً كان عدد البائعين وعدد المشترين. إن المنافسة «الكاملة» كما جاءت في كتب النظرية الاقتصادية تفقد معناها الاقتصادي إذا كان البائع يعرف أكثر من المشتري عن السلعة أو الخدمة التي تباع وتشترى. والعكس صحيح، إذا عرف المشتري أكثر من البائع، وهو ما يحدث أحياناً، فإن معنى المنافسة أيضاً يفقد معناه الاقتصادي. واتضح اليوم أن من أهم أسباب تناقص أهمية المنافسة، بحد ذاتها، في رفع الكفاءة الاقتصادية، تسارع التقدم التقني المصحوب بزيادة تعقيدات معرفة الأسس التي بموجبها قد يستطيع المستهلك المفاضلة بين أغلب السلع والخدمات التي يشتريها، على خلاف ما كانت عليه سهولة المفاضلة، قبل بضعة عقود. * أكاديمي سعودي