اختارت المخرجة المسرحية الفرنسية كاترين شاوب، ملحمة"جلجامش"، لتكون مدار بحث وتنقيب مسرحي، بمشاركة ممثلين سوريين، كانوا تابعوا أكثر من ورشة عمل في فضاء"مسرح الشمس"الفرنسي الذي تشرف عليه أريان نوشكين وهكذا بعد تمارين متواصلة، استمرت شهراً كاملاً في محترف المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، بدعم من المفوضية الأوروبية. وانتهى هذا المقترح إلى عرض ارتجالي، قدمته الفرقة الشابة على خشبة مسرح دار الأوبرا في دمشق أخيراً. أربع ممثلات، وأربعة ممثلين، افترشوا الأرض داخل دائرة وهمية، بغية التنقيب عن مدخل مسرحي إلى أول نص أدبي مكتوب، قبل خمسة آلاف عام باللغة البابلية، بتأثير من أطياف هذه الأسطورة المحكمة، وتجلياتها الشعرية، وليس بصدد استعادتها كما هي، إنما كمقترح سردي قابل للتفكيك والتدوين بطريقة مبتكرة، من دون إهمال جوانب اللعب المسرحي على شخصيات متناوبة في الحضور والغياب. فالنص هنا هو مجرد مادة أولية غير مكتملة أصلاً، ما دام يخضع للارتجال، وملء الفراغات، الأمر الذي يفتح العمل على احتمالات متعددة، في فضاء مكشوف، وكواليس مفتوحة، تضيء آلية الشغل المسرحي ومراحل تطوره، جرياً على أسلوبية"مسرح الشمس"ولعبته القائمة على التأليف الجماعي، بكل ما فيه من ارتجالات آنية، تتيح للممثلين اختبار مقدراتهم الصوتية والحركية، بحضور المخرجة، انطلاقاً من أشكال مسرحية تقليدية. وفي هذا العرض، اشتغلت كاترين شاوب على معطيات الرقص الهندي"الكاتاكالي"كتقنية إضافية لشحن شعرية النص من جهة، واختبار أجساد الممثلين في التماهي مع روحانية النص وتعرجاته الميثولوجية من جهة أخرى. وتوضح كاترين شاوب هذا الاتجاه بقولها"إن معرفة الأشكال المسرحية التقليدية، تساعد الممثل كثيراً على أن يمثل النصوص الملحمية والتراجيدية القديمة ويجسدها، واكتشاف إيقاع الجسد وصوته وشكله، في سكونه وثباته وتعبيراته الروحية". يتمثل العرض مغامرة"جلجامش"و"انكيدو"في بحثهما عن عشبة الخلود، كفكرة وخط مواز لتقصي شكل المغامرة المسرحية، وتحولاتها في تشكيل بنية عرض. وهو يشتغل على الحواس بالدرجة الأولى، فتبدأ المغامرة باختبار الصوت والإنشاد كنسخة أولية، بصوت المغنية الأوبرالية نعمى عمران، قبل أن تدخل المغامرة فضاء الإيماء والرقص، وتدوين بعض مراحل الرحلة بصرياً، بترجمة فراس سواح للملحمة، خصوصاً بما يتعلق بترويض جسد"انكيدو"حين يلتقي امرأة الغابة التي تغويه كي يقطف ثمارها، فيتحول من وحش بري إلى إنسان، وإغواء عشتار لجلجامش، وموت أنكيدو، على خلفية الأداء الجسدي الذي سعى العرض إلى تأكيده، أكثر من اشتغاله على البعد التراجيدي للنص البابلي القديم. فالمفتاح الأساس للعرض، يذهب في اتجاه التنقيب والحفر لصوغ بؤرة درامية وموسيقية، تتبلور من طريق فحص إمكان الممثل في اختراق الأطر الصارمة والكلاسيكية للنصوص الملحمية، وتفتيت وحدتها العضوية، إلى وحدات متجاورة، تسمح بتجربة أكثر من أسلوب في التناول والإنصات إلى أصدائه، بالنسبة الى الورشة أولاً، ورد فعل المتلقي ثانياً بصفته شريكاً افتراضياً. وبعد حضور الرقص الهندي"الكاتاكالي"كطبقة أساسية في العرض، يعبر أسلوب الحكواتي تارة، والزفة الشعبية تارة أخرى، تبعاً لارتجالات الممثلين وطواعية أدواتهم في مقاربة البؤرة السردية، إضافة إلى شرح الفكرة بصوت عال ومحاولة تجسيدها على الخشبة، والسعي الى مشاركة المتلقي في قبولها أو رفضها، ومن ثم توحيد الرؤية الإخراجية. وهو الأسلوب الذي ميز شغل فرقة"مسرح الشمس"، سواء عبر إلغاء المركزية ديكتاتورية المخرج، أم الفضاء العاري الذي يتأثث تدريجاً على مدار العرض، بديكورات بسيطة، تستعمل لأغراض متعددة. نص جلجامش بكل ثقله الأسطوري والمعرفي، لم يكن هنا أكثر من ذريعة اذاً، أو مادة خام، سواء في ما يخص الإلقاء، أو تجسيد الشخصيات، إذ لم يتمكن الممثلون من مقاربة تراجيدية النص وجمالياته الشعرية العالية. وقد ذهب بعضهم نحو الكوميديا ديللارتي، في غير مكانها، ربما من أجل تفكيك صرامة النص، أو عدم القدرة على الغوص في أعماقه التراجيدية والبصرية. على ان ما يشفع لهذا النوع من اللعب، هو أن العمل لا يخرج عن نطاق البحث والتجريب واكتشاف مناهج مسرحية مغايرة، تسعى إلى كتابة عمل غير مكتمل من طريق المحو وإعادة الكتابة باستمرار، مما يتيح أمام"الورشة"نهايات مفتوحة على الدوام، أو كما تقول كاترين شاوب"تنقيبات مباشرة مع مكتشفات جديدة كل مساء.