يشبّه المخرج المسرحي البريطاني بيتر بروك في كتابه "أربعون عاماً من استكشاف المسرح" نص شكسبير المسرحي بأكوام من الفحم تحت الأرض، ويقول: "انه مثل قطعة من الفحم، والمرء يعرف العملية كلها عن الغابة البدائية التي أصبحت في جوف الأرض، وبوسعه أن يتقصى تاريخ الفحم، لكن المعنى الكامل لقطعة الفحم عندنا يبدأ وينتهي لحظة أن تشتعل واهبة ايانا ما تريد من ضوء ودفء. وهذا عندي هو شكسبير. قطعة فحم خامدة. وانني استطيع أن أكتب الكتب وألقي المحاضرات حول مصادر الفحم، لكنني سأكون معنياً حقاً بقطعة الفحم في امسية باردة حين أريد أن أتدفأ، سأضعها في النار لتصبح هي ذاتها وتحيا فاعليتها، من جديد". كتب بروك هذه الكلمات في الكتاب المذكور الذي جمع فيه أفكاره حول عناصر العرض المسرحي ومسرح الثقافات من خلال رحلاته في العالم في نهاية ثمانينات القرن المنصرم، وكان الكتاب بالتالي قراءة أوتوبيوغرافية لحلم مسرح كوني يحمل في داخله ثقافات العالم. من جانب آخر أكد بروك في "النقطة المتحولة" أو "أربعون عاماً من استكشاف المسرح" على مشروع نقدي بدأه بتشريح نصوص شكسبير داخل المسارح الأنكليزية في أربعينات قرن العشرين. ففي كتابه الأول "الفضاء الخالي" الذي كتبه في بداية الستينات أسس هذا المخرج الراديكالي على جميع الأطر المسرحية المألوفة في أوروبا مقدمات ضرورية للعرض المسرحي بصفته فضاء للتجريب والإبتكار المستمرين في حياة المخرج والممثل والجمهور ايضاً. وبرز النص الشكسبيري لديه منذ البداية كنظام متكامل من الرموز والشفرات، يمكن العمل عليه وفق رؤىً متعددة. يتجسد حضور بيتر بروك في الأوساط المسرحية العالمية منذ العقد الرابع من القرن العشرين من خلال مشروعه التجريبي الذي بدأ بمسرحيات شكسبير وامتد إلى التصوف الفارسي وثقافات الشعوب الهندية والأفريقية. وبدأ بمشروعه القلق داخل وسط ثقافي محافظ أراد الحفاظ على "أتيكيت" المسرح والأوبرا في انكلترا، ولهذا السبب ذاته ترك العمل في الأوبرا ولم يرحب النقاد وقتئذ بأعماله الأوبرالية التي هدم فيها كلاسيكيات هذا الفن وأخضعها للتجريب المسرحي. يحاول الناقد والمخرج المسرحي الكردي دانا رؤوف في كتاب صدر في العاصمة السويدية استوكهولم ومدينة السليمانية في كردستان العراق بعنوان: "بيتر بروك في المسرح العالمي المعاصر"، الولوج إلى عوالم بروك وأوتوبيوغرافيا مسرح الثقافات الذي اسسه في باريس بتعاون مع ميشيلين روزان عام 1970 واسماه المركز العالمي للبحث المسرحي. وسبق أن كتب دانا رؤوف في أواسط الثمانينات سلسلة من المقالات عن بروك لكن ندرة المصادر باللغة العربية والكردية عن هذا المخرج لم تساعده على إدامة مشروعه وتركه للأيام. بعد مرور عقدين من الزمن على تلك المقالات عن فن الإخراج لدى بروك وعروضه المسرحية، يعود وينجز الكاتب كتاباً قيماً عن مسرح الثقافات متناولاً فيه مسيرة التجريب ومستوياته الفكرية والجمالية التي اعتمدها بروك في تأسيس فكرة عرض مسرحي متحول، يصل مخرجه وممثلوه إلى قرى أفريقية وهندية وشرقية وتمتزج فيه ثقافات الشعوب. ويدخل إلى مختبر افكار بروك ومحاولاته المستمرة لصناعة الأوطان على الخشبة، ولقاء خفايا ذات البشرية بأطيافها المتنوعة والموزعة بين الجغرافيا واللون والعرق واللغة وطقوس الجسد. مختبر أي محاولة عن مختبر مسرح الثقافات تتطلب التعرف الى ثقافة مؤسسه بالدرجة الأولى وعلى البيئات التي عاش فيها وتأثر بها. ورؤية كهذه تدفع ب"دانا رؤوف" للتطرق إلى تلك البيئات المسرحية والنقدية التي كونت رؤية بروك الإبداعية وأخرجته من الأوساط الشكسبيرية المحافظة في إنكلترا. فبعدما يقرأ تحليلات الناقد البولندي الشهير "يان كوت" لنصوص شكسبير ويكتشف من خلالها الخلفيات البسيكولوجية لأبطال تراجيديا هملت والملك لير وحلم منتصف ليلة صيف وبقية التراجيديات تتجه رؤيته نحو أُفق أوسع لكل شخصية من هذه الأبطال التاريخية - التراجيدية وتصل إلى الفحم المتراكم تحت الأرض. وتأثر بروك أيضاً بكل من أنطونين آرتو مؤسس مسرح القسوة والكاتب الطليعي صموئيل بيكت ولويجي برانديلو وبرتولد بريخت وبيتر فايس واستثمر رؤاهم الفكرية والفنية في مسرحه. كان خروج بروك من الوسط الشكسبيري المحافظ في إنكلترا والتوجه نحو رموز أوروبا القلقة في الأدب والثقافة والمسرح محطة مهمة في حياته، فتح بذلك باب السؤال عن مسرح إنساني ينتمي لأقاليم متدفقة بالحياة والجمال في العالم، لكنها منسية ومتروكة وتحتاج كما مسرحيات شكسبير إلى قراءات دافئة وإنسانية كي تشتعل وتنير الرؤى. تحت تأثير تيارات مسرح العبث والقسوة والملحمي والوثائقي التي أنتجتها ثقافة أوروبا القلقة استطاع بيتر بروك الوصول إلى ضفاف الأطراف الأُخرى من الثقافة الإنسانية وهي الشرق وآسيا وافريقيا، اكتشف فيها أساليب جديدة للحياة والإتصال البشري. ساعده الخروج ذاته من ثقافة الأتيكيت المسرحي على اكتشاف أنساق مختلفة من التفكير الإنساني وتحويله بالتالي إلى عروض مسرحية. ولعل بروك كان مستكشفاً للمسرح من خلال تلك المساحات الميتولوجية والرمزية التي تعرف اليها في كل من إيران وأفريقيا والهند. فمن خلال رحلاته مع مجموعة من الممثلين والصحافيين اكتشف في أفريقيا مثلاً ان لدى الأفارقة القدرة على الحركة والإيقاع واستخدام الجسد على نحو مدهش، ولا نذهب بعيداً إذا قلنا ان اختياره لشخصية "هملت" ووضعه على الخشبة أمام حال تأمل جسدية في عقدته الثأرية كان نتاج اكتشاف المهارة الجسدية لدى الأفارقة. وكان "هملت" أسود في ذلك العمل الذي قدمه تحت عنوان "من هناك" عام 2001. أما في كل من آسيا والشرق فعمل على مجالات آخرى من مكامن الخيال الإنساني ودخل إلى عمق الفكر الميتولوجي بحثاً عن مصائر الإنسان فيه، ووضع بروك قصصاً واساطير كثيرة من الخيال الشرقي والهندي على الخشبة وفي البيئات الأصلية لتلك القصص والأساطير. وكانت "مهابهارتا" الهندية و"أوغاست" و"منطق الطير" الإيرانيين نتاج بحوثه التجريبية في تأسيس فضاء العرض المسرحي المتحول. يشدد دانا رؤوف في بحثه على حلم إبداعي يراود بروك منذ دخوله عوالم شكسبير السحرية وهو كوننة العرض المسرحي من خلال البيئات الأصلية للنصوص والأفكار والمتخيلات الانسانية في ثقافات الشعوب.