خرج الدكتور حسن الترابي من سجن العسكريين الحاكمين في السودان، من تلامذته ومريديه السابقين، قبل عشرة أيام. ومنذ ذلك الحين حقق انجازات عدة!: قوله ان الذي أخرجه من السجن جون قرنق وإصراره، وليس البشير وأنصاره. وقوله إن الصادق المهدي زعيم الأنصار، ومحمد ابراهيم نقد زعيم الحزب الشيوعي السوداني، وافقا على التعاون معه في فرض الديموقراطية! وقوله أخيراً ان الدستور السوداني الجديد ذهبت منه طعمةُ الاسلام ورائحته، وأن النظام الحالي في السودان نظام ديكتاتوري. أما قوله الأول، والذي ينمّ عن انعدام ثقة كامل بتلامذته ومريديه السابقين بحيث أحسن الظن بصديقه الجديد قرنق، فلست أدري ماذا أقول فيه، إذ هو أعلم مني بنفسه وبتلامذته، وهؤلاء لا يُستبعد عليهم شيء حتى إطلاق سراح الترابي كما سجنوه، فقد تعددت تقلباتهم في السنوات الست الأخيرة، بحيث ما عاد المراقب مستطيعاً التنبؤ بشيء ولا واثقاً من شيء إلا من إخلاصهم في الحفاظ على مصالحهم، أي على بقائهم في السلطة، أياً يكن حجم تلك السلطة وطعمها. وإنما اللافت في هذا الخضمّ تنافُس الترابي والبشير - وهما عدوان الآن - على إرضاء جون قرنق، الذي قاتلاه منذ العام 1990 وحتى العام 2001. بل إنهما علّلا قيامهما بالانقلاب على الديموقراطية بعدم رضاهما عن حل المهدي والميرغني لمشكلة جنوب السودان، التي أرادوا حلها بالقوة العسكرية طوال أكثر من عشر سنوات. ثم وجدناهما يتسابقان على الاتفاق مع قرنق، بعد أن قُتل عشرات الألوف بل مئات الألوف في الحرب التي سعّروها من دون أن يقصّر قرنق من جهته في ارتكاب المذابح، وفي تجنيد الأطفال في القتال، وفي قتل خصومه من الجنوبيين وتهجير قبائلهم! وقد كان الذنب الأول للترابي عندهم انه مضى من وراء ظهورهم الى لندن فالتقى بقرنق ووقع وثيقة معه باعتباره زعيم الحزب الحاكم! وتوالت التداعيات بعد ذلك الى أن وجد نفسه في الاعتقال ثم في الإقامة الجبرية ثم في السجن... ثم متهماً بالتآمر في دارفور... ثم لإسقاط نظام الحكم... الخ. وهكذا فخروجه من السجن الآن أيضاً فعلاً على تقلبات الحاكمين، لكنه دليل أيضاً على قدرته العجيبة في العودة الى الحياة والفاعلية، كلما ظننا جميعاً أنه انتهى هذه المرة... وقد صارت المرة مراراً ومراراً والحبل على الجرار، كما يقول اللبنانيون. والأعجب من خروجه من السجن، ادعاؤه قبول المهدي ونقد التعاون معه. فقد تآمر عليهما وعلى الميرغني ثلاث مرات على الاقل، من أجل نقلهم من الحياة الحرة والكريمة - أو من السلطة - الى السجن، إن لم يكن القتل. والذي أراه أن هؤلاء لن يتعاونوا معه وإن كانوا أيدوا خروجه من السجن، إذ عانوا منه الكثير، وهم يعرفون حُبّه المرضي للسلطة بأي طريق جاءت. ولذلك فهناك احتمال بأن يُقنع البشير بإعلان دولة الخلافة أو إمارة المؤمنين، كما سبق له أن فعل مع النميري، ومع البشير نفسه في مطلع التسعينات! ويبقى الأمر في نطاق الاحتمال بالنسبة الى المسألتين الأوليين: كيف خرج من السجن ومن أخرجه، وتعاونه أو إمكانه مع المهدي ونقد والميرغني. بيد أن الأمرين اللذين لا احتمال فيهما اعتباره الحكم السوداني ديكتاتورياً، واعتباره الدستور السوداني الجديد خالياً من الإسلام. إذ ينسى مسؤوليته هو بالدرجة الأولى عن هذين الأمرين، وهو لم يعلن في ذلك مراجعة ولا توبة. فإذا كان الحكم الحالي في السودان ديكتاتورياً فهو الذي أسس له، عندما طلب من تنظيمه في الجيش الانقلاب على الحكومة المنتخبة عام 1989، ثم قاد هو بنفسه كل برامج الحكم الداخلية والخارجية، ووصل به الأمر الى اعتبار كل الأنظمة الديموقراطية في العالم ديكتاتورية وامبريالية ومنافقة، إلا أولئك الفتية الذين زارهم هو هدى في السودان، إذ هم النظام الشوروي الوحيد، الذي"يجاهد"لتحرير جنوب البلاد من العصابات، ثم انه الحكم الوحيد الشرعي في العالم تقريباً لأنه يطبق الشريعة! وهذه الأسلحة الخاصة بالترابي وحده، هي التي جعلت كل السودانيين غير المسلمين، ونصف السودانيين المسلمين يتمردون وينقسمون ويتشرذمون، ويلجأون الى المنافي في مصر وبريطانيا وأريتريا وأثيوبيا. وما كان ذلك إسلاماً طبعاً، بل استيلاء على السلطة باسم الاسلام، تماماً كما مدّ يده للنميري في سنواته الأخيرة، وأعلنه أميراً للمؤمنين، وما أكل السودانيون المعذبون من وراء ذلك ولا شربوا، بل فوجئوا بإعدام محمود محمد طه بحجة الزندقة والإلحاد! فكانت تلك الواقعة أولى نتائج حماسيات الترابي الإسلامية. وقد ارتكب إسلاميو الاخوان وغيرهم كل الاخطاء والخطايا الممكنة وغير الممكنة، إلا خطيئة واحدة تفرد بها الترابي الذي انشق عنهم منذ السبعينات: التعاون مع العسكريين، بزعم اتخاذهم أداة لإقامة الدولة الاسلامية! والحقيقة انه ما كان ليطمح بالوصول الى السلطة من طريق الانتخابات، لأن حزبه حزب أقلية، ولذلك فقد أراد الوصول بالقوة العسكرية، بسبب الهيام بالسلطة والأمجاد، لا لأنه كان يرى فعلاً أن الإسلام مهدد في المجتمع أو الدولة في السودان، أو انه يمكن إقامة الدولة الإسلامية المنشودة من طريق النميري أو البشير. أما إسلامية الدستور السوداني، والتي يعتبر انها زالت، فقد وقعت في أصل البلاء، ولا تزال كذلك حتى اليوم. فقد أراد الترابي وعسكريوه في فورة حماستهم أن تسود الشريعة في السودان، بحجة أنها غير مطبقة، وأن هوية الدولة والمجتمع مهددتان. ولذلك فقد صار من حق غير المسلمين المطالبة بالاستقلال حيثما يستطيعون، أو إقامة كونفيديرالية واسعة في السودان تتنوع قوانينها وأنظمتها بحسب التنوع والتعدد الديني والإثني الموجود. والفكرتان مشكلتان كبيرتان، وتوشكان وهذه المرة بدعم الولاياتالمتحدة أن تدمرا بلداناً عربية وإسلامية عدة، ما تزعزعت وحدتها الوطنية إلا في عصر الإحيائية الاسلامية، والهوية الخاصة، ودعاوى تطبيق الشريعة. فدستور الترابي الإسلامي، وممارسات نظام الحكم الشوروي! الذي أقامه، أججت الصراع في الجنوب، والآن في الشرق والغرب، كما شردت تلك الممارسات كل القوى السياسية السودانية، التي ما كان هناك شك في إسلاميتها، بل إن ذنبها الوحيد، انها كانت تحصل على الأكثرية في الانتخابات الحرة! والذي أراه أن الشريعة كانت حجة للترابي كما لقرنق. للترابي لكي يسيطر على الدولة والمجتمع باسم الدين. ولقرنق لكي يقاتل المركز باسم العلمانية والديموقراطية وحق تقرير المصير ومكافحة التمييز الديني والإثني! ولذلك فقرنق هو الشريك الحقيقي للترابي من قبل ومن بعد. لقد قرأت كتاب ومطالعات الترابي الأخيرة، وليست فيها بصائر جديدة في إدارة الشأن العام. إنما المقصود الحضور من جديد، والدخول في الصراع مع النظام، وإثبات الوجود، مهما كلف الأمر. ولست أرى أن الترابي أو البشير وأتباعهما لهم مستقبل في السودان الموحد أو المنقسم. أما الديموقراطية والإسلام، فإن الترابي بالتأكيد ليس بطلاً لهما. وما كان أغنانا عن حكم الجبهة القومية والترابي والبشير، بحيث يبقى السودان بلداً يمكن سائر بنيه العيش فيه، وبحيث تبقى مشكلاته قابلة للحل!